بمناسبة صدور ديوان الشاعرة د./ ليليان دبي ndash; جوري
quot;على الأنهار وعلى البحارquot;
شموئيل (سامي) موريه: يثير صدور ديوان quot;على الأنهار وعلى البحارquot; عن دار quot;كرملquot; (أورشليم - القدس، 2007، في 120 ص) باللغة العبرية للشاعرة والباحثة في الأدب العبري الحديث، د./ ليليان دبي ndash; جوري تساؤلات حول شعر الحنين إلى العراق الذي يكتبه شعراءيهود هاجروا إلى إسرائيل، وهل هناك فارق بين هذا الشعر الذي يكتب باللغة العربية والآخر الذي يكتب باللغة العبرية لشعراء اصغر سنا انهوا دراستهم الثانوية في مدارس عبرية؟ فالشعراء الذين تلقوا ثقافتهم في المدارس العراقية كتبوا شعرا ونثرا يتميزان بالتدفق العاطفي والحساسية الصوفية والهروب إلى براءة الطفولة وإلى وطن روحي ضائع، أما الذين تلقوا تعليمهم باللغة العبرية بعد هجرتهم فنلاحظ أن التفكير العلماني والمنطقي عندهم يكبح جماح العاطفة في شعرهم ومع ذلك فما زالوا يحنون إلى براءة الطفولة وإلى الإيمان الديني الذي فقدوه، والى النكهة الشرقية في طفولتهم أو مما رواه لهم آباؤهم، فيصورونها على أنها جزء من تراثهم الحي، غير أن القاسم المشترك بين الجميع هو المرارة المتعلقة بذكريات quot;الفرهودquot; عند الجميع. ومعظم هؤلاء الشعراء والأدباء حين يتناولون quot;الفرهودquot; يعترفون بالجميل الذي صنعه معهم جيرانهم المسلمون الذين حاموا عرضهم وحياتهم ومالهم، والقليل منهم من يصف الأحداث الفظيعة ألتي شاهدوها أو سمعوا عنها، وذكرياتهم عن العراق هي ذكريات تشوبها رنة التظلم والمرارة، ومن هؤلاء الشاعر سالم الكاتب (شالوم كتاب) الذي انتقل من الكتابة باللغة العربية بعد نشره لديوان quot;مواكب الحرمان في بيروت (1949)، ووشوشات الفجر (تل- أبيب (1959)، إلى اللغة العبرية ونشره لعدة دواوين بها، تحدث فيها بأسى عن ماضيه في العراق وطفولته الضائعة وحاضره في إسرائيل، ومذكرات ابنير (يعقوب) يارون باللغة العبرية في ثلاثة مجلدا وهي مغرقة في العاطفية والأسلوب الغنائي، عن بغداد وانجازات الطائفة اليهودية فيه والشعور بالظلم والحيف الذي حاق بها ما أدى إلى الهجرة الجماعية عام 1951.
بدأ الوعي بالهوة العميقة بين الحضارتين الشرقية والغربية عند بدأ الصدام بين الإمبراطورية العثمانية حامية الإسلام السني والدول الاستعمارية الأوروبية، ورأى المسلمون فيه صراعا بين الأديان والحضارات، وتجديدا للحروب الصليبية بين الشرق والغرب في القرن الثامن عشر الميلادي. وقد أجمل السلطان العثماني سليم الثالث (1789-1807) في صراعه مع الأفكار العلمانية التي حملها نابليون إلى مصر وسوريا، ماهية الفروق بين الحضارة الإسلامية ومبادئ الثورة الفرنسية العلمانية التي دعت إلى quot;الحرية والعدالة والمساواةquot;، والتي حاول نابليون غرسها في مصر بقول السلطان في فرمانه الذي أرسله إلى مصر والبلدان الناطقة باللغة العربية ليثيرها للجهاد ضد جيش نابليون المحتل، منمقا إياه بأسلوب السجع الذي يعلق بالأذهان وبالقلوب معا، مؤكدا الإيمان الديني:
quot;فاعلموا أن الطائفة الفرنساوية... تركوا جميع الأديان، وأنكروا الآخرة والدّيّان ... ويقولون لا يهلكنا إلا الدهر. وما هي إلا أرحامٌ تدفع، وارض تبلع. وليس وراء ذلك بعث ولا حساب، ولا بحث ولا عقاب quot;.
وقامت مدراس الأليانس الفرنسية بغرس ثالوث مبادئ الثورة الفرنسية في البلاد العربية في نفوس النشء الجديد الذي درس فيها. وهذا الفارق واضح في أدب الحنين إلى العراق الذي يكتبه الكتاب والشعراء من يهود العراق باللغة العربية وخاصة أدب أسحق بار- موشيه وسمير نقاش وكاتب هذه السطور، وحنينهم هو حنين روحي صوفي عاطفي وهروب إلى عالم الطفولة. أما الأدباء اليهود الذين يكتبون أدب الحنين إلى العراق باللغة العبرية، والذي يتميز بسيطرة المنطق والعقل والأحداث التاريخية على العاطفة والوجدان وغنائية الأسلوب فهم من كتاب اليسار من أمثال سامي ميخائيل وشمعون بلاص وإيلي عمير وفي الشعر العبري الذي تكتبه الشاعرات د. ليليان دبي- جوري وأميرة هيس ويعره بن دافيد والشعراء: التوأمان هرتزل وبلفور حكاك اللذان ترأسا بالتوالي وإلى اليوم رابطة الكتاب العبريين في إسرائيل، وروني سوميك وشلومو شبيرا، وغيرهم.
ولدت الشاعرة ليليان في بغداد لعائلة دبي البغدادية المعروفة وكان والدها من أطباء بغداد المعروفين في الأربعينات من القرن الماضي. وبعد هجرتها (1951) وهي في التاسعة من العمر، درست الأدبين العبري والعربي ونشرت عدة كتب ومقالات باللغة العبرية عن الشعر العبري الحديث، وحاضرت عنه في جامعات أوروبية وإسرائيلية مختلفة، ثم تفرغت لدراسة الأدب العربي الذي كتبه أدباء من يهود العراق وخاصة أدب القصاص يعقوب بلبول الذي حرر quot;مجلة غرفة تجارة بغدادquot;، خلفا لأستاذ الشاعر مير بصري، وأدب الكاتب الراحل سمير نقاش. وقد أهدت ديوانها الجديد quot;على الأنهار وعلى البحارquot;، إلى أنهار طفولتها: quot;على أنهار طفولتي، ذكرى لبابلquot;. ويضم هذا الديوان قصائد حنين إلى طفولتها وإلى أنهار العراق حين كانت قريبة من الله، ثم تتحدث عن صباها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط والملح يغطي شفتيها بتساؤلات حائرة بعد أن فقدت براءة الطفولة وسذاجتها، ثم تروي مشاعرها في مرحلة كهولتها وخوفها من الهرم والموت وهي ممزقة بين حنينها إلى العراق وحياتها في إسرائيل. وقد استطاعت الشاعرة كبح جماح الخيال والتدفق العاطفي الذي يميز شعر الحنين عامة بثقافتها العلمانية الحديثة. تقول الشاعرة عن هذه القصائد:
أقلب أوراق مجلدات حياتي
من رفّ إلى رفّ
لأنَسّق نفسي
لألملم أجزائي
فعما قليل، سيضمني الغد
إلى كنوزه!
وحنينها إلى العراق منصب على أنهارها، إلى دجلة والفرات الساحرين، إلى سذاجة الطفولة وإلى الشعور الدافق ببراءة الطفولة و شوقها لتجلي الله وحنانه، ولكنها عندما تخوض مياه البحر على شاطئ البحر الأبيض المتوسط تتأمل الرمال متفحصة إياها، فإنها تعود خالية الوفاض:
(1)
وُلدتُ في وادي الرافدين
وقطفتُ في بساتينه
نرجسا وياسمينا
والآن أمام البحر
يكسو الملح شفتيّ اليابستين
أطأ الرمال بقدمي الحافيتين
أشق الأمواج بجرأة
فعن شمالي ويميني
ضفاف تلك الأنهار
التي ترافقني دائما
بمياهها العذبة الفرات.
(2)
أساق على أجنحة حوريات لا حصر لها
وقامتي تبدو كقامة قزم خرافي
وشوشات تتهامس حولي
أسمعها، كغابات نخيل لا نهاية لها
تناطح السحاب أعاليها
وقاعا دجلة والفرات
يمتدان إلى ما وراء الأفق البعيد.
استطيع السير دون أن أبدي حراكا
وبدون حركة أستطيع التحرك
وحتى في مكان وقوفي، أقطع كل مسافة
وأبلغ نهاية السبيل وقمم الأشجار
فقد غرست في المكان، في جميع الأزمان
كأني في حلم
أقطع المسافات والأزمان
دون أن أتحرك من المكان
ويمكنني أن أمدّ إلى الله يدي
لأحسّ بيده تأخذ بيدي
أكلمه بدون كلمات، حديثا طويلا، طويلا
أتجه بوجهي إلى الفرات القريب
وأتضاحك معه وأنطلق راقصة، قافزة
على قدميّ وعلى قدميه، واستلقي
على الأرض، أتحسس
نداوتها وبرودتها
وبنظرة مرحة أتطلع إلى خنفساء
وألوي رأسي إلى السماء
وأقوم بدون عناء
لأرقى الدرجات
وارقص باتجاه مائدة فطور الوالدين
وبابتسامة يسألون عن زهرة في الحديقة
لكنهم لا يرون تيارا من الزهور يسبح ورائي
وكعادتي جلست وحيدة،
أذوب حنيناّ للعودة إلى الحديقة!
لكي ألهو وأبلغ أقصاها،
والى اليوم لا أدري أين حدود
البداية والنهاية، وهل كانت أبدا هناك!
لعل الحديقة كلها سحر خلب
وحوض الياسمين والنرجس
زورق يسري بين هنا والاّ يقين
إلى المجهول من الخيال!
اختفت الخنفساء
ويدي التي تدعم خدي
ما تزال دافئة من لمسة يد جبارة.

(3)
تجلـّي
عندما مددتُ يدي ndash; لمن؟
ظننت آنذاك إلى الله!
أخذوني للنزهة في بساتين
في ضفاف نهر تتلوى.
أمسكْ بيدي جيدا
كي لا تفلتْ.
سباق الطفلة المرح
كي لا تسحرها المياه (مياه الموت؟)
أو مياه ما قبل الكينونة.

(4)
ختام الرواية (ابيلوج)
بلاد الرافدين
كلها حنين إلى ألحاني الصامتة
آذانها غربال
من أذان المؤذنين
مناظرها بظلمة الحجاب
سكانها يترنحون بزخارفها
يتمنون رفس الشعوب
غير أن سبلنا افترقت
كما تفارق الروح الجسد
لمواصلة المسيرة.
(5)
مدينة الفصام
أورشليم تمزق نفسي بفصام
أتنزه في شوارعها كأنها ملكي
ولكن مناظرها غريبة.
تهوى ارتداء ثياب
من فراء الثلج
متدثرة بألوان
تلمع في الصخور
في خبايا الشجر
هل هي الفؤاد؟ هل هي العقل؟
تخزن الأفكار؟ أم الرحمة؟
(6)
أحب أورشليم،
غريبة والله!
وهل علي أن أهواها؟!
ولعلي اهرب!
فأصل جذوري هو وادي الرافدين
فمناظرها كانت قبل كينونتها
وبها أصبحتْ أورشليم
لؤلؤة مكنونة في أصدافها
وصخرة بداية الخلق.
تشرق بي وتغرب
في لحمي وَشْمُها
مثل ورم خبيث- سليم
تلوي كياني
ولا أدرك صورتي.
ترجمها عن العبرية: شموئيل (سامي) موريه
آذار، 2008