ناظم عودة:صدر عن دار المدى قبل أيام كتاب جديد للناقد العراقي حسن ناظم، حمل عنواناً دالاً: النص والحياة، تناول فيه عدداً من النصوص والظواهر الأدبية على وفق منظور يتحسس التجربة الإنسانية الواقعية كيف تُنقل إلى الأدب/ الفن بطريقة تسمو بالفن والواقعة معاً؟. ثمة انتقاد، وتقبّل، تملّص من رؤية نظرية ضيقة إلى رؤية أكثر اتساعاً. كيف؟ لعل هذه السطور تجيب عن ذلك.

-1-

النقد وثقافة الثمانينيات

حسن ناظم ( الكوفة 1965 - ) أحد النقاد العراقيين الذين كوّنوا الجزء الأساسي من ثقافتهم في الثمانينيات، واستثمرها في التسعينيات لنيل الشهادات الأكاديمية العليا؛ الماجستير والدكتوراه. ومع أنه نزح لطلب العلم في منتصف الثمانينيات إبّان احتدام الحرب مع إيران، من مدينة الكوفة المحاذية لمدينة النجف الزاخرة بالعلم والعلماء، إلى العاصمة بغداد حلم المثقفين العراقيين جميعاً، إلا أنّ السنوات السابقة كانت تزوّده بثقافتها أيضاً. هذه المدينة، النجف، العائمة على كنوز من العلوم الدينية، كانت تصطبغ في شطرها الأعظم بصبغة التفكير التقليدي الذي يحفّز عدداً واسعاً من المثقفين المؤمنين بالثقافة العصرية وعلومها على الاختلاف والمغايرة الثقافية. ومن يمـدّ بصره باتجاه ألوان الثقافة العراقية الأخرى، من جنوبه إلى شماله، ومن شرقه إلى غربه، سوف يظفر بذلك النسيج الثقافي في التلوّن الغريب من نوعه، وذلك الاختلاف في الفكر واللغة والرؤية إلى العالم. هذا النسيج كانت بغداد حاضنته الأمّ، وفي هذه الحاضنة كان ثمة جنين قد نـهل من لبن إثنـيّات متنوعة في التكوين الثقافي، والعرقي، والطائفي، وهو: (ثقافة بغداد). ولا شكّ في أنّ العيش في وسط هذا العباب الزاخر، سوف يخصّب المخيلة، واللغة، والفكر، وينوّع مصادر المعرفة والثقافة. وهكذا كان حسن ناظم، صاحب المزاج الساخر والمتمرّد، يصطفي من هذه الثقافات ثقافة (النقد)، لكي تجعله قادراً على استغلالهما ـ أي السخرية والتمرّد ـ في التفكيك والبناء، وهما من عدّة النقد الأساسية. فهو لم يكن في يوم من الأيام من أرومة ذلك التفكير التقليدي الذي تعمّمت به النجف، إنما كان يختبر مقولات الثقافة الأكثر استيعاباً للجدل المعاصر، فشرع في تخصيب ثقافته بثقافة الحداثة الفكرية والشعرية والنقدية.
لقد كانت ثقافة الثمانينيات، ثقافة تفسير الأنساق خارج عمل التاريخ، أو التفسير على وفق رؤية منطقية محايثة بينها وبين الإنسان وتاريخه حساسية مفرطة وقطيعة كبيرة. والمدهش في ذلك، هو أنّ هذه الثقافة كانت تقطع أشواطاً واسعة في تكريس هذه الرؤية، فيما كان الإنسان وتاريخه يتراجعان إلى خانةٍ نظريةٍ عتيقةٍ، لا تصلح للرؤية المعاصرة، على الرغم من أنّ الذي كان طاغياً في العراق على وجه التحديد هو الصراع بين الإنسان والإنسان الآخر في إطار الحرب الطاحنة بين العراق وإيران. لكن منطق هذه الثقافة السائدة في الثمانينيات أراد قتل منطق الإنسان وتاريخه، ومن ثمّ طرح البديل المعرفي للتفسير، وهو التفسير على وفق فلسفة النسق أو البنية أو النظام. بمعنى آخر؛ أنّ العلم كان يُختـزَل إلى نظام يتمثـّل في اللغة. وشكلّ ذلك ازدواجية في التفكير الثقافي العربي، الغارق في صراعات تاريخية مريرة، تقتضي الإفادة من السياقات المختلفة التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية لتحقيق غاية الوصول إلى الحقيقة. ومع أنّ هذا التفسير واجه معارضة بين عدد من النقاد والمفكرين، إلا أنه قد أغوى عدداً لا بأس به من النقاد والمفكرين واللسانيين نظراً للطابع العلمي والعقلاني الذي طبع الفرضيات البنيوية. وهو ما وجد له مؤيدين في الثقافة العراقية، وعلى وجه الخصوص لدى نقّاد الأدب. وكانت الجامعة العراقية، التي كان حسن ناظم أحد طلابها آنذاك، من المؤسسات العلمية التي قاومت النظريات البنيوية، ووجدت فيها لعباً لا طائل من ورائه، وتعرّض النقاد البنيويون إلى سخرية دائمة من لدن الدارسين الأكاديميين التقليديين الذين ينتسبون إلى الجيل الأول. فهذه الجامعة الغارقة في مقولات انطباعية، تفسّر بها النصوص الأدبية، والغارقة في مقولات المعرفة التاريخية في العلوم الإنسانية، وجدت نفسها على حين غرّة في مواجهة نظريات قلبت نظام المعرفة رأساً على عقب بعد تزايد المناصرين للسانيات سوسير وأفكاره اللغوية. بيد أنّ الثقافة العراقية غير الجامعية، كانت بخلاف ذلك مفتوحة على هذه الأفكار الجديدة، وهو ما أفضى إلى نوع من الصراع الثقافي بالنسبة للطلاب الذين كانوا يتطلعون إلى تناول موضوعات معاصرة، وقد شكّل ذلك عقبة في وجه حسن ناظم لتمرير أطروحتيه للماجستير والدكتوراه، الأولى حول الشعرية، والثانية في الأسلوبية.
ثمة ميزة في النقد العراقي في عقد التسعينيات، ينبغي أن نعترف بأنها شكلت حادثة مهمة في ثقافة الجامعة العراقية التي صمدت عبر عقود من الزمن في وجه الهزات العاتية التي أرادت أن تجعلها عرضة إلى عملية تجديد واسعة في معارفها وعلومها. هذه الحادثة، تمثلت في خلق لحظة مواجهة معرفية فاصلة بين فريق من طلاب الدراسات العليا بمساندة عدد من الأساتذة الأكثر وعياً بضرورة التجديد. ومشروع حسن ناظم النقدي، الذي ينتسب إلى هذا الجيل، يندرج في إطار المحاولات الساعية إلى جعل المثل الأكاديمية أساساً إصلاحياً للنقد العراقي داخل الجامعة وخارجها. كيف ذلك؟ كان النقد في الجامعة عبارة عن محاولات محكومة برؤية فيلولوجية لم تكن بعيدة النظر، في الوقت الذي كان النقد خارج الجامعة عبارة عن إقصاء كامل للمعايير العلمية والموضوعية التي أنتجتها القراءة الجامعية عبر تاريخها المعرفي والثقافي.
في نهاية الثمانينيات، وبداية التسعينيات التي انطلق فيها حسن ناظم ناقداً ومترجماً،لم يكن ممكناً تجاوز العلوم الجديدة التي انتقلت إلى الثقافة العربية بعد أكثر من عقدين من ازدهارها في الغرب؛ أعني بذلك: اللسانيات، ونظرية الأدب، والنظرية النقدية الجديدة، والفلسفة المعاصرة، وعلم الاجتماع المعاصر، ونظريات التحليل النفسي، والسيميوطيقا، والاتجاهات الأسلوبية. هذا يعني، أنّ الأدب المعاصر في العالم أجمع، بات يتحسس الانقلابات المعرفية والثقافية والاجتماعية، وعلاقتها بالتحولات الاقتصادية والسياسية، وبات ينقل هذا التحسّس إلى متن نصّي، يقتضي مواجهته بعدة نظرية قادرة على فهم نسيجه الداخلي، وتشابكاته السياقية في تحولات العالم.
إنّ كتاب حسن ناظم الأول، مفاهيم الشعرية 1994، هو انشغال كامل في كيفية تأسيس ابستيمولوجيا لإدراك النص الأدبي، في حين أنّ كتابه الثاني: البنى الأسلوبية: دراسة في أنشودة المطر للسياب 2003، محاولة للتوفيق بين المقدمات الابستيمولوجية للقراءة الأسلوبية، وقراءة تطبيقية تعنى بالوقوف على الانفرادات الأسلوبية للشاعر بدر شاكر السياب. لكن هذا الناقد، انتقل تحت وطأة ظروف تاريخية وسيكولوجية وثقافية إلى التفكير بالنصّ عبر آليات، ذات قدرة على النفاذ إلى الجوهر الإنساني في الأعمال الأدبية، وهذا ما حدث في كتابيه: أنسنة الشعر: مدخل إلى حداثة أخرى:فوزي كريم نموذجاً 2006، وكتابه هذا: النص والحياة.


-2-

التحوّل النظري

إنّ الانقلاب من وضعية إلى أخرى في نطاق الثقافة ـ إذا أخذنا بنظر الاعتبار التحول النظري لحسن ناظم في كتابه هذا ـ شأن مقبول شريطة ألا يكون نابعاً من القشرة الخارجية، بل من لبّ أو جوهر الخطاب. وشريطة أنْ ينسلّ انسلال خيط الصوف الرفيع من الوشيعة، والانسلال بخلاف (الانقطاع) يُبقِي على أواصر الجوهر، لا أنْ يدمّره، أو يمحوه، أو يبيد الخصائص اللازمة لجنس ثقافي معين. وشريطة أنْ يفضي الانقلاب إلى تأسيس رؤية معرفية تتمتع بخاصية الكشف العقلاني عن (المخاطبات الداخلية) للأعمال الأدبية، وتقترح نمطاً من (القراءة) يوازن بين (الثقافة) و(السياقات الخارجية). تماماً مثلما فعل حسن ناظم عندما اقترح لنا، في كتابه الجديد، ضرباً من القراءة يوازن بين (النصّ) و(الحياة)، كأنّ النصّ هو البيت اللغوي للحياة، وكأنّ الحياة هي البيت الآدمي للنصّ المكتوب بعدد من الكلمات والصور التخييلية. فهو، إذن، يتوجه إلى الموازنة بين (النصّ) و (الواقع)، لا (النصّ) و(اللغة) كما كان يجري في الدراسات البنيوية سابقاً. وبدلاً من أن يُخـتزل النص باللغة، صار يُخـتزل في الواقع أو التاريخ.
ولكن لماذا هذا التحوّل؟. هذا السؤال البسيط يكشف لنا عن أزمة حقيقية في العقل العربي المتخبّط بين عدّة نظريات، وعدّة مفاهيم، ونزعات، وأفكار، وموضات، وصَرْعات، وإلى ما هنالك من توصيفات. تكمن أزمة هذا العقل، في ظني، في عدم قدرته على إنتاج مقولاته ونظرياته من صميم المشكلات المعرفية والثقافية والواقعية. وظلّت علاقته بهذه الأفكار والنظريات، علاقة مستهلك يتعامل معها من الخارج، ولا يغور في أعماقها ليحيلها إلى جزء من كيانه الفكري والثقافي، كما فعل المفكرون والعلماء العرب القدماء الذين تمثلوا الأفكار الخارجية عن طريق مثاقفة واعية، أعادت تلك الأفكار إلى أصحابها وبيئاتها وهي محمّلة بأفكار جديدة، على النحو الذي قام به ابن رشد عندما كان إماماً لفلسفة عقلانية عرفت باسمه، وهي في الواقع خليط من أفكاره وأفكار أرسطو، وقد كوّنت لها مريدين في طبقة المثقفين الغربيين على نحو ما هو معروف ولا يتسع المقام لبسطه هاهنا. وبالنسبة لحسن ناظم، فإنّ هذا التحوّل متحدّر من لحظة من لحظات الوعي بهذه الأزمة المعرفية التي خلقت فجوة عميقة بين عالم الثقافة والإنسان والواقع من جهة، وعالم هذه النظريات المتطرفة في نظرتها إلى التاريخ وحركته البشرية من جهة أخرى.
وعلى الرغم من تنامي حركة ثقافية مناوئة للفكر البنيوي في الثقافة العربية، قد تكون تركت آثارها على التفكير النقدي لحسن ناظم، إلى أنني أرجح أنْ يكون الظرف التاريخي الذي مرّ بالعراق، والظرف الشخصي الذي لحق بحسن ناظم من جرّاء هذا الظرف، هو الذي ترك آثاره الواضحة والقوية للبحث عن مخرج لهذا المأزق المعرفي. وهو ما أفضى إلى إنجاز كتاب، يتجاور فيه (النصّ) مع (الحياة)، بدل (النصّ) مع (البنية).

-3-

جهوده في النقد والترجمة


سيكون هذا الكتاب مناسبة للحديث عن الجهد النقدي والترجمي للدكتور حسن ناظم، الذي يعدّ صورة من صور تحديث ثقافة الجامعة العراقية بعد منتصف الثمانينيات. كان يقرأ بصورة متوازنة، ينكبّ على أمهات الكتب التراثية، حتى إذا فرغ منها غاب في مصنفات الحداثة من الأعمال الأدبية والفكرية والثقافية العامة، لا فرق عنده بين السيّاب وأدونيس وأقطابهما من جهة، وعمود الشعر القديم وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي والمعري وأقطابهم من جهة أخرى. الإبداع أمامه، وهو يهرول بأنفاس منقطعة، كأنه لا يتعب، أو يكلّ من البحث عن النوادر في الصور والأفكار والأساليب. كنت شاهداً عليه وهو ينشد الشعر، ويسرح في النظرات والأفكار، حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود. كان يحدثني بلهفة، عن إعجابه بأسلوب طه حسين العلمي والمشوق، كان يراه إماماً في الإحاطة باللغة والتاريخ والفكر المعاصر، ورائداً من روّاد طرح الأسئلة الجريئة في الثقافة العربية منذ الربع الأول من القرن العشرين.
والحقّ، أنّ النصّ في عنوان هذا الكتاب وفي متنه، إنما هو حياة أيضاً، لكنها حياة رمزية تماماً، أما الحياة فهي تجربة حقيقية تجري في إطار الزمان والمكان. وتكمن قيمة هذا الاقتراح، أنه جاء في مرحلة ثقافية تحوّلية، هي المرحلة التي تنبهت فيها الثقافة العربية إلى قيمة السياقات المقصية من عملية تكوين تفسير معقول للتجربة الأدبية، أو التجربة الثقافية عموماً في البلاد العربية الواقعة في جغرافية ثقافية وسياسية ساخنة على الدوام. ولعلّ الذي دفع حسن ناظم إلى المجاورة بين (النصّ والحياة)، إنما هو ذلك الصراع الوجودي الساخن الذي تخوضه شعوب هذه البلاد ومنها العراق، الذي يختزل تاريخه القديم والحديث إلى تاريخ من المآسي البشرية المفجعة.
وهذا الاعتقاد الثقافي البنيوي الذي استمرّ لأكثر من عقد من الزمن يمتدّ من نهاية السبعينيات حتى منتصف التسعينيات، كانت فيه (اللغة) هي من ينوب عن (السياقات المقصية) في صوغ المعنى التاريخي والجمالي لهذه التجارب. والخضّة التي تعرّضت لها الثقافة العربية في هذه المدّة من الزمن، تتمثل في أنها كشفت عورتها في التعامل النظري والمفهومي مع شتى أصناف الخطاب، ونبّهتها إلى أهمية (النظام أو النسق) في خطاب الثقافة، ومن ثمّ نبّهتها إلى المأزق المعرفي للتقولب في نطاق (البنية) وإقصاء السياقات المرجعية، عندما أهدرت القيمة المزدوجة للأعمال الأدبية القائمة على الحوار الجدليّ بين النصّ والسياقات الخارجية التي لها دخل في صياغة داخل النصّ. ولعلّ أبرز هذه الخضّات تتمثل في ذلك الحوار الأعمى الذي تقوده لغة عمياء الذي أحال الأدب إلى قيمة متعالية قافزة على اشتراطات التاريخ، والذات، وعلاقتهما الضرورية في إنتاج الأدب وتلقّيه، ووضعه في خانة من خانات التاريخ الناطقة بالكشف عن وجه حقبة من حقبه. وما تجربة حسن ناظم في هذا الكتاب الجديد، سوى تجربة تصطفّ مع صفّ طويل من الأفكار التي وقفت بقوة في وجه النـزعات التي أرادت أنْ تختزل الأدب في جملة العناصر الداخلية المكونة له، عناصر اللغة والأسلوب والشكل، ومن ثم اختزال هذا كله في مفهوم البنية، الطاردة لمفهوم القيمة في الإنسان والسياق المرجعي الضروري. إنّ هذا الصراع الفكري بين تيارين فلسفيين متعارضين، هو الذي كان سائداً في الوقت الذي كان فيه حسن ناظم يُنجِز أطروحتين الأولى لنيل الماجستير حول: مفاهيم الشعرية، دراسة مقارنة في الأصول والمنهج 1992، والثانية لنيل الدكتوراه حول: البنى الأسلوبية، دراسة في أنشودة المطر للسيّاب 1995. ومما لا شكّ فيه، هو أنّ هذا الناقد العراقي كان يصوغ أفكاره في ضوء المنطق البنيوي على الرغم من تطلّعه الدائم إلى أهمية المرجع، على النحو الذي سعى إلى تطبيقه في دراسة ديوان: ( أنشودة المطر) لبدر شاكر السيّاب.
لقد كان البحث عن (بنية)، يوفّر له (مرجعية مادية) لغوية وبلاغية وإيقاعية للدراسة والتفسير. وهذا يعطي انطباعاً بجريان عملية التفسير في ظروف علمية بعيدة عن التفسيرات الافتراضية والانطباعية. وأساس المرجعية المادية بصورته البنيوية، إنما هو الأساس الذي كان يقدّم مقترحات لحلّ مشكلة النصّ التي ظلّ خلالها مجرد ملحق أو وثيقة لتفسير عالم آخر لا ينمى للنصّ مطلقاً، على النحو الذي تجلّى فيه في التحليل النفسي والسوسيولوجي والتاريخي. وعبر هذه التفسيرات، ظلّت الأعمال الأدبية العراقية خلال عقود من الزمن تعاني من مشكلة أساسية هي غياب الرؤية الفلسفية، أو المقترب النظري، ومن هنا كانت التفسيرات النقدية تجمع بين عدّة مذاهب ومدارس فنية وتاريخية لإنجاز نصّ التفسير. وقد أراد حسن ناظم، مع نقاد عراقيين آخرين أنْ يساهم في تكريس هذه الرؤية، وذاك المقترب. وعليه كان كتابه الأول (مفاهيم الشعرية)، محاولة لتأصيل المفهوم النقدي، والبحث في مشكلاته التداولية في النقد العربي المعاصر. أما كتابه الآخر (البنى الأسلوبية، دراسة في أنشودة المطر للسيّاب)، فهو مساهمة فعلية في البحث عن تلك المنطلقات الفلسفية والنظرية في لسان النصّ، وانزياحاته الأسلوبية. وعلى الرغم من أنه صرّح بأنّ دراسته هذه لا يمكن وسمها بأنها: (دراسة بنيوية structural بشكل محض، على الرغم من منطلقها المحايث، أي على الرغم من استنادها إلى لغة النصّ الشعري بشكل رئيس، إذْ إنها لن تتجاهل، أو تتجاوز العوامل والظروف الخارجية المتصلة بالمؤلف وبيئته، بل ستحاول أنْ تقرن هذه بتلك، ناشدة مقاربة شمولية تفضح المخابئ السرية للنصّ، وتكشف عن كنوزه ورؤاه المكبوتة)، إلا أنّ قراءته كانت قراءة بنيوية في المقام الأول.
غير أنّ العنوان الذي جاور بين (النصّ) و(الحياة) في هذا الكتاب الجديد، إنما يتطلع إلى الكشف عن عملية تَساكُن بعضهما للبعض الآخر. ويترتّب على معرفة كيفية ( التساكن)، معرفة لعبة الوجود بأسرها. هذه اللعبة، التي تُحْفَظ من الضياع والزوال بـ(الكتابة)، ويُضْفى عليها بُعْدٌ أنطولوجي بـ(التنصيص)؛ أي تحويل الواقعة إلى نصّ، وتزدهي بتاج العقلانية عن طريق (الثقافة) التي تحوّل تجربة التنصيص من شفرة جمالية إلى شفرة مفهومية؛ بمعنى أنّ العملية برمتها تُختَزل إلى السعي إلى تكوين معرفة knowledge حول: إنتاج الخطاب الأدبي، وتفسير أو إدراك هذا الخطاب المنطوي على تعقيدات أسلوبية ضرورية.
والعنوان المختزل هذا، لا يشير إلى (مطلق النصّ) ولا إلى (مطلق الحياة)، إنما إلى (النصّ) الذي يمثّل مركز معلومات عن (العقل الثقافي العراقي المعاصر)، وإلى (الحياة) الحاضنة السياقية لهذا العقل. أي الحياة التي تلامس البشر القاطنين في هذه البقعة الجغرافية الساخنة، الحياة التي يصوغها أناس يدافعون عن وجودهم بدءاً من البحث عن لقمة العيش، وانتهاءً بزجّهم في حروب، وكوارث اجتماعية، وانتهاكات صارخة من لدن السلطة. وحسن ناظم الذي فقد على نحو عشوائي نصف عائلته في المقابر الجماعية، يريد أن يكون الأدب بليغاً بلاغة الواقعة التاريخية دون أنْ يكون وثيقةً، وهو يعي هذه المسألة تماماً من خلال كتاباته وترجماته ومن خلال معرفتي الشخصية به، بل إنه يميل بمزاجه المعاصر إلى النـزعات المتطرفة غير المجانية في الأدب والثقافة. ومن يتسنى له أنْ يتعرّف عليه، سوف يتعرّف على مثقف ألمعي، لـمّاح، مزّاح، قارئ واعٍ، كاتب بليغ العبارة، صافي اللغة، متنوّع الأسلوب، ثاقب الرؤية، دقيق الملاحظة، متعدد المعرفة. وهذه النعوت الحقيقية، علاوة على ما قام به بالاشتراك مع زميله علي حاكم من ترجمات لكتب مهمة، تعدّ من لوازم الناقد المعاصر الذي يسعى إلى إنجاز قراءة جديرة بالنصّ المعاصر الحاوي على مصادر ثقافية متعددة المشارب والقنوات.
إنّ النصّ الذي اختبرتْه قراءة حسن ناظم إنما هو نصّ موشّح بوشاح الثقافة العراقية. وتنطوي هذه الإشارة على أهمية خاصة، تظهر على نحو بارز في السعي إلى تأسيس مقترب لقراءة الأعمال العراقية المعاصرة يحتّم أنْ يكون فيها تمثيل واضح للصراع التاريخي المعقد في هذه المنطقة من العالم. ولذلك، فهو يتساءل: أثمة حقبة دامية كحقبة الثمانينيات والتسعينيات بالعراق عالجتها الثقافة بمثل ما فعلنا؟. [ مقال: شبحية النصوص وعنف الواقع]. وهو يقدّم وجهة نظر نقدية للنصّ الشعري الذي كتب في هذه الحقبة، إذ نعته بالرطانة والطنين، وعدم رقيّ الثقافة إلى مستوى تحولات الواقع.[ ينظر المقال نفسه]. ويمكن إجمال انتقاداته لشعر هذه الحقبة بعدد من النقاط:
1- محاكاة النصوص الثمانينية لبعضها.
2- الشغف بالتجريب واختبار طرائق القصيدة الحداثية.
3- عدم القدرة على كشف الواقع أو خصائص حقبة الحرب.
4- الكتابة بلا مضمون، وقد أطلق عليها توصيفاً هو: الكتابة العمياء.
5- نزع دعوى (المقاومة) من نصوص الثمانينيين.
6- الاتفاق الرمزي بين الدولة وهذا الشعر على حلّ وسط لا يؤدي إلى التصادم.
7- محاكاة قصائد النثر العربية والأجنبية.
8- الانزواء مع الذات واللغة واعتزال الحياة.
وتلخّص العبارة الأخيرة: (اعتزال الحياة)، الجوهر الثقافيّ الجديد الذي يريد حسن ناظم أنْ يفعّـله في الخطاب الأدبي المعاصر، والمتمـثّل في الدعوة إلى جعل الحياة نصّـاً. ولا ريب في أنّ الزَّبـَد الذي طفا على الواقع الثقافي بالعراق طيلة المرحلة السابقة التي دُمِّـرت فيها مرتكزات الإنسان وثقافته، هو الدافع والداعي إلى تبنّـي هذه الدعوة الجديدة. وهي تتمثَّـل في جعل العمل الأدبي يمتصّ الثقافة والحياة بصورة متوازنة. ولم يكن هذا موقفاً جمالياً صرفاً، إنما ثمة رؤية شاملة تسعى إلى تقريب وجوه الثقافة عموماً من الحياة، كما تجلى في القراءات التي قرأ فيها بعض الأنشطة النظرية لدى الغذامي وسعيد الغانمي. إذْ كانت تختفي خلف هذه القراءات، رؤية جديدة للثقافة، والقراءة، والحياة.
إذن هذا هو الكتاب النقدي الرابع للدكتور حسن ناظم، الذي يختلف عن مؤلفاته السابقة في أنه يضمّ عدداً متنوعاً من الدراسات في عدد متنوّع من النصوص النظرية والإبداعية. فهو يختلف عن ( مفاهيم الشعرية) في أنه ليس كتاباً نظرياً، ويختلف عن (البنى الأسلوبية) في أنه ليس كتاباً في قراءة ديوان (أنشودة المطر) للسياب، إنما هو خليط من النظر، والعمل. ولا شكّ في أنّ هذا الكتاب سفر عطر، ينضاف إلى سلسلة الكتب القيّمة التي ترجمها مع زميله الأستاذ علي حاكم. لقد توزعت هذه الترجمات بين النقد واللغة والفلسفة والسياسة، إذ ترجما معاً الكتب الآتية: ست محاضرات في الصوت والمعنى لرومان ياكوبسون، نقد استجابة القارئ، تحرير جين تومبكنـز، نصيات بين الهرمنوطيقا والتفكيكية لهيو سلفرمان، الاتجاهات الأساسية في علم اللغة لرومان ياكوبسون، بداية الفلسفة لهانز جورج غادامير، القارئ في النصّ: مقالات في الجمهور، تحرير سوزان سليمان وإنجي كروسمان، وعالم جامح: كيف تعيد العولمة تشكيل حياتنا، لأنطوني جدنز، طرق هيدغر، لغادامير، الحقيقة والمنهج، لغادامير أيضاً. لا شك في أنّ هذا التنوّع في الحقول التي تُرْجِمَ عنها، وكذلك الترجمة لأسماء مهمة في عالم الثقافة والفكر المعاصرين، إنما يكشف عن أهمية الإضافات التي أضافها هذان المترجمان للمكتبة العربية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك، امتياز ترجمتهما بدقة نقل المصطلح، واستيعاب المادة الفكرية والثقافية فيه، ناهيك عن البلاغة العالية في حبك جمل وعبارات النصّ المنقول إلى اللغة العربية، حتى كأنك تقرأ نصّاً عربياً، لا نصاً منقولاً عن لغة أخرى.