أدار الحوار: أ.د. محمد عبد الله المطوع
الشاعر والفنان العراقي، محمد سعيد الصكار غني عن التعريف، فهو يشكل موهبة معرفية متنوعة تتوزع بين القدرة على الخط والرسم والشعر والقصة والترجمة، وقد تجاوز إبداعه حدود النطاق الإقليمي العربي وأصبح معروفا على الصعيد العالمي بحضوره وإنجازاته في مجالات الفن والإبداع. ولد في المقدادية عام 1934 ونشأ في البصرة، وقد لازمه الشعر بعد ممارسته الخط العربي، وظهرت باكورة أعماله الشعرية laquo;أمطارraquo; في بغداد عام 1962، وتلتها مجموعته الثانية بعد ست سنوات. مقيم في باريس منذ عام 1978، بعد أن أقام في سوريا منذ عام 1957 حيث عمل معلماً في المدارس الابتدائية في حلب، وما زال يحتفظ بالمرسوم الجمهوري الذي أصدره الرئيس السوري آنذاك شكري القوتلي لتعيينه معلماً براتب 150 ليرة.
* بداية نرحب بك، ونشكر لك إتاحة هذه الفرصة للقاء مع قراء laquo;البيانraquo; عبر هذا الحوار. ونبدأ من حيث إقامتك في باريس، ثم زيارتك لدولة الإمارات العربية المتحدة والتكريم في ساحة الخط في المنطقة التراثية في الشارقة.?
ـ الزيارة جاءت بمبادرة كريمة من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، لتكريمي في ساحة الخط عبر دعوة من إدارة الفنون بدائرة الثقافة والإعلام، وقد تفضل سموه بافتتاح جناحي في ملتقى فن الخط العربي، ولاقيت منه غاية الترحيب والاهتمام المعهود من سموه. وتم اختياري رئيساً للجنة التحكيم في ملتقى فن الخط العربي، الذي بلغ عدد المشاركين فيه 151 فناناً من 30 دولة، وتجولت في هذا المعرض مرات عدة وطفت بين لوحاته التي كانت أكثر من 600 لوحة حتى أقف على من يرشح لجوائز الملتقى، وكان معي فريق من الخطاطين والنقاد، وبعد ذلك جرى سياق الاحتفال في هذا الملتقى بشكل بديع وممتع، وقد كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها معرضاً في مجال الخط العربي بهذا الاتساع.
الظاهرة العامة في المعرض، هي ظاهرة الخط التقليدي الكلاسيكي، حيث كانت أغلب اللوحات من هذا النمط، إلا أن ما يدعو للفرح فيها مشاركة فنانين شباب من الإمارات ودول أخرى في هذا المجال، كما لاحظت أيضاً أن الخطاطين من الشباب العرب قد جودوا أساليبهم، وتمكنوا من ضبط قواعد الخط العربي، إلا أني أطالبهم باهتمام مواز بالفنون المجاورة للخط العربي. فالخط العربي خط مقنن منضبط القواعد، له أساليبه وأنماطه المختلفة، إلا أنني أدعو إلى عدم الاكتفاء بالتمكن من أساليب وفن الخط العربي، والاستفادة من الفنون المجاورة مثل فن التصميم والتصوير، والبحث في كيمياء الألوان ومعرفتها، ولا بد أن يكون هناك دور للعمارة وأساليبها الحديثة. وجميع هذه الفنون إذا لم تتوفر لدى الخطاط فلن يستطيع أن يقتحم ويتصور ويتخيل وينتج على هذا الخيال، فتأتي لوحته هجينا ليست بالكلاسيكية أو الحديثة.
ـ وما هي إسهاماتكم في هذا المجال؟
ـ لست خطاطاً فقط، فأنا أجيد قواعد الخط العربي وضوابطه وأنماطه، إلا أن هذا لم يكف للوصول إلى طموحي الذي لا حدود له، لذلك اتجهت إلى البحث في جماليات الخط العربي. فمثلاً خلال تاريخ الخط العربي الذي كتب فيه أبو بكر الصودي وأبو حيان والقلقشندي وغيرهم، لم يبحث أحدهم عن زوايا أو منطلقات الجمال في الخط العربي، وإنما كتبوا منبهرين بتكويناته وجمالياته الداخلية، من دون معرفة مرتكزات الجمال في الخط العربي. وقد بحثت كثيرا حول هذا الموضوع فلم أجد ناقداً ينقد الخط العربي ويسلط الضوء على عناصر الجمال فيه، فركزت البحث في محاولة لتأسيس نظرية لنقد الخط العربي.
ـ هل هذه النظرية تمثل بداية لتشكيل مدرسة في هذا المجال؟
ـ ربما تكون بداية لتشكيل مدرسة، إلا أن النظرية التي بحثت عنها هي فرضية، توسعت فيها إلى أن أصبحت نظرية قابلة للمناقشة والتطوير والتجديد، ذلك أنني حللت الحروف تحليلاً تشكيلياً، وبحثت عن العناصر التي تجعل من فن الخط العربي فناً جميلاً يبهر العيون، فتوصلت إلى نتائج مكتوبة كلها في كتابي الحديث laquo;القصبةraquo;، الذي ألفته قبل 25 عاماً وعرضته على أكثر من دار نشر فاعتذرت لأنه لم يكن من المطبوعات التي يمكن لها أن تسعف دار النشر بموارد مالية. والكتاب ما زال حبيساً بين أوراقه، وفيه ما يفيد ولكن لا مجال لنشره لأنه يكلف كثيراً بالنسبة لدور النشر التي ترغب الربح فقط.
تدوير الخط
ـ هل لاحظتم وجود اتجاهات نفسية (سيكولوجية) في فن الخط العربي؟ أي هل كل فنان في هذا المجال له اتجاه خاص به في شكل الخط أو مضمونه أو لونه؟
ـ الجانب النفسي متعلق بشخصية الفنان ومزاجه النفسي، وهذا ينطلق من استخدام الآليات التي يؤسس عليها لوحته الخطية، ويزعم كثير من الخطاطين أنهم يحققون هذا الاتجاه النفسي أو يضفون إليه احتمالات أخرى في تكوين اللوحة النفسية، كأن يكون الخطاط في حالة توتر وجداني فيحسن التعبير عنه، أو يكون للنص أثر في إثارة مشاعر خاصة، ولكن ما رأيته في هذا الجانب ضئيل وشكلي، على أساس أن ترسم اللوحة على هيئة طيور أو حيوانات أو تكوينات مقاربة للدلالة اللغوية، وإن كان هذا يعتبر من الجماليات الشكلية وليست الداخلية.
أما ما أضفته أنا في هذا الجانب، فكما ذكرت أنني بحثت في فن الخط العربي كباحث وليس كخطاط، فتوصلت إلى عناصر جمالية لا حدود لها في مجال تطوير وتجويد الخط العربي والإضافة إليه، فابتكرت عدداً من الخطوط التي لم يكن لها وجود في تاريخ الخط العربي، ومنها الخط البصري، معتمداً على بعض الظواهر الحياتية، فمن قبيل إعجابي الشديد بالرطب البرحي ـ وهذا من أجود تمور البصرة، وله شكل مدور ـ كنت طموحاً لإيجاد صيغة منطلقا من هذا الشكل المدور للرطب لأؤسس عليها، وانطلقت من هذه النقطة في عام 1959، وظللت أجود في هذا الشكل فأوجد للحروف أشكالا تعتمد على التدوير، واكتمل هذا الخط عام 1982، وشواهده الأولى التجريبية موجودة في الصحافة العراقية منذ عام 1959 وما بعدها.
واعتمدت في منطلقي على تدوير الخط وحرية تنقله في فضاء اللوحة، فاللوحة تتوازن عادة في فن الخط العربي بين الكتلة وفضاء اللوحة، ولا تحتمل الزخرفة التقليدية إلا نادراً جداً، وجميع الزخارف التي أعتمد عليها في لوحاتي من تصميمي ولا تعتمد على أي منهج من مناهج الزخرفة. هذا فيما يتعلق بالخط البصري الذي كنت أريد أن أسميه الخط البرحي، إلا أن الاسم في لغات أخرى يأتي بأكثر من لهجة، لذلك أسميته الخط البصري.
والخط الآخر الذي ابتكرته هو الخط العراقي الذي يعتمد في أساسه على وحدات الخط الديواني، ولكن الخط الديواني يكتب على سطر مستقيم، وعندما انطلقت في هذا الخط بدأت بجمع العلاقات المتشابهة بين الحروف وكونت منها هيئة تشكيلية بصرية وكررتها إذا كان هناك مجال للتكرار، بحيث تكون هناك استدارات مختلفة، أو حروف متعامدة أفقياً، أجمع هذه العلاقات وأكون منها اللوحة الخطية.
وخط ثالث ابتكرته هو خط كوفي الخالص، وهو خط معتمد على الخط الكوفي ومنسوب إلى بلدة الخالص التي رأيت فيها أول كلمة مخطوطة وأعجبت بها وأنا طفل في الصف الثاني الابتدائي، وبقيت أحلم أن أكون خطاطاً يحسن أن يأتي بهذه الكلمة المكتوبة على باب دكان من laquo;الزنكraquo; أو laquo;القصديرraquo; الصدئ، وكانت الكلمة laquo;رانياraquo;، وكنت أتطلع إلى هذه الكلمة بخشوع وأمني نفسي بأن أكون خطاطا يجيد كتابتها، وعدت إلى الخالص مرات عدة لرؤية هذا المكان إلا أنه أزيل بدافع التطوير، ولكنني حتى الآن أجد كلمة رانيا من أجمل الكلمات التي خطت.
ومعروف عن الخط الكوفي بصفة عامة، أنه يكون إما على هيئة مستطيل أو مربع أو دائرة، وتكون علاقات الحروف في المنتصف متماثلة فهنا فراغات بين أجزاء الحرف، وفراغات بين الكلمة وأختها. وفي خط كوفي الخالص، رغم اعتمادي على الخط الكوفي إلا أنني حررته من علاقاته المتماثلة وأعطيت للفراغات مجالاً كما تقتضيه اللوحة، إضافة إلى أنني ذهبت بحروف الخط الكوفي صعوداً وهبوطاً وتبديلاً، حتى في أشكال laquo;الواوraquo; وحرف laquo;الألفraquo; على سبيل المثال، فلا تأتي اللوحة بشكل واحد منتظم، بل كما يقتضيه فضاء اللوحة.
أما الخط الرابع الذي ابتكرته فهو laquo;الخط النباتيraquo; الذي يقوم على استثمار طاقات الزخرفة البصرية وتكوين حروف منها، وهذا الخط أحياناً يأتي في اللوحة بمقروئية صعبة، فهو ليس من الخطوط التي تصلح للنصوص، بل يصلح لتأليف لوحة خطية.
هذه هي الخطوط التي وضعتها، ولكن ما يشغل بالي هو مسألة النقد الخطي.
ـ هناك تأثير واضح بين الإنسان وعلاقته بالمجال، وأنت تنقلت بين بغداد والبصرة وباريس وموسكو في فترة من الفترات، وهنا لا بد أن يكون للمكان تأثير على الإنسان، أو أن يؤثر الإنسان في المكان، فما هي انطباعاتك ورؤيتك كفنان حول المكان والإنسان؟
ـ مسألة المكان تشغلني دائماً، وكثيراً ما أعود في كتاباتي النثرية الأخرى إلى الكتابة عن المكان وأثره عليّ، وكتبت عن ذلك كثيراً، ولم أكتف فقط بالكتابة عن البصرة والخالص وبغداد، بل سعيت إلى رسم خرائط لها من الذاكرة بعد أن اندثرت الأماكن، فعندما تندثر الأماكن يصبح بعض الفراغ موجعاً، ولذلك بادرت إلى رسمها من الذاكرة حباً لها، سواء في البصرة أو الخالص أو بغداد أحياناً. عندما أتحدث عن بغداد لا أعني بها المدينة ذات التاريخ والواقع الثقافي والإمداد التاريخي، إنما أعني بها العراق، في حين أنني عندما أكتب عن البصرة أعني بها المدينة بذاتها، كذلك عندما أكتب عن باريس أكتب عن المدينة وليس الدولة، فللمكان أثر كبير.
تجربة فرنسا
ـ لكل مدينة ذاكرة، فعندما نتحدث عن فرنسا مثلا تحضرنا الثورة الفرنسية والإبداع والفن الفرنسي، وعندما نتحدث عن بغداد والبصرة هناك الذاكرة التاريخية، وعصر النهضة العربية.. وبالتالي هذه الذاكرة ربما تترك للفنان مساحة من حرية التفاعل مع المكان، فالمكان يسهل لك التعامل مع أنماط معلومة ومرئية، فلنتحدث عن تجربة فرنسا على سبيل المثال..?
ـ تجربة فرنسا بالنسبة لي من أغنى ما أحتفظ به في ذاكراتي، ففرنسا وربما تكون باريس تحديداً، ذات أثر في وعيي الثقافي ووجداني، ذلك أنني عندما غادرت العراق مرغماً ذهبت إلى باريس في عام 1978، وكان إعطاء الإقامات ممنوعاً مؤقتا بالنسبة للوافدين إلى فرنسا، وبعد تقديم طلبي إلى السلطات الفرنسية منحت إقامة وبطاقة عمل وكانت الإقامة لمدة ثلاثة أشهر، وبقيت أعمل مستشاراً لشركة فرنسية للإعلان، مسؤولاً عن الإعلانات في الشرق الأوسط لهذه الشركة.
وكان هناك قانون يمنح الإقامة لمدة ثلاث سنوات عندما تبلغ إقامة الشخص في باريس فترة محددة، وتمنح إقامة لمدة خمس سنوات عندما يقيم القادم إلى باريس ثلاث سنوات ونصف.
منحت إقامة لمدة عام بعد الإقامة الأولى التي كانت لمدة ستة أشهر، وبعد فترة وكنت قد أعطيت رقماً ـ ومن المعروف أن كل شخص يمنح إقامة يكون لديه رقم ـ وعندما حان دوري ذهبت إلى السيدة المسؤولة فمنحتي إقامة لمدة عام، فقلت لها إنني أمكث في الدولة منذ ثلاث سنوات ونصف، فهل من الممكن منحي إقامة لمدة ثلاث سنوات؟ فقالت لماذا لا تطلب إقامة لعشر سنوات؟
فقلت لها: إنني لم أقم في فرنسا خمس سنوات ليحق لي ذلك. فقالت لي: إن فرنسا فخورة باستضافة أمثالك، قدم طلباً لعشر سنوات وسأوقع عليه وستأتيك الإقامة بعد ستة أشهر، عند ذلك انصبت دموعي بشكل غزير جداً وبقيت صامتاً لدقائق، كانت تلك السيدة تدركها، إذ لا بد أن يكون قد مر بها شخص مثلي. وتأملت نفسي أنا الهارب من العراق نتيجة للظروف التي سلطت عليّ هناك.
ـ تحدثت عن موقف جميل لإقامتك في فرنسا، فهل هناك مواقف أخرى وجدانية قد تكون حفرت في الذاكرة؟
ـ أول المسائل التي حفرت في الذاكرة، ترجع إلى كوني من عائلة بغدادية معروفة بصباغة الملابس وطباعة الأقمشة، وكانت مصبغة أبي وجدي ومن سبقه موجودة في laquo;صبابيغ الآلraquo; في بغداد، وكان الوالد بحكم مهنته يتنقل بنا من مدينة لأخرى، ومن بلدة إلى أخرى متابعاً مواسم الصباغة.
وهذه المواسم تأتي بعد جز صوف الغنم، بحيث ينطلق الناس لتهيئة أصوافهم والإتيان بها إلى الصباغ ليصبغها لهم، فيصنعوا منها بسطاً أو ثيابا أو ما شابه ذلك.
كان والدي رحمه الله رجلا أبيض الشعر تماماَ مثلما أنا الآن، وكان مشهوراً بدقة الصباغة وجودتها، فجاءته امرأة ذات مرة.
وقالت له: آه يا عبد الواحد صيتك ليس له قيمة! فقال لها: لماذا؟ فقالت: هل تتذكر أنك صبغت لي غزلا لبساط، ومع الزمن انتزع لونه. فسألها الوالد: منذ كم عام؟ فقالت له: منذ 15 عاماً وهو موضوع على الأرض تدوسه الأقدام. فقالت لها ابنة أخي: انظري شعر جدي، حتى الصبغ الذي وضعه الله له انتزع لونه.
وأتذكر قبل دخولي المرحلة الابتدائية أنني كنت اذهب مع والدي إلى دكانه، وكانت بجانب الدكان مدرسة ابتدائية، وأحيانا تكون لديه أعمال أخرى فيتركني بمفردي في الدكان، فكنت أغافله وأذهب إلى تلك المدرسة، وكانت شبابيكها على الشارع، فكنت أمسك بالشباك لاستمع لما يقوله الطلاب والمدرس، إلى أن حفظت القراءة وأنا لم أدخل المدرسة بعد، وكان هذا ولعاً مني يعرفه والدي رحمه الله.
ولكن ذات يوم من أيام المواسم التي يؤتى فيها بالكثير من الغزل والصوف، ودكان أبي مملوء إلى آخره بهذه البضاعة، تركني الوالد وأوصاني بأن أنتبه إلى الدكان، لأنه كان يعرف أنني سأذهب إلى شباك المدرسة. ولكنني ذهبت إلى الشباك كالعادة، ومر وقت طويل وأنا على هذا الحال حتى سمعت صرخة من خلفي تلتها صفعة على خدي، وأدهشني هذا التصرف لأنه غير معهود من أبي هذا السلوك، وذهبت مع والدي إلى الدكان فإذا بالبضاعة كلها قد سرقت.
وقد أربك هذا الموقف حياتنا كلها لأنه كان مطالبا بتعويض أصحاب البضاعة جميعها، وعوضهم وأفلس ولم تعد لدينا إمكانية العيش بشكل متوازن، وظل هذا الاختلال في التوازن حتى توفاه الله.
الصحافة.. والثقافة
ـ عملت في مجال الإعلام والصحافة والثقافة، قبل هجرتك القسرية إلى فرنسا، نود أن نعرف هذا الجانب من شخصيتك..?
ـ أمارس الصحافة تحريراً وخطا وتصميماً منذ عام 1956، ومسألة مجيئي إلى الصحافة من الطرائف التي أذكرها. فقد كان عمري يوم ذاك ثلاثة عشر عاماً، وكنت في البصرة قادماً إليها منذ أشهر قليلة، وفي الحارة التي نسكنها كانت هناك مطبعة يدوية تطبع جريدة آخر ساعة، وهي جريدة بصرية كان يملكها علي الرشيد، وكانت تلك المطبعة تطبع باليد ولا تطبع أكثر من ثلاثمائة نسخة من الجريدة، وإذا طمحت طموحاً كبيراً فإنها تطبع إضافة لذلك إعلانات السينما.
وذات يوم، حدثت ضجة في المطبعة، وأتى رئيس التحرير واحتد النقاش، وبعدئذ اتضح وجود خطأ مطبعي عسير يعطل صدور الجريدة، وكان لا بد أن تصدر الجريدة، والخطأ فادح يتمثل في وجود خطأ مطبعي واضح في خبر مهم ولا يمكن إغفاله، ومن هنا تفتقت موهبة رئيس التحرير بأن يأخذ كل عامل الحرف الساقط ويغمسه في الحبر ويطبعه في الكلمة الخطأ، فانشغل الجميع بهذه المسألة، وفي هذه الحالة انتبهوا إلى وجودي فطلبوا مني مساعدتهم، وكانت هذه أول الممارسات الصحفية بالنسبة لي.
ـ في رأيكم، ما هو دور المثقف في العراق الجديد بعد خمس سنوات من الاحتلال، حيث نجد أن الجانب الثقافي أصبح معتماً مشغولا بآليات الحرب والصراع، ولم يعد للحراك الثقافي حضوره المعهود في العراق؟
ـ في اعتقادي أن الثقافة العراقية لا يخشى عليها، فهي مؤسسة تأسيسياً وطنياً ديمقراطياً إبداعياً، بحيث لا تؤثر الأحداث في المثقف وتصرفه عن هموم الناس، وهمومه كمثقف، إزاء الثقافة وإزاء دوره في الحياة، وهذا الرصيد الثقافي الذي يتمتع به العراق والمؤسس وطنيا وتقدمياً، لم يبرح تاريخ الثقافة العراقية حتى في الوقت الحاضر، وهناك إمكانية في ظل الظرف القائم للاستفادة من مساحة الحرية المتاحة في الكتابة، وهذا ليس فضلاً من الاحتلال، وإنما هو سياق تاريخنا الثقافي.
وأرى أن مهمة المثقف العراقي في الوقت الحاضر الاستفادة من فسحة الحرية المتاحة، ومواصلة التأسيس الموجود للثقافة العراقية، والانطلاق إلى استثمار هذه الحرية. وإن كانت هناك صعوبة في متابعة ما يجري في العراق ثقافياً خصوصاً بالنسبة لي، فليس لدي مصدر لمعرفة ما يجري سوى الانترنت، وهو يوحي بأن هناك كفاءات جيدة من الشباب تنطلق وتؤسس، فهناك روايات لمؤلفين من الشباب يرسلونها لي ووجدت في كثير منها منابع إبداعية رائعة.
وهذا هو دور المثقف: المواكبة والاستمرار في التطلعات، وهناك إبداعات جديدة في التناول الروائي على سبيل المثال، فنجد روايات ذات توجه جديد في الشكل والمضمون على سياق الثقافة العراقية. وأجدني شديد الاطمئنان على الثقافة العراقية التي أواكبها منذ أكثر من 60 عاماً ومتفائل بها، رغم الفوضى التي تنشرها بعض الفضائيات ومواقع الانترنت والتي فيها الكثير من التفاهة، إلا أنها لا تشكل خطرا على المثقف المبدع.
ـ أين هو الصكار في هذا الجانب، الجانب الحداثي والتراثي؟
ـ أنا مولع بالتراث جداً، وكثير القراءة فيه، واعتبر نفسي قارئا جيدا إذا كان هناك مقياس للقراءة، وتأخذ هذه القراءات مني وقتاً طويلاً في قراءة التراث العربي، وأتابعه بشكل متواصل وأستفيد منه استفادة كبيرة سواء في الشعر أو النثر، ومكتبتي عامرة بكثير من الكتب التي أواصل قراءتها، ومن جملة هذه القراءات هناك فن من فنون الشعر العربي يسمى الإخوانيات.
وتلك الإخوانيات مساجلات ومداولات بين الشاعر وإخوانه وأصدقائه، وتلك الإخوانيات والمداعبات والطرائف التي تجري بين الشعراء وأصدقائهم موجودة في الوسط الثقافي، إلا أنها لا تدون ولا ينشر منها إلا القليل، وقلما ينشر كتاب بكامله عن الإخوانيات، فمعظم الإخوانيات تأتي بشكل شخصي بين الأطراف، وفيها كثير من المداعبات التي لها دلالة اجتماعية تأتي من خلال علاقة الشاعر بأصدقائه، وبالتالي هي تكشف عن طبيعة العلاقات الاجتماعية ومستويات الثقافة عند من يكتب الإخوانيات ومن يوجهها له.
الإخوانيات والتدوين
ـ لماذا لم يتم تدوين هذه الإخوانيات في السابق، وإذا كان هناك نوع من التدوين فلماذا لم يستمر أو ينتشر؟
ـ الإخوانيات تم تدوينها، إلا أنها لم تستمر لأن كثيرا من الكتابات قد تتطرق إلى مسائل شخصية لا يفضل نشرها، فكثير من الكتابات التي تجري بين الإخوان تأتي بشكل حميم وشخصي وقد تتطرق إلى قضايا حساسة وطريفة أحيانا، فيخشى الشاعر نشرها لأنها قد تضعف علاقته ببعض الإخوان.
لكن أجدني شديد الاهتمام بالتوثيق، ولدي من أمور التوثيق رسائل الأدباء التي أحتفظ بها، من أول رسالة كتبها لي الأخطل الصغير عام 1952، وكنت في الصف الثاني المتوسط، وسألته أن يبعث إليّ بقصيدة laquo;المسلولraquo;، فبعث لي رسالة جميلة يعتذر فيها عن ذلك لأن القصيدة ستصدر في كتاب قادم. ومنذ ذلك اليوم وأنا أحتفظ برسائل الأدباء والشعراء والفنانين.
ـ هل تلك الرسائل غير قابلة للنشر؟
ـ على العكس، فأنا مستعد لنشرها، فهي تضم مراسلات من أكثر من 400 فنان وأديب عربي وعالمي، وقد طلب مني أحد الأشخاص أن يبتاعها، ولكنني رفضت ذلك لأنها جزء من تراثي الشخصي الذي يعود إلى تراث الثقافة العراقية، وأتمنى أن يتصدى لها العراقيون أو العرب لنشرها بصيغة ما.
وهذه الرسائل حدث فيها تبادل للدعابة والفكاهة والنقد غير الجارح، وهذه الإخوانيات جمعتها وأحتفظ بما لدي وقد أصدرت كتاباً عنها يتجاوز 300 صفحة بعنوان laquo;إخوانيات الصكار ومجالسه الأدبيةraquo;، وفيها من الطرائف والنكات ما تلقيت عنه العديد من رسائل الإعجاب، مما شجعني على إعداد الكتاب الثاني في هذا الجانب.

ـ في هذا الزخم الحياتي، من هي الشخصيات التي أثرت فيكم، سواء شخصيات بينك وبينهم صلة وطيدة أو شخصيات عامة؟
ـ هناك الكثير مما بيني وبين العديد من الإخوان من الأدباء والفنانين، وهي في محصلتها النهائية تكون رؤية بانورامية موسعة لطبيعة العلاقات بين البشر، بيني وبين إخواني وأصدقائي.
والشخصيات التي تأثرت بها كثيرة، ولكنني أستحضر في ذهني بشكل واضح تأثير الجاحظ وأبي تمام عليّ، إضافة إلى ما قرأته لابن الجوزي والآخرين ممن يأتون بالظرائف والطرائف وينقلونها إلينا بشكل بسيط. ولكن لم يتصد أحد لنشر كتاب كامل عن إخوانياته، لا أزعم أنني أول شخص إلا أنني لم أر مطبوعة في هذا السياق.
وبحكم علاقاتي الواسعة بالأدباء والفنانين، مهد لي ذلك أن أناقشهم وأحاورهم وأساجلهم وأكتب إليهم نقدا ومدحا وهجاء.
ـ ما بعد السبعين، هل هناك طموح أم توقف؟
ـ بل طموح متواصل وكأنني في العشرين، وأشعر بجسدي نحيلاً تماماً، وقلبي حيوياً في العشرين رغم أن عمري 74، وأستطيع أن استعيد ذاكرتي وأن أواصل مسعاي. فعندما أجلس أمام جهاز الكمبيوتر تنطلق فيّ ذكريات بما لا يتسع له حتى الكمبيوتر. لدي من الذكريات الكثير مما يستحق الكتابة، وآمل أن يتسع بي العمر لإنجازها، وأن يهتم الآخرون بتلك الإخوانيات لأنها توثق للعلاقة الثقافية والاجتماعية والفنية والأدبية، لأنك تكتب إلى صديق ما مواصلا علاقتك به، لكن بشروط الأداء الفني وليس كيفما اتفق.
الإخوانيات فن، ولدي الكثير من الإخوانيات الجميلة التي أحفظها عن الآخرين.

ـ نحن في شوق لمعرفة بعض أجزاء من حياتك، فقد عرفت أنك مكثت فترة طويلة في الاتحاد السوفييتي سابقا، ومن المؤكد أن هذه التجربة تركت آثارها عليك..?

ـ أنا من طلاب معهد اللغات العالي فرع اللغة الروسية، ونعرف أن هناك جمهورا من القراء لما أنتجه الفكر والأدب الروسي الغني جداً، فحملني ذلك على الانضمام إلى القسم الروسي في معهد اللغات العالي طمعا في الوقوف على الأدب الروسي بلغته الأصلية، ولكن الظروف السياسية أعاقتني، حيث أنني في عام 1963 منعت، بأمر الحاكم العسكري آنذاك، من مواصلة دراستي بسبب الانقلاب البعثي. وعندما أتيحت لي أول فرصة للذهاب إلى موسكو، كانت مناسبة رائعة جداً التقيت فيها بناظم حكمت، وأراجون، وجورج أمادو وأعلام الثقافة العالمية يوم ذاك.
عدت من موسكو إلى سوريا، وشاءت الظروف أن تؤخذ أسماء الوفد العراقي في موسكو بشكل سري، وفي دمشق تبين أن أحد ضباط المخابرات السوريين في الحدود سلم أسماءنا إلى السلطات العراقية، فانكشفت أسماؤنا ونشرت في جريدة الشعب العراقية، فلم يسعنا إلا أن يتخذ كل منا وسيلة للعودة إلى العراق، ولم أجد أنا وسيلة سوى طلب اللجوء السياسي إلى سوريا بشكل ظريف، وهو قبولي شاكرا اللجوء لسوريا على ألا أتقاضى راتبا كلاجئ سياسي، لأنني شاب وأستطيع العمل ولدي إمكانياتي. وهذا ما حدث حيث صدر مرسوم جمهوري من الرئيس المرحوم شكري القوتلي بتعييني معلما في المدارس الابتدائية براتب 150 ليرة.

ـ هل كتبت مذكراتك؟
ـ كتبت منها حتى الآن 800 صفحة، إلا أنني ما زلت في مرحلة الستينيات، وقد نشرت مجلة laquo;الرجل اليومraquo; في أبوظبي ثلاث حلقات منها إلا أنها توقفت عن النشر.