ناظم عودة: لم يتخلص الأوربيون تماماً من عقدة الاستشراق، وهم يترجمون الشعر العربي إلى لغاتهم. هذا الشعر، بالنسبة إليهم، نافذة مناسبة للتلصص على التفاعلات الجنسية للجسد العربي؛ الذكوري والأنثوي معاً. وهم يعتقدون، على الدوام، أنّ هذه المسألة تنطوي على غرابة جذابة، شبيهة بما كان يقوم به الرحّالة الأوربيون في وصف الأراضي الجذابة والغريبة للقارئ الغربي.
لعلّ هذه الفكرة، كانت حاضرة بقوة، عندما أقدمت (سان لورنسو) دار النشر السويسرية على ترجمة بعضٍ من قصائد الشاعر الأردني أمجد ناصر، في مجموعةٍ شعريةٍ صغيرة ومنتخبة ضمّت خمسة نصوص، وكان عنوانها: وردة الدانتيل السوداء، وهو عنوان إحدى القصائد التي تعدّ مركز هذه الموضوعة، التي راقت لدار النشر السويسرية، وراقت للمؤلف الشرقي أيضاً، كنوع من إظهار البراعة التاريخية في التعامل الشرقي مع جسد الأنثى.
ويجمع هذا العمل المشترك بين أمجد ناصر شاعراً، وفوزي الدليمي رساماً ومترجماً للمجموعة. فما رسمه أمجد ناصر بالكلمات، أعاد رسمه الفنان فوزي الدليمي بالفرشاة والألوان. وإذا ما كانت للأول وجهة نظر تتجسد في بلاغة الشعر، فإنّ للثاني وجهة نظر تتحقق في بلاغة الشكل واللون. ولا يعني ذلك مطلقاً، أنّ الوجهتين متطابقتان، إذ الفنان لا يتطابق مع الفنان الآخر أبداً، ولا يقع حافر أحدهما على حافر الثاني. لكن، لنعد إلى دار النشر (سان لورنسو)، فعلى الرغم من أنّ اختيار النصوص كان قد ساهم فيه أمجد ناصر وفوزي الدليمي، إلا أنها ساهمت في الاختيار أيضاً، عندما باركت هذه النصوص وأقدمت على نشرها. سان لورنسو لا تريد أن تقدّم إلى قرائها شاعراً اسمه أمجد ناصر، بل شاعراً شرقياً اسمه أمجد ناصر. ولتعزيز رغبة التقديم هذه، قدّمت الشعر والرسم معاً في مجموعة واحدة. لكي تعيد إلى ذاكرة القارئ الأوربي صورة الشرق في لوحات الرسامين الأوربيين.
ويتعيّن علينا الاعتراف هنا، أنّ الاستشراق كان قد رسم صورة الشرق عن طريقين:
- كتابات المستشرقين من الرحالة والباحثين ومحققي النصوص التراثية والفلاسفة الذين قرأوا فلسفة الشرق وتراثه الفكري، وكتبوا عن العقل الشرقي، والجسد الشرقي، والمجتمع الشرقي، والثقافة الشرقية، بعضهم كان منصفاً في التحليل، والآخر كان مجحفاً في الوصف والتقييم.
- لوحات الرسامين الغربيين، من الذين عاشوا مدة في الشرق، وكان قد قرأوا كتابات المستشرقين، فحاولوا أن يدلوا بدلوهم في وصف الحياة الشرقية. وتمخض عن ذلك، أن شكّل الرسم مخيالاً للقارئ الغربي في أية قراءة للأعمال الشرقية، مخيالاً حالماً بأسوار الحريم الشرقي، وهائماً بين الكؤوس والاجساد الممتلئة الكسولة، وغاطساً في بُرَك اللذة. ونظراً لذلك، كانت (سان لورنسو) تودّ أن ترى الرسم [ المحمّل بمحمول استشراقي] والشعر الذي هو الإيقاع الروحي للشرق العربي، يمتزجان معاً. ليقدّما للقارئ الغربي الإثارة المطلوبة.
لكنّ المفارقة أو الغرابة، هي أنّ هذا الشعر لا يقدّم جسداً شرقياً محضاً، بل ثمة جسد غربي يعاد تصديره إلى القارئ الغربي مرة أخرى. أنثى بملامح أوربية، ورجل بملامح شرقية، يتبادلان الغرام المشبوب على سرير الشعر. هل هذه، إذن، عولمة ثقافية يراد للشعر العربي أن يدشن بها بدايات الألفية الثالثة؟.
في القصيدة الأولى (تعويذة لدخول البيت)، يحاكي فوزي الدليمي ما أشارت إليه قصيدة أمجد ناصر من ملامح لامرأة يراد لها أن تتخطى عتبة المنزل. ملامح المرأة في النصّ يرسمها الشاعر استناداً إلى حدسه هو، وليس استناداً إلى حقيقة المرأة بدمها ولحمها. وصفاتها الجسدية كما تذكرها القصيدة عن طريق المجاز أو الاستعارة هي:
1- خفقة ضوء [ بخفقة الضوء هذه شيّعي المسك رمحاً طويلاً ]
2- رمح من المسك [ شيّعي المسك رمحاً طويلاً]
3- حسنة الفأل والطالع [ ادخلي بقدم السعد]
4- جميلة القدمين [ فنشبّ ونشيب في بارق كاحلك ]
5- ساحرة [في كلّ لفتة منك يطير سرب يمام،
أشدّ بياضاً من سريرة النائم،
ومع كلّ فتلة لك،
يهتدي قمر ضال إلى مداره]
6- مباركة [ بيدك اليمنى اطبعي كفّ الحناء على قنطرة البيت ]
7- أسطورية [ ليل الليالي كلها عندما تضعين قدماً على العتبة مرغماً يبيّض ]
يمكن أن نصف هذه القصيدة بأنها (ترتيلة غواية) شبيهة بعبارات الإغراء التي نتوجه بها إلى الطيور أو الحيوانات الأخرى في محاولة لدعوتها أو لترويضها أو لخديعتها والإمساك بها. وأمجد ناصر يدعو هذه المرأة [ خطّي العتبة...] بإغراء وإطراء كيما تتخطى عتبة داره، ويظفر بمتعة لقائها. ويبدو أنها كانت طيّعة، وغير متمنّعة كما يشيع في تراثنا الشعري، لكنه شاء أن يرتّل لها ترتيلة الغواية، ويحيط مقدمها بتعويذة لدخول منزله.
أما ملامح المرأة في صورة فوزي الدليمي، لا يمكن تجميعها ابتداء من رأسها، فالصورة تظهر معظم جسدها، باستثناء رأسها الغائب الملامح إلا من تخطيطات جانبية. يظهر في الصورة مدخل البيت والعتبة، وتظهر المرأة وهي تتلوى بجسدها الرشيق في محاولة لتخطي العتبة. يغيب عن الصورة الكاحل الذي وصفته القصيدة، فيما يحضر فيها الضوء بقوة، فيطغى على مساحة اللوحة كلها، فيبدو المكان والمرأة كأنهما خفقة ضوء.
احتار فوزي الدليمي في كيفية رسم رائحة (المسك) في اللوحة، لكنه لم يجد غير اللون لجعل غير المحسوس (المسك) محسوساً، فأدخل إلى الوحة لوناً آخر، أكثر كثافة من اللون الأصفر الشفاف، لوناً أكثر ثقلاً ينبسط تحت أقدام الأنثى، أو يجري مع حركة قدميها. ولأنّ (السعد) يقترن بقدم هذه الأنثى في القصيدة، فإنّ صورة الرسم يظهر فيها تركيز على تلك الحركة المغناجة. ويقف القارئ في النهاية، على نمطين متعارضين لصورة المرأة في هذه القصيدة:
- صورة الشعر: امرأة ذات إغراء وغواية، ليس مؤكداً دخولها البيت.
- صورة الرسم: امرأة ذات إغراء وغواية، مؤكد دخولها البيت.
في قصيدة (وردة الدانتيلا السوداء)، وهي من القصائد الإيروتيكية، ثمة تركيز شديد على تصوير أكثر الأعضاء الأنثوية خفاءً:
باعدي قليلاً ليصل الهواءُ
إلى الكمأة التي تنبلجُ
تحت المحراث.
ولأنّ هذه القصيدة تورطت في الولوج إلى أرض تعبيرية محظورة، فإنها كانت تتغطى بلغة رمزية، خوفاً من افتضاح أمرها. بيد أنّ الترميز في هذه المسائل ليس من شيمة الشاعر الغربي، بل من شيمة الشاعر العربي، الذي يضع في اعتباره قارئاً عربياً محاطاً بمعايير اجتماعية صارمة، لا تقبل التعبير المكشوف عن هذه الأجزاء الحسّاسة في جسد المرأة. والثقافة العربية تضاعف باستمرار وسائل الترميز عن الاشياء المحظورة، والقرآن الكريم الذي يعدّ مصدراً كبيراً من مصادر الثقافة العربية، يتحدث عن هذه المسائل بتكتم وترميز، قال تعالى: هنّ نساؤكم فاتوا حرثكم أنى شئتم. لقد اختار القرآن مجالاً دلالياً نظيراً للدلالة الحقيقية التي كان ينوي أن يصرّح بها، اختار الحرث نظيراً لمواقعة النساء، لعلاقة المشابهة بين حرث الأرض للبذار والغرس الذي يَعِدُ بالإنبات والولادة والخير، وحرث النساء الذي يَعِدُ هو الآخر بالجنين والولادة والخصب. وهكذا، فإنّ الذاكرة العربية التي تغذّت من التراث الرمزي للعرب؛ الشعري والنثري، ليس بوسعها أن تتملّص من ذلك بسهولة. واستناداً إلى هذه الفكرة، فإنّ الترميز الكثيف في قضايا الجنس في هذه المجموعة الشرقية التي يراد تصديرها للقارئ الغربي، يعدّ ميزة أسلوبية شرقية، وهي ميزة مغتربة وسط جمهور من القراء الجدد. الشاعر الغربي لا يرمّز عن الجنس، بل يعتقد أنّ الترميز الذي يستعمله أحياناً في قصائد من هذا النوع، طريقة جمالية تزيد من قدرة التاثير، في حين أنّ الشاعر الشرقي العربي تحديداً، يستعمل الترميز خشية من سلطة معينة. وهذا الفارق، يتعيّن أن يوضع في الحسبان، في أية قراءة لهذه المجموعة.
لقد كانت قصيدة (وردة الدانتيلا السوداء) تحاكي لهاثَ الواقعة بلهاث السرد وجريانه المتدفق؛ فثمة رجل قانط، وثمة امرأة شهية، وثمة وسيلة متاحة لتصوير ذلك وتدوينه:
1- اجلسي
أرجوكِ
بهذين الحقلين المحروثين
بقرني ثور سأضمن القِطاف
اجلسي
وباعدي
قليل من الهواء للغصن المنحني بكمثراه
2- أمطاري جافةٌ
وشفتاكِ بليلتان
3- الأفعوان يتلوى في الزَخَم
العينُ الكبيرةُ تحدّقُ
وعندما لم يحدث شيء يوحي بتغيّر الموقف، فإنّ السرد يتحوّل من سرد الفعل، إلى الوصف المكشوف المغطى بلغة رمزية:
أبيض هو الأشقرُ المحروسُ بعشب ساهر،
عشب الوحشِ اللطيفِ الهائجِ في السفحِ
الأبيض/ البرّاق/ المسترقّ/ الشاعُّ/ المجتلبُ الشهقاتِ/ أبيضُ الزبدِ/ والموتُ على وسادةِ الرعشةِ.
الشيء الغريب الآخر في هذه المجموعة، هو جنس (عِرْق) المرأة، فهي ليست شرقية تماماً كما ينتظرها القارئ الغربي، بملامحها ذات السحنة الشرقية، التي لفحتها الشمس، وقوّمت قوامها الجغرافية، وطبعت طباعها البيئة الشرقية، وإنما هي امرأة ذات ملامح غربية. فهي بيضاء وشقراء على امتداد الجمل الشعرية للمجموعة بأسرها. وتنقلب المعادلة من قارئ غربي مبهور بجسد المرأة الشرقية على النحو الذي صورته له الحكايات العربية، إلى شاعر شرقي مبهور ومصدوم بجسد امرأة غربية، كان الخيال العربي المحدث قد أشبع بقصص (الحرية الجنسية) و (التمدّن) في العلاقة بين الرجل والمرأة. وبدلاً من أن يكون الخطاب موصولاً بحبل متين من أعراف الكلام الذي تخاطب به المرأة الشرقية، فإنّ الخطاب وقع في أسر عادة الكلام الغربي وأعرافه؛ كلام يتجه إلى الهدف مباشرة:
الأبيضُ/ ذو الشامةِ/ ذو المرمرِ/ أبيضُ الفيروزِ/ أبيضُ الاستدارةِ/ أبيض على حوافِّ الزهري/ أبيضُ تلالٍ بلا مرتقى/ أبيضُ مخبوءٌ/ ملفوفٌ بالشرائطِ/ غافٍ في الساتان.
وليس غريباً أن يبدأ هذا المقطع بالصفة (أبيض) ويمرّ بالحال (غاف) وينتهي بالظرف المكاني المتعيّن (في الساتان). فالخطاب اكتسى كسوة المخاطَب، التزوّد بالثقافة الفرويدية المكشوفة، والولوج إلى الهدف مباشرة: غاف في الساتان. وبدلاً من الوقوع في دائرة ثقافة (مواعيد عرقوب...) التي ترفع من شأن المرأة الشرقية العربية المتمنّعة في تراثنا الشعري، فإنّ المرجعية الثقافية التي توجّه خطاب المرأة في هذه القصيدة، هي مرجعية غربية تستبعد التورية في الكلام والفعل:
بحلاوة اللسانِ
اكتشفتُ ملوحةَ المخبوءِ
وفي مقابل ذلك، فإنّ اللوحات التي ترافق هذه المجموعة لا تبتعد كثيراً عن المرجعية الغربية، فمعظم اللوحات ذات صلة مباشرة بالأعمال التجريدية للفنان البلجيكي (وليم دي كوننج)، الشغوف باللونين الأصفر والأرجواني، تقطعهما خطوط سوداء ورمادية داكنة، توضح ملامح الصورة. والشغوف أيضاً بتصوير أجساد النساء بصورة أساسية، كما يتجلى في لوحته الشهيرة عن الممثلة (مارلين مونرو). وهكذا، فإنّ القارئ الغربي ستتبدّل معايير التلقي لديه حالاً، فبدلاً من انتظار لوحة لامرأة ذات ملامح شرقية، شبيهة بلوحة (دي لاكروا) الشهيرة عن النساء الجزائريات، فإنه سيشاهد لوحة لامرأة بملامح غربية. إنّ هذه الطبعة تتوجه إلى قرّاء غربيين وإلى قرّاء شرقيين أيضاً، فالمجموعة تحتوي على الأصل العربي للقصائد كذلك. ومن هنا فإنّ الاشتراك في الخصائص الأسلوبية لنمطين من الثقافة، قد أحاط القارئ الغربي والقارئ العربي برعاية خاصة. ولكي تتضاعف هذه الرعاية، فإنّ القصائد تكرر نوعاً من الأسلوب الخاص، يمكن نسميه بـ (أسلوب التضرّع) الذي يعتمد على أسلوبٍ تسميه البلاغة العربية (الإنشاء الطلبي):
1- تخففي من رياشِ الغلبةِ
دوسي العتبةَ
وشرّفي البيتَ
2- قرّبيهِ صائدَ الضعفِ
من رقائقِ الذهبِ،
قرّبيهِ.