أسدل الليل أسماله ثائرة فائرة منذرة باغتضاض شنيع، الريح تصفر بعنا د صارم عند بوابة الفراغات، عازفة أصوات غريبة توحي بالرموز لأجناس ما بعد البشرية، تمشط المعالم بقوه ململمة أوراق الأشجار المصفرة والرمادية جاعلة منها أكواما متناثرة متحركة هنا و هناك.
أشجار عملاقة عارية تتمايل بعنف وسط ظلام كأشباح تصطدم ببعضها وتتشابك تتساقط أغصانها على الأرض تلمها الريح إلى حيث أعماق الغابة.
صفير و خشخشة مرعبة، أصوات متداخلة وكان الكون على وشك نهاية مخيفه.
أصطبغ وجه السماء بلون رمادي لبرهة ثم السواد، بعثر الغيوم بعجل ووجل،
كتلة كبيرة تفرش وتمتد في واحة السماء تقذف أشكالا هلامية متحركة تدمدم وتهمهم السماء أصبحت قبة عجيبة تزحف منها وتتطاير أليها خطوط لا أبالية متحركة كنافورة نار كبيرة.
اختفى القمر بعدما كان في حداد وجنون، بلونه الأحمر القاني أو اندثر، لربهما أصبح نارا أو زيوتا وتبعثر أو انطلق من مكامنه إلى اعلى الأعالي حيث ما لانهاية.
في عمق الغابة وبين ألأحراش كوخ صغير، متهدل الأطراف غارق في الإهمال والقدم، لفيلسوف طاعن في السن، اتخذه صومعة منذ عقود، منعزلا ممتلئ بالغضب على العالم، باحثا عن الحقيقة، يعيش بين الشك واليقين، لا صاحب له لا خلان، غير الكتب والمجلدات ينكب على القراءة والبحث والاستقصاء انكبابا جادا،
يتأمل في الطبيعة اشد التأمل.
شعر بان ارتياعا يداهمه، لذا انزوى في أحدى أركان الكوخ المتراقص والمتأرجح مع الريح، أصطدك الباب والنافذة الصغيرة مرات و مرات، وأخذت الريح تلملم ما في أرضية الكوخ وتجمعها في زاوية المقابلة للباب، كومات متناثرة أمام الفيلسوف، واختفى نصف جسمه المقرفص في الزاوية، مغمض العينين مفكرا بخروج الليل عن المألوف
لم يكن يألف هذا الخوف من قبل، مد يديه ليلامس وجهه المعفر بالتراب ماشطا سبال لحيته بقوه لينتزع منها ما علق بها، فتح عينيه بمشقة بالغه فترجرج النور الضئيل حوله، جال ببصره نحو الكوخ فإذا به عار من الكتب والمجلدات، مسحته الرياح قاذفة إياه خارج الكوخ أو في الزوايا حيث التمزق والضياع.
تقرفص أكثر ماسكا رأسه ومال بقوه حاشرا نفسه في الزاوية اتخذها مكانا آمنا.
أحس بان العالم ينقلب انقلابا فظيعا، إنها النهاية لابد منها.
لم يكن كم من الوقت لبث مقرفصا، فجأة أخرست الرياح، وساد الصمت والهدوء، توقفت الباب والنافذة عن ألا صطداك والكوخ عن التأرجح، انقشع الغبار وبان كل شيء واضحا جليا.
قام الفيلسوف متثاقلا يجر قدميه وراءه، خطى خطوات متثاقلة نحو خارج الكوخ هدوء تام، كان شيئا لم يحدث، صمت تخيم في كل مكان، رفع راسه مستغربا مندهشا، جحظت عيناه، بحلق بعمق نحو الغابة، رفع رأسه إلى سماء فإذا بها صافية ساكنه إلا من ذرات تتراءى شيئا فشيئا. بعد برهة ظهرت اقباس من النور تتقاذف بقوه وذرات تغطى الأجواء ساقطة من السماء ماطرة على الأرض بألوان غريبة ما بعد الازرقاق.. واصفرار.. واحمرار.. و و.. تتوج لتملا الأجواء كلها..
رفع رأسه ثانية وباستغراب بالغ فاركا عينيه بأيادي مرتجفة ليتأكد ما يحدث حوله من المعجزات، بلع ريقه أحس بمرارة في حلقه راجعا بخشوع إلى الوراء صوب الكوخ، توسعت حدقتا عينيه مندهشا.
فجأة تغيرت المعالم أكثر فأكثر، ظهرت غيمة نورانية كبيره غطت السماء حتى الأفاق، الذرات تمطر وتغطي العالم بأسره، فإذا بالرب واقف بجلالة عظيمه فوق هذه ألغيمه النورانية ألمقدسه.
خلع الرب عباءته ونفضها بقوة، ارتجت كل المعالم قاذفا اقباسا وأحزمة نورانيه
وسارت الغيمة والرب إلى حيث أتى.
خر الفيلسوف ساجدا، مرتجفا أمام الرب واضعا كلتا يديه على رأسه والعرق يتصبب منه، ظل في مكانه هذا صاعقا حتى بزوغ فجر جديد.
انتهت العزلة والاعتكاف والتأمل، حيث المساواة والعدل والجمال، الحقيقة ووضع الأمور في نصابها، والحياة المليئة بالرفاه الاجتماعي والخير.
رفع رأسه بأناة ورويه، ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة، فرك يديه شعورا
بالرضى، ودموعه تنهمر من عينيه، حاضنا كتاب الله، غاسلا صفحاته بدموعه
تاركا صومعته إلى الحياة الفاضلة.
وحينما وصل أطراف المدينة، رأى طفلة عارية جائعة تجهش في البكاء،
تبحث بين القمامات عن كسرة خبز...!