د.منير حداد

منذ بداية الإصلاحات الاقتصادية في الدول النامية في الستينات من القرن الماضي و قاطرة الإصلاحات هذه إما متعثرة أو متوقفة تماما ، بدليل أن الإصلاح كان الاستثناء لا القاعدة . و لا زالت كثرة العراقيل و الحماية المفرطة من المنافسة الأجنبية تقف إلى اليوم شاهدا على محدودية الانفتاح المزعوم و عدم قدرة الدول النامية ndash; و العربية على وجه اخص - على الاندماج في الاقتصاد العالمي . يقودنا هذا إلى طرح السؤال : لماذا تتردد الحكومات إلى هذا الحد في اعتماد الإصلاحات التي ثبت نجاحها في دول أخرى شبيهة ؟

الجواب ببساطة إن للإصلاح الاقتصادي مخاطر سياسية كبيرة نتيجة إعادة توزيع الثروة التي تنتج عنه، كما انه يهدد مصالح المجموعات المتنفذة التي تخاف أن تخسر موقعها في النظام الجديد. فانسحاب الحكومة من إدارة الاقتصاد يؤدي إلى انقراض مؤسسات القطاع العام و من ثم إلى ضعف و تهميش دور النقابات العمالية . كما إن دعم الصناعات التصديرية يهدد القوى التي كانت تنشط في السابق في الصناعات الموجهة للسوق المحلية و تتمتع بحماية من المنافسة الخارجية. لهذا لم يحدث الإصلاح الاقتصادي إلا بتوفر عوامل استثنائية أهمها :

العامل الأول للإصلاح: الأزمة الاقتصادية
بناء على هذه الفرضية يتحقق الإصلاح الاقتصادي فقط في ظروف أزمة خانقة تفقد على إثرها السياسات السابقة مصداقيتها، بحيث لم يبق أمام الحكومة إلا خيار الإصلاح. حصل هذا في تونس اثر الفشل الذريع لتجربة التعاونيات الزراعية عام 1969 ، مما دفع بالرئيس بورقيبة إلى تعيين حكومة جديدة أسست لإنشاء صناعة تونسية موجهة للتصدير ، بسن قانون quot;شركات الاوفشورquot; الصادر عام 1972 الذي أعطى حوافز هامة لهذا النشاط . و اعتمدت الطغمة العسكرية في التشيلي اثر انقلابها سنة 1973 احد اكبر الإصلاحات راديكالية في العالم الثالث ، مستفيدة من الأزمة الخانقة التي ورثتها عن حكومة سلفادور الاندي الاشتراكية ، عندما وصلت نسبة التضخم السنوية إلى 700في المئة. كما يمكن أن نقول نفس الشيء عن دول أوروبا الوسطي (بولندة ، تشيكيا و دول البلطيق) اثر انهيار جدار برلين ، عندما اختارت الحكومات الجديدة quot;علاج الصدمةquot; (أي الإصلاحات الشاملة و السريعة) ، خلافا لنموذج الإصلاحات التدريجية الذي يدعي مؤيدوه بأنه اقل تكلفة اجتماعية ، و يوفر الوقت الكافي للمؤسسات الاقتصادية لإعادة هيكلتها للتكيف مع الواقع الجديد.

العامل الثاني: العزيمة السياسية
تلعب الزعامة السياسية دورا محوريا في عملية الإصلاح الاقتصادي و إنجاحه حتى في غياب أزمة حقيقية. فالأولوية التي أعطاها الجنرال quot;بارك شونج هيquot; للتنمية في كوريا دفعته إلى اعتماد سياسة جديدة لتطوير الصادرات لم تكن معهودة لا في بلاده و لا في المنطقة الاسياوية ككل . و قد جوبهت هذه السياسة في البداية بتشكيك قطاعات واسعة من رجال الأعمال الكوريين في حظوظ نجاحها . لكن الإرادة القوية و تصميم الجنرال بارك على المضي قدما في بناء اقتصاد كوري تنافسي قادر على اقتحام الأسواق الخارجية همش الأصوات المعارضة . و عندما بدأت بوادر النجاح تظهر للعيان أعطى هذا دفعا جديدا للسياسة الجديدة، و هكذا تحولت كوريا إلى دولة صناعية رائدة. و يمكن أن نقول نفس الشيء عن تجربة سنغافورة على يد باني حداثتها quot;لي كوان يوquot; ، و عن باقي النمور الاسياوية .

العامل الثالث : دورالتكنوكراط
لعل أفضل السبل لنجاح الإصلاح الاقتصادي في مرحلتي صياغة البرنامج و التنفيذ الفعلي تتمثل في اختيار الفريق الاقتصادي على درجة عالية من المهنية و الانسجام ، و المثال الأشهر على ذلك هو فريق quot;فتيان شيكاغوquot; (شيكاغو بويز) في تشيلي ، الذي وقع عليه اختيار العسكر ، بعدما فشلت محاولات تشكيل حكومة من مجموعات أخرى ( السياسيين ، المحامين ، رجال الأعمال ...). و قد استطاع هذا الفريق المتكون من خريجي كبرى كليات الاقتصاد بالجامعات الأمريكية من وضع برنامج إصلاحي متكامل حامت حوله الشكوك آنذاك، لكن أثبتت الأيام فيما بعد جدواه ، إذ حققت التشيلي أعلى نسبة نمو اقتصادي في أمريكا الجنوبية ، و تصدرت الدولة قائمة مؤشر منتدى دافوس للتنافسية العالمية لمنطقة أمريكا الجنوبية لسنوات 2007- 2008.

اكبر دليل على أهمية هذا العامل الفشل الذريع الذي منيت به الدول التي رفعت شعار الانفتاح الاقتصادي لكن دون أن تتسلح حكومتاتها بفريق اقتصادي كفء و منسجم ، و هذا ما حصل في مصر منذ السبعينات من القرن الماضي . لذلك كانت وتيرة الإصلاح بطيئة و كانت نسبة النمو منخفضة، مما انعكس سلبا على معدل دخل الفرد الذي انهار مقابل الدول النامية سريعة النمو مثل الهند و الصين و ماليزيا.

يجب التنويه هنا بان الفريق الاقتصادي يحتاج دائما إلى دعم سياسي قوي لان اعتماد و تنفيذ الإصلاح يبقى في النهاية قرارا سياسيا. و الدعم السياسي ضروري في كل الأحوال لمواجهة القوى المتنفذة ذات المصلحة في النظام القديم ، و التي من المنتظر أن تعمل كل جهدها لإجهاض الإصلاحات .

هناك عامل رابع ألا وهو عامل الديمقراطية. و الحقيقة إن التجارب أثبتت أن هذا العامل ليس ضروريا بدليل نجاح الديكتاتوريات العسكرية في دول مثل كوريا الجنوبية و تايوان و تشيلي . كما تحققت إصلاحات هامة في دول أخرى لم تتوفر فيها شروط الديمقراطية ، لكن في ظل قيادات أعطت الأولوية للتنمية . بطبيعة الحال هذا لا يبرر الديكتاتورية بدليل أن الإصلاح الاقتصادي في دول أوروبا الوسطى تقدم كثيرا في ظل نظام ديمقراطي ، كما تحققت إصلاحات كبرى في الأرجنتين بعد انهيار حكم العسكر و وصول كارلوس منعم للحكم. و يبقى النظام الشمولي الأكثر عرضة للنكسات و حتى للانهيار الشامل كما حدث لنظام سوهارتو في اندونيسيا .

تؤكد التقارير الدولية الأخيرة ضعف الإصلاح الاقتصادي في الدول العربية ndash;غير النفطية- بدليل الترتيب المتدني لهذه الدول في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال الذي يصدره البنك الدولي ( الأردن 80، تونس 88، الجزائر 125، مصر 126، المغرب 129، سوريا 137...). كما جاء تقرير التنافسية العالمية لمنتدى دافوس الاقتصادي الأخير بترتيب الأردن 49 ، المغرب 64 ، مصر 77 ، سوريا 80 و الجزائر 81 ، و ربما كان الاستثناء الوحيد تونس التي جاءت في المرتبة 32. إذا ما أرادت هذه الدول الإصلاح الاقتصادي الجاد فلا بد لها من رؤية واضحة لدى السلطة السياسية، كما لا بد من الدعم السياسي الكامل للفريق الاقتصادي الذي يجب أن تتوفر فيه شروط المهنية قبل أي اعتبار آخر.

كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن .
[email protected]