توفيق المديني
أصبح تدهور قيمة العملة الأمريكية حديث العالم كله، ولم يعد مقتصراً على الخبراء وسوق المال العالمية، الذين يتساءلون حول استمرارية السيطرة العالمية للدولار، ولاسيما من قبل اليورو، وربما من جانب اليوان الصيني، على المدى الطويل.

الدولار- الملك هو الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية تعيش فوق امكاناتها، وتقترض من باقي العالم لتمويل عجزها التجاري.

فسقوط الدولار في سوق تبادل الصرف العالمية يخفض كثيراً في قيمة الاحتياطات المالية التي راكمتها البلدان المصدرة للنفط في كل من

الشرق الأوسط وآسيا ويهدد الاستقرار الاقتصادي لأوروبا.

والدولار هو رمز القوة الأمريكية، إذ بقي تعادله بالذهب (أي السعر الرسمي للذهب بالدولار) منذ العام 1934 ولغاية 1971 من دون تغيير، الأمر الذي أدى إلى تقويم الذهب بأقل من قيمته بالنسبة للعملة الورقية بحدود كبيرة. وأعطى النظام النقدي العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة للدولار الحق بتقويمه بنفس قيمة الذهب، وليكون الوسيط بين بقية العملات الورقية وبين الذهب.

ولا يمكن للبلدان الأخرى القيام بمثل هذا الدور طبعا، لأن ذلك، يستند إلى القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، وإلى الفائض في ميزان مدفوعاتها الناجم عن التجارة، وإلى الاستقرار الكبير في القدرة الشرائية للدولار بالمقارنة مع العملات الأخرى، وإلى امكانية تحويله إلى عملات أخرى. واعتبر نظام تعادل العملات المنصوص عليه في اتفاقية صندوق النقد الدولي، نافذ المفعول إلى أن جاءت أزمة العام ،1971 حين عملت إدارة نيكسون على هدم هذا النظام إلى حد بعيد، عندما أصبحت اسعار بعض العملات تحيد بصورة كبيرة عن سعر التعادل المتفق عليه.

إن استخدام الدولار كعملة احتياط له مزايا عدة بالنسبة للولايات المتحدة التي بإمكانها أن تغطي عجوزاتها من خلال تدفق الرساميل الأجنبية إليها والتي تتراوح بين 1000 إلى 1500 مليار دولار سنويا. وفي الواقع عزز quot;الدولار الضعيفquot; الصادرات الأمريكية، وقلص الفجوة الكبرى في الميزان التجاري، الذي بدأ يستعيد توازنه مع الشركاء التجاريين، تتقدمهم الهند والصين.

بيد أن هبوط الدولار يمثل مشكلة حقيقية بالنسبة للبلدان الآسيوية والخليجية، التي ترتبط عملاتها بشكل قوي بالدولار، وهذا مايؤثر سلباً في انخفاض قيمة عائداتها المالية من الصادرات النفطية، وعلى ودائعها بالدولار في البنوك الغربية، وعلى تغذية التضخم بسبب وارداتها من البلدان الغربية التي تتمتع بعملة قوية مثل اليورو.

في الماضي كان العالم يتكيف مع هذه السلبيات، أما اليوم فإن للدولار منافساً قوياً وجدياً هو اليورو. ومع ذلك، فإن الانقلاب الراديكالي من الدولار إلى اليورو كعملة احتياط ليست مطروحة من قبل الخبراء.

فالتحولات النقدية العالمية تتطور على مدى طويل: الدولار سيبقى مسيطراً ولكن في ظل نظام متعدد المراكز، أما اليورو فسيكون منافسه الجدي خلال ال 15 إلى 20 سنة المقبلة. بيد أن العقبة الحقيقية للعملة الأوروبية سياسية، وتكمن في غياب الحكومة الأوروبية الموحدة.

ويعتقد الخبراء أن الارتفاع القوي لليورو لا يجوز أن يسبب بعض الأوهام لدى البعض، لأنه ناجم من الآن فصاعدا من quot;الفقاعةquot;: إنه ليس عملة قوية تسمح بتحقيق نمو قوي، بيد أن النمو القوي هو الذي يجعل العملة قوية. فلكي ينهار الدولار بشكل دائم ويصل إلى مستويات قياسية لم يبلغها من قبل، ولا سيما أمام اليورو، فإن هذا يتطلب توافر ظروف راديكالية مختلفة على ضفتي الأطلسي. ولغاية الآن، لا نزال بعيدين عن هذه الوضعية، على الأقل هذا هو رأي الخبراء.

ويرى البعض ان الهبوط النسبي للدولار ناجم أيضا من الاستخدام الكبير للعملات الآسيوية إذ إن تطور التجارة والاندماج الإقليمي بين بلدان آسيا يقربها من الوضعية التي كانت عليها أوروبا في عقد السبعينات من القرن الماضي، حين خلقت آليات للصرف الممتزجة في النظام النقدي الأوروبي في سبيل المحافظة على الروابط بين عملاتها. ويمكن الاعتقاد أن بلدان آسيا الشرقية ستقيم فيما بينها علاقات صرف، ولو أنها أكثر مرونة من الآليات الإكراهية للنظام النقدي الأوروبي.

وفي وقت لاحق، سوف ينتشر اليوان الصيني كعملة بديلة ممكنة. وخلال سنوات عشر، عندما تصبح الصين بلداً منفتحاً بالكامل، سوف يكون اليوان الصيني منافساً للدولار، لأنها ستكون قوة اقتصادية عظمى قادرة على فرض اليوان.

أخيراً، إن عملية الانتقال من الدولار، أو التنوع في استخدام العملات الاحتياطية لدفع أسعار المواد الأولية أصبح مطروحا. فالروس مهتمون بأن تدفع لهم فاتورة البترول والغاز باليورو. أما بلدان الخليج العربي فيستهويها التنويع: فليس لأي منها مصلحة أن تستمر قيمة الدولار في الهبوط، وبالتالي احتياطاتها من العملة الصعبة. فالكويت المدينة للولايات المتحدة بسبب دورها في عملية التحرير من الغزو العراقي، رمت حجرا في البركة الراكدة، حين ألغت الرابط الثابت بين عملتها المحلية: الدينار والدولار، وأسست قيمة عملتها من الآن فصاعدا، على سلة من العملات الصعبة الأخرى، من بينها الدولار.

وبرر البنك المركزي الكويتي ذلك بهبوط القدرة الشرائية للدينار الكويتي أمام العملات الكبيرة الأخرى، إذ أسهم الدولار في ارتفاع معدل التضخم المحلي. ومنذ ذلك الوقت ارتفع الدينار بأكثر من 8% أمام الدولار، وانطلق أيضا النقاش حول إدراج عملات البلدان الخمسة الأخرى الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي.

لاشك أن اقتصاديات البلدان الخليجية الآن مزدهرة، لكنها تعاني من تضخم متصاعد. والحال هذه، فإن الدولار الضعيف يزيد في التضخم المستورد. وفضلا عن ذلك، تجد هذه

البلدان نفسها مكرهة على اتباع انخفاض معدلات الفائدة للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، منشطة بذلك عندها، استحداثاً نقدياً يغذي ارتفاع

الأسعار.

لقد دخلنا مملكة الحيرة، وها نحن من رعاياها. فلا أحد يعلم أي سعر قد يبلغه النفط علواً، ولا سعر صرف الدولار هبوطاً. ولا يعلم أحد متى تبلغ الأزمة المالية نهاية مطافها، ولا أين يحط الركود رحاله، في الولايات المتحدة أم في فرنسا. والسبب في الحال هذه تضافر منعطفات ثلاثة من العسير قياس وطأتها ونتائجها. فالمنعطف الأول هو ثمرة انتقال مركز ثقل العالم من الغرب الى الشرق، غداة نفاد قوة المحرك الأمريكي الوحيد، واستئناف الصين وآسيا دور المحرك. والمنعطف الثاني ترتب على الأول. فالجوع الصيني إلى الخامات والمواد الأولية أدى إلى زيادة أسعارها، وبعث التضخم من رميمه، بعد 30 سنة على موته ودفنه. ونجم المنعطف الثالث عن الأزمة المالية المستمرة والمتسعة والآيلة إلى نضوب التسليف الرخيص والمبتذل، والاطمئنان اليه كذلك. ولا ريب في أن الأسعار المرتفعة تقضم القوة الشرائية، وتكمش الاستهلاك والنمو.

فهل في مستطاع البلدان النامية النأي بنفسها عن تردي الاقتصاد الأمريكي، والنجاة بنفسها من الركود؟

* باحث اقتصادي