إبّان منفاه الدانماركي (1934-1938) كتبَ الشاعر الألماني برتولد بريشت قصيدة تحت عنوان 'An die Nachgeborenen' "إلى الذين سيولدون بعدنا" مكونة من ثلاثة أجزاء يتحدث فيها عن عجز الشاعر في أزمنة ظلامية وعن جدوى كتابة الشعر في عالم يحتاج إلى تغيير. وكتب في المقطع الثاني من الجزء الأوّل:

أيّةُ أزمنةٍ هذه، حيثُ
الحديثُ عن الأشجار يكاد يكون جريمةً
إذ كم إزاء المنكرات من صمتٍ يتضمّن.

Was sind das für Zeiten, da

Ein Gespräch über Bäume fast ein Verbrechen ist,

Weil es ein Schweigen über so viele Untaten einschliesst.

""

قصيدة بريشت التساؤلية هذه أصبحت فيما بعد تُضرب مثلا عن الدور السياسي للشعر، بحيث جعلها الناقد الألماني المعروف يورغن بيتر ولمان، منطلقا لأنطولوجيا شعرية تحمل نفس عنوان القصيدة "إلى الذين سيولدون بعدنا"، فطلب من شعراء ألمانيا المعاصرين آنذاك، أن يساهم كلٌّ بقصيدة تدور حول محور قصيدة بريشت. صدرت الأنطولوجيا عام 1970، ومن بين الذين ساهموا فيها، كان باول تسيلان، وهاهي اجابته – قصيدته كاملة مع الأصل:

Ein Blatt, baumlos

für Bertolt Brecht:

Was sind das für Zeiten,

wo ein Gespräch

beinah ein Verbrechen ist,

weil es soviel Gesagtes

mit einschließt?


ورقةٌ، بلا شجرة
إلى برتولد بريشت

أيّة أزمنةٍ هذه
حيث الحديث ُ
يكاد يكون جريمة ً
إذ كم من الثرثرة
يتضمّن.


الغريب أن أغلب الإجابات الشعرية تناولت موضوع "الحديث عن الأشجار". فاللحظة التاريخية بعد الأحداث الطلابية في أواخر ستينات القرن الماضي كانت مشحونة بالحس الثوري والتساؤلات الجذرية حول الدور السياسي للشعر. غير أن ما يهمنا في ملاحظتنا السريعة هذه توضيح جواب - قصيدة باول تسيلان.
انطلق بريشت في قصيدته من تفاؤلية ماركسية إزاء أوضاع ظلامية.. فهو يرى ثمة انحراف في اللغة له بعد اجتماعي عام، انحراف، سببته الممارسة النازية للكلام،ويمكن تصحيح هذا الانحرافبوعي إيديولوجي زائف حول الفقر والبؤس الاجتماعي... أي لم ير أن المحنة تكمن في صلب اللغة نفسها. ومن هنا كان على باول تسيلان أنيحول،باختطاف بسيط، أبيات بريشت الرمزية سياسيا، إلى بيان حول اللغة نفسها باعتبارها المرآة الحقيقة لجوهر إشكاليات البشر. فاللغة لم تعش انحرافا مؤقتا، سكوتا آنيا، يكفي انيردد "مكرور الكلام" (Gesagtes )فتُصحَّح. إن "الجريمة"، في نظر باول تسيلان، لاتكمن في انحراف حصل داخل اللغة (الألمانية)، وإنما في صلبها. فكلمة Ein blatt تعطي معنيين: الورقة التي نكتب عليها والورقة بالمعنى النباتي للكلمة المرتبط بعالم الأشجار. وكما أن عبارة "بلا شجرة" يمكن قراءتها: "بلا أصل".. فالشجرة هنا بمعنى النسب والأصل لعائلة.. اللغة.. وهكذا يصير المشروع الشعري تأصيلا بلا ينابيع: قطيعة مع "التاريخ النازي لهذه اللغة" وتركيبتها الاجتماعية. ، بل قطيعةمع تقاليدها" ومركب نحوها الاجتماعي.

قصيدة باول تسيلان بخط يده