مختصر المحاضرة التي القاها الاستاذ الدكتور سيّار الجميل في غاليري الكوفة مساء يوم 20 ايلول/ سبتمبر 2005

القسم الأول: المصادر والمنهج

السيدات والسادة..
اصدقائي الاعزاء
اسعدتم مساء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. انها فرصة ثمينة ان اكون بينكم في لندن لاتكلم في " موضوع " اعتبره واحدا من اخطر موضوعات العراق واهمها على الاطلاق، شاكرا ادارة غاليري الكوفة على دعوتها لي ممثلّة بالاستاذ الدكتور محمد مكيّة وطاقمه الكريم، واشكر الصديق الاستاذ الدكتور ابراهيم العاتي عميد الدراسات العليا في الجامعة العالمية للحضارة الاسلامية على تقديمه لي وما قاله بحقي من كلام لا استحقه. واشكر قدومكم وحضوركم متمنيا جدا ان نستفيد معا وخصوصا وان " الموضوع " يستوعب مزيدا من الافكار والاراء وبالاخص ان تفكيك بنية المجتمع العراقي بحاجة الى رفع الاغطية السميكة عن معلومات مسكوت عنها او انها كانت ولم تزل خفية عن الاعين. وساتكلم عن " ثيمات " معينة فالموضوع اصلا اشتغل عليه منذ سنوات في مشروع كتاب، ولم انجزه بعد، وما زلت استفيد من كل المداخلات والمعلومات والاضافات الجديدة التي تثري وتضيف اليه الشيئ الكثير.
لقد اختلفت الرؤى حول العراق والعراقيين كثيرا، وهذا دليل على ان المجتمع العراقي يتميز بثقل موروثاته وتنوع ثقافاته وتعدد اجناسه.. وبالرغم من ان الثقافة العربية قد صبغت العراق وان العراقيين قدموا لها وللتاريخ وللوجود ابرع التكوينات الحضارية منذ فجر السلالات حتى اليوم.. وكان العراقيون برغم تنوعهم بين الماضي والحاضر قد قدموا لهذا الوجود منجزات كبرى، الا ان مهد الحضارات شهد العديد من المجتمعات عبر العصور وقد تنوعت تنوعا كبيرا. ان كل ما نجده اليوم في مجتمع العراق هو نتاج سلاسل طوال من التاريخ الذي ينقسم عندي الى قسمين (وقد اوضحت ذلك بالتفصيل في فلسفة التكوين التاريخي)، قسم سياسي يمثّل منتهى البشاعات وعلى نقيضه قسم اجتماعي يمثل اروع الحضارات! ان مجتمع العراق اليوم يعّبر عن حالات عقيمة نتيجة افظع الاهوال التي مر بها، وقد اجتمعت عنده ركامات من التناقضات وافتقد بعضا من انسجاماته وتعايشاته القديمة بحكم تفاقم اسباب وتفاعل عوامل داخلية وخارجية على امتداد خمسين سنة مضت.
دعونا نرى منتهى الطيبة والوداعة التي يقابلها منتهى التوحش والقساوة.. اروع التعابير والجماليات واخصب العواطف يقابلها اقبح الكلمات واسوأ التعابير والشتائم.. اقوى العلاقات الحميمية والمحبة يقابلها سلوكيات عدوانية وكراهية واحقاد.. عشق للعمل وتفان في اداء الواجب وحب الوطن يقابله فقدان الشعور بالمسؤولية وتنصّل عن القيم وكره لروح المواطنة.. الخ من الحالات التي تستدعي الانتباه والتأمل، كوننا لا نجد حالات شبيهة بها ابدا لدى مجتمعات اخرى، والتناقضات ليست دليل ضعف بل دليل قوة في مفاصل المجتمع – حسب رأي كارل مانهايم -.
ان ما حدث من تغيير في العراق لم يصب صدام حسين لوحده وزبانيته ودولته حسب، بل اسقط كل الالهة التي كانت تعشّش في المجتمع منذ زمن طويل. التفت الي صديقي اللبناني وهو مختص معروف ومثقف بارع قائلا: لم اكن اعرف العراق الا بعد العام 2003! اجبته: انني انا العراقي فوجئت بالعراق وكل يوم سيضفي مفاجآت كثر! العراق لم يكن واضحا على العالم بكل حقائقه ابدا.. كان عراقا مزيّفا مزيّنا وكأنه خارج للتو من الف ليلة وليلة من دون ان يدرك الخلق ان مجتمعه هو واحد من اكثر المجتمعات المعقدة في هذا الوجود. ومن هنا تأتي اهمية هذا " الموضوع " الذي يحتاجه كل عراقي يهتم ببلاده وبمستقبله وله القدرة على ان يشارك حقيقة في تغيير المنظومة السلوكية للمجتمع والذي لا يمكن ابدا ان يبقى على وضعه الحالي وقد ورث كل اسلاب الماضي الصعب وبقاياه المعطلة. وهنا اعترف بأنني ساتحدث في موضوع خطير جدا بالرغم من كونه ليس موضوعا سياسيا ولكن السياسة نتاجه شئنا ام ابينا.. كنت سابقا اسوة بكل العراقيين اخاف ان اتكلم بصراحة لاننا نخشى بطش الدولة، وصرت اليوم اخشى بطش المجتمع. بقدر ما كانت الدولة في عهد البعثيين غليظة الطبع وقاسية الاساليب وتفزع كل الكائنات.. بقدر ما غدا المجتمع اليوم بمنتهى القساوة والبشاعة يعاني من همجية ووحشية مرعبة.. بكل انشقاقاته وانقساماته وتحزباته وهلامياته.. بكل ما حل فيه من الاحقاد والكراهية والبغضاء.. واذا كانت الدولة والنظام السابق عدوان لدودان ومعروفان للجميع، فان المجتمع اليوم بكل تداخلاته لا يمكن ان نغدو اعداء له، وخصوصا النخب التي ولدت في رحمه في الخمسين سنة الاخيرة من القرن العشرين.
سأعالج هذا " الموضوع " من خلال ثلاثة محاور، هي: محور اول يتّصل بادوات الفهم المنهجي ونقد المصادر وتحليل مرجعيات فهم هذه " البنية " الصعبة. ومحور ثان يتعّلق بتفكيك مضامين التناقضات من خلال تحليل مكونات البنية الاجتماعية على اسس منهجية متعددة، وهو العمود الفقري لهذا البحث.. واستعين في هذه الحالة ببعض ما ساعرضه عليكم من مصورات وخرائط وارقام والوان.. ومحور ثالث يتعلق بالاستنتاجات التي خرجت بها من هذا الموضوع ورسم صورة مستقبلية لما ستغدو عليه حياة العراق الاجتماعية في القرن الواحد والعشرين مقارنة بما كانت عليه في الماضي.. واتمنى ان اقدم بعض ما التأملات بصدد ما سيصادفه مجتمعنا من تحديات في المستقبل المنظور وحتى في المستقبل البعيد.

المنهج: تفكيك البنية الاجتماعية
دعوني اوضح المنهج الذي سأتبعه في هذه " المحاضرة " التي أراها مهمة جدا ليس في مضمونها وفلسفتها حسب، بل في منهجها والاستنتاجات التي سأخرج منها خصوصا وانني لابد ان أوضح لاسماعكم بأن مثل هذا " الموضوع " على اشد ما يكون من التعقيد والتشابك ليس بسبب تعقيدات البنية الاجتماعية العراقية بحد ذاتها حسب، بل لاسباب متعددة منها اننا نتحدث عن اقدم مجتمع في الدنيا اذ انه الوحيد الذي يمتلك تاريخا كلاسيكيا يكاد يكون الاعرق بين مجتمعات الدنيا قاطبة.. كما اننا نتحدث عن مجتمع لا يقتصر على عمقه الزمني، بل على مركزيته الجغرافية في كل من العالم القديم وعالم اليوم ايضا.. اما البعد الاخر، فان مجتمع العراق مزيج من بقايا ثقافات وحضارات متنوعة وعديدة، فضلا عن كونه فسيفساء من السلوكيات المتناقضة التي افرزت هذا " التنوع " في الالوان وهذا التعدد في الاطياف. ثمة بعد آخر طالما يشدد عليه البعض عندما نجد تأثير المناخ القاري الحار جدا صيفا والبارد جدا شتاء على امزجة الناس.. وهنا يعتبر مثل هذا " المجتمع " من مجتمعات الندرة المتنوعة العجيبة الفاصلة تاريخيا وجغرافيا ومناخيا وحضاريا على حد تعبير كارل مانهايم ايضا في تصنيفه انواع المجتمعات العالمية.
من هنا لابد لي ان احدد جملة مختزلة من الخطوط العريضة التي يمكن ترسيخها من اجل فهم طبيعة البنية الاجتماعية العراقية فهما حقيقيا لا مزيفا، وان تدرك كل الاولويات والابعاد في ظل اكثر من منهج يمكن اتباعه بعيدا عن كل ما كان يقيد العراقيين في الماضي الصعب من قيود واغلال.. واعتقد بان الاجيال القادمة ستكون اكثر قدرة على استيعاب تلك القيود والاغلال التي حكمت عقول العراقيين ردحا طويلا من الزمن.. لتبدأ حياتهم تتخذ له اساليب من نوع آخر في التفكير والتصرف والسايكلوجية المنفتحة التي قلما نجدها اليوم حتى لدى النخب العراقية التي يقال عنها انها متحررة من كل القيود الثقيلة، مقارنة بما حظيت به النخب العراقية في كل من الخمسينيات والستينيات في القرن العشرين، ولعل تحليلات جاك بيرك لقيمة تلك النخب تمنحنا الثقة بأن المجتمع العراقي قادر على العطاء والابداع عندما تمنحه حرياته الثقافية والاجتماعية قبل ان تطلق يده كي يعبث باسم الديمقراطية والحريات الشخصية.

ملاحظات نقدية
ثمة ملاحظات نقدية وأساسية لابد أن اثيرها ذلك ان قسم علم الاجتماع في جامعة بغداد كان اول قسم علمي يعتني بهذا العلم في منطقة الشرق الاوسط.. ولكنه بقي قسما خاملا باستثناء جهود الاستاذ الدكتور علي الوردي وبعض الزملاء الذين اشتغلوا على المجتمع العراقي.. ويعد قسم علم الاجتماع اخطر قسم علمي في العراق نظرا لتوجس الدولة العراقية بمختلف انظمتها السياسية من علم الاجتماع.. وعليه، فان معظم كادر هذا القسم عملوا على بحوث نظرية ومحاضرات ناشفة لا تمت بأي صلة للمجتمع العراقي.. والاسباب عدة منها قبل كل شيئ تأثير الخوف من السلطة لمجرد التلميح الى اي تحليل علمي معمّق للمجتمع العراقي والخوف ليس من السلطة، بقدر ما هو الخوف من المجتمع. وعليه، نجد ان اي محاولة في فك الغاز وبنية المجتمع وفضح تناقضاته سواء في مجال الكتابة والنشر او في مجال المحاضرة والتدريس سوف لن تجد لها اي فرصة لتحقيق اي نتائج تعالج مشكلات المجتمع وتساهم في حل معضلاته الجسيمة.
لم يعد التحليل المادي وصراع الطبقات هو المنهج الاساسي في الدراسات الاجتماعية اليوم، انما تستخدم اليوم عدة مناهج لا تعتني بالطبقات حسب، بل تعتني بالانساق والوحدات الاجتماعية، ثم تحليل انثربولوجية ثقافات المجتمع الواحد ومنهج القرابة في التأصيل والبحث عن عوامل ليست اقتصادية بالدرجة الاساس.. فالقيم الاجتماعية حسنة كانت ام سيئة في مجتمع كالعراق هي اكبر في كثير من الاماكن والاحيان من القيم المادية.. ثم هناك منهج المحليات والقوى الفاعلة لمعرفة الاصناف المتنوعة في المجتمع وخصوصا في مدن عريقة بالمهن فيها مثل الموصل وبغداد.. ثمة منهج يلتصق بكتابات جاك بيرك الذي اعتنى بالثقافة الاجتماعية والجماعات والنخب ودراسة منتجات ما تعبر عنه في حياتها الاجتماعية قبل اي شيئ آخر. اما منهج دراسة التنوعات الاجتماعية، فلا يمكن تفكيك البنية الاجتماعية العراقية اليوم من دون الاستعانة بدراسة التنوعات لمعرفة حالة الانسجام والتناغم من ناحية، ومعرفة حالات التناقض والتباين من نواح أخرى. واعتقد اعتقادا جازما بأن حالات التناقض والتباين هي المسيطرة والاكثر هيمنة على اعلب فصائل المجتمع العراقي.. وعنها ولدت الاحقاد والكراهية والبغضاء والبلاوي السوداء.

تحليل مصادر المعلومات
مصادر معلوماتنا متنوعة ولكنها صعبة المنال نجحت على مدى ثلاثين سنة من الحصول عليها من توالي الايام والسنين.. انها تتصل بتاريخ المجتمع قبل واقعه، وهي تتنوع ما بين الرواية والحدث والنص.. وهي مضامين مخطوطات قديمة وارشيف تقارير سرية الى رحلات وسالنامات ومعلومات رسمية ووثائق واضابير ومذكرات ورسائل تتوزع في هذا العالم، ناهيكم عن ما يحتفظ به العراق من ذخائر ثقافية وسياسية وسرية ورسمية ناهيكم عن احصاءات سكانية فضلا عن موروث ثقافي هائل لا يمكن السيطرة عليه بسهولة يمتد من فولكلوريات وقصص وتراث اجتماعي وامثال شعبية وحكايات واساطير ومنتجات ادبية وفنية وتعابير ومصطلحات عراقية بحتة.. الخ كلها لا تملك عشر معشارها مجتمعات اخرى.
من الامور الاخرى التي اود الكشف عنها ان سجلات المحاكم الشرعية العراقية ودوائر الطابو والتسوية والضرائب والنفوس.. وغيرها تلقي بكم هائل من المعلومات الرسمية التي لا تشوبها شائبة، ولكنني وجدت ان معلومات المرجعيات الدينية مبتسرة منذ القدم، فاغلب السجلات التي سمح لي الزمن ان اطلع عليها لا تعتني بالمعلومات الاجتماعية عن جماعاتها وفئاتها الاجتماعية بقدر ما تعتني بالامور الدينية والفقهية في المرجعيات الاسلامية واللاهوتية الكنسية في المرجعيات المسيحية.. وليس فيها الا معلومات شحيحة عن عقود زواج او مهور او اسماء موتى او نسخ من وصايا.. ولا يمكن ان يتاح الامر بسهولة حتى للعلماء في الاطلاع على المقبوضات المالية وحجم الانفاقات في كل المرافق الدينية العراقية وهي لا تعد ولا تحصى. ثمة امر آخر، اذ ان كل ما انتجه المبدعون من الادباء والروائيين العراقيين المحدثين يقدّم مادة ثرية في معرفة التوغّل في مفاصل المجتمع وتعّلم جملة هائلة من السلوكيات شريطة معرفة ربطها بالواقع ناهيكم عن كيفية فهم تلك الادبيات التي تعج بها حياة العراقيين المحدثين. ولقد وجدت ان رسائل واطروحات الدراسات العليا عن مجتمع العراق هي اقوى مادة وتحليلات في تلك التي انجزت في جامعات غير عراقية مقارنة بمثيلاتها في جامعة بغداد.
ان ما يمكنني الاشارة اليه هو ان ما قدمه رجال الثقافة العراقيين من غير الاكاديميين في القرن العشرين من تجميع معلومات عن المجتمع هي اكثر بكثير من تحليل رجال الاكاديمية العراقية لتلك المعلومات.. ان اسماء مثل: انستاس مارى الكرملي وغروترود بيل والليدي آن بلنت وعباس العزاوي ومعروف الرصافي وبطرس نصري وادي شير ومحمود فهمي درويش ومصطفى جواد ويعقوب سركيس وصديق الدملوجي وامين المميز وداود الجلبي ومحمد امين زكي ويوسف رجيب ورؤوف الغلامي وجعفر الخليلي وعبد الرزاق الحسني وسعيد الديوه جي وجرجيس فتح الله وعبد الرحمن التكريتي وبابو اسحق ومير بصري ويوسف حبي وعبد الحميد العلوجي وسهيل قاشا وغيرهم (ممن فاتني ذكرهم)، قد قدموا معلومات عن الاقليات والاديان والامثال الشعبية والطوائف والاصناف والعشائر اكثر بكثير مما قدمه اكاديميون عراقيون في القرن العشرين. المهم ملاحظته هنا ان علماء الاجتماع من العراقيين وجملة كبيرة من رجال الفكر العراقيين لم تستطع السيطرة على هكذا خزين اجتماعي ثر من اجل تحليل المجتمع العراقي، وباسثناء محاولة او اثنتين من قبل بعض الاكاديميين العراقيين، فان المجتمع العراقي بطوله وعرضه لم يدرس حتى يومنا هذا دراسة حقيقية، او ان تفكك تناقضاته بشجاعة متناهية و ان تعالج جملة هائلة من عوامل الخلل فيه خصوصا وان تناقضاته هي التي افرزت حياته السياسية في القرن العشرين واصبح كل من المجتمع والدولة رهينة بيد موروث صعب جدا لا يمكن تخيله ابدا. صحيح ان مجتمعنا العراقي اليوم لا يتجاوز الثلاثين مليونا من البشر، ولكن بنيته الاجتماعية معقدة جدا على اشد ما يكون التعقيد ليس بسبب التنوع والتعدد والالوان العراقية الزاهية، بل بسبب الارث الثقيل لكل من عمق التاريخ والمركزية الجغرافية التي تمتع بها العراق منذ القدم.
ثمة دراسات عراقية وغير عراقية يمكننا ان نشير اليها، ولكنها لم تعتن بالمجتمع بقدر ما اعتنت بالدولة اولا وبتحليل العلاقات الاجتماعية ومنتجاتها وهنا يبرز امامنا عمل المؤرخ الراحل حنا بطاطو الذي صرف عليه سنوات طويلة واخرجه بالرغم من كل اتعابه فيه الا انه عني بالطبقات الاجتماعية ومنتجاتها السياسية من دون فهم الاليات التي كانت تعمل في سياقات متنوعة ليس في السياسة حسب، بل حتى في اصغر الوحدات الاجتماعية المعقدة. ان عمله يكاد يكون اثرى عمل لتاريخ اي مجتمع في منطقة الشرق الاوسط، ولكنني ارجع لاقول بأن العراق اكبر بكثير ايضا من كل اتعاب مؤرخ واحد استطاع بقدرة قادر نجهلها حتى اليوم الوصول الى ارشيف العراق السري بسهولة لا يستطيع احد منا نحن المختصين العراقيين ان كان سيصل اليها ابان القرن العشرين. ان منهج بطاطو الذي استلهمه عن ماكس فيبر في تأثير القرابة الاجتماعية قد خدمنا في حقيقة الامر خصوصا وانه اعتمد المعلومة والرقم والجدولة الحسابية على عواهنها مما اوقعه في اخطاء جسيمة، في حين انه لم يتوغل في الذي يكمن وراء المعلومة والرقم والحدث والشخصية بحد ذاتها. ثمة دراسات اخرى لابد ان اشير الى اعمال مفيدة ربما لم تعتن كفاية بالبنية الاجتماعية العراقية، ولكنها حفلت بتفسيرات من نوع آخر تساعد في فهم المعلومات والاحداث والوقائع ولكنها لا تساعدنا البتة في فهم الظواهر والانساق واساليب التفكير ووراثة التقاليد ومؤثرات البيئة والتربية البيتية.. اشير في هذا المجال ايضا الى اعمال رصينة نشرها كل من: لونكريك وجاك بيرك والبرت حوراني وهاريس جورج لورانس وكوتلوف وغسان العطية ومارتن فان برونسين وجون ادموند والبرتين جويده وفالح عبد الجبار وكمال مظهر وبيتر وماريان سلاكليت ودينا خوري وايلي خدوري وهالة فتاح وجبار قادر غفور وخلدون ناجي معروف وعبد الجليل الطاهر وحسين علي محفوظ وسامي سعيد الاحمد وابرام شبيرا ومعن خليل عمر ورشيد الخيون وفوزية العطية وهاشم الجنابي وغيرهم.
ملاحظات على بعض الدراسات الاخيرة
لقد نشر خلال السنتين المنصرمتين ركام هائل من المنشورات والكتب عن العراق وخصوصا باللغة الانكليزية، ولا يمكن للمرء ان يسيطر على قراءة ذلك مهما اوتي من زمن وجهد.. ولكن لابد لي ان اقف عند ابرز المراجع التي يمكنني تحليلها هنا والتي نشرها اساتذة وكتاب غير عراقيين وغير عرب.. ربما نشيد بجهودهم البالغة في ما قدموه للعالم عن العراق.. ولكن ليس بالصورة الحقيقية التي يدركها العلماء العراقيون مهما اوتيت للاخرين من فرص وامكانات.. وخصوصا من الناحية الاجتماعية. ان اعمالا رصينة كالتي نشرها مؤخرا كل من: روبرت اولسن وجيرارد غايلياند وساره شيلدز واريك ديفس واسرائيل كرشوني وتوبي دوغ وكنعان مكية ووليام كليفلاند وستيفن كلين وجوزيف ساسون ونانسي بيرك ويتزاك نقاش وافرا بينغويو.. وغيرهم لابد ان تكون عند اهتمام العراقيين، ليس لكتابة عروض عنها، بل لاخضاعها للنقد والدراسة.. ثمة مواقف مسبقة من حالات بعينها، وثمة تجاهل لعناصر من المجتمع، ولا استطيع بهذه العجالة ان اوضح اعتراضاتي على كثير من المعلومات التي سيقت خطأ في كتب هؤلاء وغيرهم.. اذ لا يمكن لأي محلل سياسي او مختص اكاديمي ان يغامر في تقديم معلومات عن المجتمع العراقي منقولة قيل عن قال من دون معايشة العراقيين ومعرفة مجتمعهم بكل تعقيداته وجزئياته وتفصيلاته.

القسم الثاني
المضمون وتفكيك البنية

الخارطة الاجتماعية ومعاييرها
لم ترسم حتى اليوم اي خرائط اجتماعية وهي ليست خرائط سكانية او خرائط في الجغرافية البشرية، وهنا تأتي اهمية دراسة البنية الاجتماعية للعراق والتعرف على طبيعة الفسيفساء الاجتماعي الذي يتحدث به الجميع من دون معرفة كنه تفصيلاته ومعلوماته على وجه الدقة.. ومن خلال التجربة المتواضعة لي فانني اجزم بأن اي عراقي مهما كان صنفه او عرقه او بيئته او دينه أو طائفته.. لم يعرف العراق بعد من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه.. فكيف سيعرفه الغرباء معرفة حتى وان كانت سطحية!؟؟ وبقدر ما كان الامر مسكوتا عنه على مدى اكثر من خمسين سنة نظرا لأن العراقيين كانوا قد حبلوا بالسياسة وجبلوا بها واكلوها اكثر من الخبز، واهتمامهم بالحركات السياسية والنزعات الايديولوجية والبيانات الثورية والشعارات القومية اكثر من اهتمامهم بالمجتمع فان هذا لم يكن سببا كافيا، اذ ان المجتمع نفسه لم يعلن عن مخفياته التي لا تعد ولا تحصى..!!
نعم، كان المسكوت عليه اكبر حجما من المعلن عنه وما يعرفه هذا عن ذاك هو قليل جدا لا يستوف ابدا ومتطلبات معرفة المجتمع معرفة حقيقية.. فعندما يغني ابن الهور اي اغنية من اغنياته لا يمكن ان يفهم معانيها ومغازيها ليس ابن الموصل، بل حتى ابن الفرات الاوسط! والاثنين من ارومة واحدة.. ثمة امر آخر، ان حكم البعثيين للعراق قد ساعد كثيرا على كتم الاشياء من دون التعريف بها اما استخفافا بها او عدوانا عليها ام تجاهلا اياها.. ولما سقط حكم صدام حسين، بدأ العراقيون انفسهم يتعرفون لأول مرة على جملة هائلة من آليات بعضهم البعض الاخر. ان العديد من العراقيين قد فوجئ وهو من ابناء الخمسين عاما باشياء كثيرة لم يتصورها انها تكمن في العراق ولدى العراقيين انفسهم. ان اعظم ما كسبه العراقيين (وغيرهم من بعدهم) من تغيير نظام صدام سقوط الالهة وكل الرموز التي جعلت من نفسها وصية على المجتمع. لقد تحرر الانسان من الخوف، ولقد انحلت عقدة اللسان التي استحكمت في القرن العشرين.. ولكن الانفجار قد سبب هزات اجتماعية مرعبة واعمال بدائية متوحشة اخذ العراقيون ينتابهم عامل الخوف مرة اخرى ليس من الدولة هذه المرة، بل من المجتمع نفسه! لقد انطلق العراقيون ليعبروا عن انفسهم تعبيرا حقيقيا او مشوها، فهم حتى هنا انقسموا الى قسمين متناقضين اثنين، قسم مؤيد للنظام الجديد، وقسم لم يزل يوالي النظام القديم. فهذا يعّبر سلما وذاك يعبر عنفا! وكم كنت اتمنى على رجال الدين العراقيين الكبار والصغار ان يبقوا مبتعدين عن السياسة، كيلا تهتز مكانتهم وسمعتهم بين الناس بين شاتم من طرف وبين مادح من طرف آخر، ناهيكم ان تركة العراق الثقيلة لا يمكن ان يحلها رجال دين، بل انها بحاجة ماسة الى اناس اكفاء لهم خبراتهم وتخصصاتهم ومعرفتهم بحقائق العراق الكبرى والصغرى.
معنى التناقضات العراقية: الجدلية والصراعات
لابد من التعمق في معنى التناقضات التي تحكم بنية المجتمع العراقي من الناحيتين اللغوية والفلسفية، ولكن من الاهمية بمكان ان نقّرب الصورة كثيرا من حالة مكشوفة للعيان يمكنها ان تكون مثلا ساطعا لكل مشكلات البلاد السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. وهي حالة يدركها الجميع القاصي والداني.. انها حالة صدام حسين الذي عرفه كل العالم بكل بشاعته وغرابته التي اعتبرها افرازا طبيعيا لكل تناقضات العراق في القرن العشرين!
كيف؟
ربما كانت حالة واحدة ولكنها حماّلة جملة كبرى من الاوجه ومثقلة بركام هائل من التناقضات المفضوحة: لقد وجدناه عندما يتحدث بلهجته الجلفية التي لا يستسيغها ابناء العراق كلهم، ولكنه مناقض لنفسه فيها وهو رجل دولة يقف على رأسها.. وجدناه ينتفض ويثور من اتفه الاسباب ويشعل الحروب ولكنه يتحدث عن تجارب التاريخ.. نراه يتصرف كالاشقياء العتاة وهو يسّمي نفسه بالسيد الرئيس القائد (مع حزمة من الاوصاف التي لا تستقيم والمنطق او العقل).. نراه يقف بابهى قيافته الحديثة وقبعته الامريكية على رأسه والسيكار الطويل في حلقه وهو بين جموع المصفقين العراقيين الذين يرثى لحالهم وملابسهم الرثة الممزقة.. نجده يستخدم ارقى السيارات الفارهة مع ابنائه وصحبه واقرانه وابناء الشعب يستخدمون العجلات المهترئة القديمة، بل ولم تزل الحمير تنقل مشتقات النفط العراقي في قلب بغداد.. نجده يحتفل احتفالات امبراطورية بيوم ميلاه والناس يسحقون من الفقر والجوع وهم يرونه جالسا في عربته المذهبة المخملية.. نجده ينتحل الاكاذيب ويلفق الاقاويل ويخدع الناس من دون اي حياء ولا خجل ولا اي اعتراف بالذنب.. نجده وقد اصبح وعائلته اشبه بالالهة بكل ما عرفه الانسان من جبروت ولكن يلقى القبض عليه في حفرة حقيرة نتنة وباسوأ مظهر عرفه حاكم في التاريخ.. الخ من جملة الامثلة والاستشهادات التي توضح لنا حالة جلية من التناقضات الصعبة..

مجتمع تأكله التناقضات
لقد عاش العراقيون منذ القدم في ود وصفاء، اذ تخبرنا كتب التاريخ ان التعايش والتواد والتواصل بين العراقيين كان مثلا يحتذى خصوصا كلما ابتعدنا في الماضي تبدو الصورة صافية ورائعة، وكلما اقتربنا من التاريخ الحديث، وجدنا زيادة ملحوظة في حدوث مشكلات ومعضلات ربما لا تصل الى درجة الصراعات وقتل العراقيين للعراقيين، اللهم الا في حالة أخذ الثأر او تصفية الحسابات في حين نجد ان التعايش بلغ اقصى روعته وذروته في كل ارض العراق اذ وقعت على سندات ملكية عقارات يشترك في واحد منها مسلمين ومسيحيين في بيت واحد. لقد بدأت تناقضات العراقيين المعاصرين منذ تضاعيف القرن التاسع عشر، والتي كان لابد ان تراعى مع بدايات تشكيل الدولة والمجتمع الحديثين عام 1921 عدة اعتبارات لاستئصال ركامات الماضي الصعب ومعالجاتها، والانطلاق في مناخ زمني جديد، ولكن برغم كل المحاولات الا ان حجم التناقضات وثقلها قد جعل المجتمع يتقهقر في العقدين الاخيرين كثيرا مع حجم ما اقترف من اخطاء كبرى. ان التناقضات نكاد نجدها في كل قسمات المجتمعات العربية ومجتمعات المنطقة، ولكن المجتمع العراقي قد فاق الاخرين بتأثير تلك التناقضات واعبائها والتي انتجت تعبيرها السياسي والاجتماعي في اشكال متباينة.. ترجمتها الاحزاب السياسية والنزوعات القاسية وآليات القتل والتعذيب والفاشية والوشايات وتأليه الحكام وكتابة التقارير والثأر السياسي والنفاق السياسي والكبت الاجتماعي والتشفّي وسحل البشر وقطع الرؤوس واباحة المال العام والسباب والشتائم واذلال الضعفاء والخوف من السفهاء مع سلوكيات المكابرة والنفخات الفارغة والشوارب الكثة واستعراض الانوية والبطولة المزيفة والانتقاص من الاذكياء والمبدعين وبخس الاعمال الجيدة ونبذ الروح الجماعية.... الخ
اذا كانت الحالة التي وقفنا عليها استثنائية او ربما من يقول انها حالة شاذة، فانني اقول بأنها حالة معّبرة بادق صورها عن مجتمع تأكله التناقضات، فكيف يمكننا تصنيف ذلك؟

تصنيف تناقضات الواقع الاجتماعي العراقي

اولا: ان التناقض الاجتماعي في العراق يأخذ أقصى مداه جغرافيا بين مجتمع جبال وهضاب واودية وعرة الى مجتمع سهوب وحشائش الى مجتمع سهول وزراعة الى مجتمع انهار وضفاف انهار الى مجتمع بوادي وصحاري الى مجتمع بساتين الى مجتمع اهوار الى مجتمع انواع جغرافية اخرى. ربما كان التأثير الجغرافي قليلا في صنع التناقضات، ولكن على امتدادات السنين سيخلق انواعا من الامزجة الملتوية والسلوكيات المتنافرة.. فضلا عن ان جغرافية العراق المتماسكة بتأثير نهري دجلة والفرات قد خدمت المجتمع من شماله الى جنوبه باعتماده عليهما.

ثانيا: ان التناقض الاجتماعي في العراق يأخذ اقصى تنوعاته اقتصاديا بين مجتمع رعوي واخر عشائري وآخر قبلي (والفرق كبير بين العشائري والقبلي) ومجتمع زراعي وآخر صناعي وآخر تجاري (بتنوعاته الكبيرة والصغرى) وآخر مهني حرفي وآخر مدني وظيفي الذي يجاريه عسكري مهيمن.. مرورا بمجتمع طفيلي خلق حديثا وهو يجمع جماعات طفيلية متخلفة ولكنها تملك الملايين بلا حدود وقد تبلورت هذه الطبقة من خلال اسباب غير مشروعة وصولا الى مجتمع عمالي (حتى للاطفال والنسوة) وانتهاء بمجتمع تنابلة كالذي ينضوي فيه ملالي ورجال دين صغار في المدن لا تشغلهم الا المناسبات ويقابله مجتمع غجري (الذي يسميه العراقيون بمجتمع الكاولية او القرج او المطاربة).. الخ عند حوافي المدن. هنا تصل درجة التناقض الى ذروتها بدءا من الشمال وخصوصا حول مدينة الموصل واطرافها وصولا الى مدينة البصرة واطرافها.

ثالثا: ان التناقض الاجتماعي يأخذ اقصى مداه نسويا عند المرأة العراقية التي ربما تعاني اليوم ليس من مجتمع ذكوري حسب، بل من هيمنة التخلف باسم الدين تارة وباسم التقاليد تارة اخرى.. والمجتمع الانثوي العراقي نفسه يعج بتناقضات هائلة بعد ان كان يتطور ببطء منذ الخمسينيات، ولكن ماذا نجد اليوم؟ ففي الوقت الذي تجد المرأة العراقية قد وصلت درجة راقية من الابداع والثقافة الحديثة تنتشر الدلالات في مجتمع كسيح بكل الشوارع العامة وقد زحفن حتى الاردن وسوريا.. وبالوقت الذي تجد المرأة العراقية ذكية وعملية وربة بيت ماهرة وموظفة وطبيبة ومعلمة نشيطة ومزارعة تتحمل كل المشاق.. تجدها مضاعة حقوقها الشرعية والمدنية وانها اليوم منتكسة في كل مكاسبها لما آل اليه وضع العراق بسيطرة الاحزاب الدينية على الحكم! بحيث يمكن قياس المأساة من قهر حتى النسوة المسيحيات من قبل الجماعات الدينية المسيطرة.

رابعا: ان التناقض الاجتماعي يأخذ مستوياته غير المتكافئة في العراق طبقيا، اذ ان تناقضاته فاضحة جدا لواقع غير عادل ابدا، ومن الصعوبة جدا تحقيق اي عدالة اجتماعية فيه ما دام هناك مجتمع محافظ ومجتمع مهترئ.. مجتمع تجار ومجتمع مهن.. مجتمع احياء حديثة ومجتمع ازقة.. مجتمع جماعات فنية ونخب وثقافة ومجتمع جماعات دينية وسدنة وحسينيات.. مجتمع افندية ومجتمع دشاديش.. مجتمع ادب عربي ومجتمع ادب شعبي.. ومجتمع الادب الشعبي مصنف بين شعر اهل مدن وشعر اهل ريف وشعر اهل بادية.. هناك ايضا: مجتمع نوادي ومطاعم وعلب ليل ومجتمع صوامع وتكايا ومناسبات دينية.. (كان من المفروض ان يغدو المجتمع العراقي كله مجتمع افندية باحذيتهم الجلدية اللماعة ولكنه آل الى ان يغدو مجتمع دشاديش قذرة ونعل بلاستيكية)!! ولعل اظرف التناقضات وجدتها في عراقيين كثر، منهم من يؤدي طقوسه الدينية باوقاتها وقد غدت عادات اجتماعية ليس الا، في حين اسمع عراقيين اخرين منهم يستخدمون اقذع انواع الشتائم والسباب بحق احدهم الاخر، بل وبحق رب العباد وبشكل علني!!

خامسا: لقد انجب مجتمع العراق العديد من الشخصيات غريبة الاطوار التي تجتمع عندها جملة هائلة من التناقضات، وهم كثر ليس في حياة المجتمع بل في حياة الدولة. ومنهم: رؤساء جمهورية ورؤساء حكومات ووزراء وقواد وضباط واساتذة جامعيين واعلاميين ورجال اعمال.. الخ ولابد من وقفة مطولة عند هذه الظاهرة الاجتماعية التي لم ازل اتابعها حقيقة منذ فجر عصر السلالات وكلاسيكيات الثقافة العراقية مرورا بالعصور الوسطى وما افرزته مجتمعات مدن العراق ابان العصر العباسي وانتقالا الى العهود التالية وصولا الى العهد العثماني وما كان في العراق من ثقافات غريبة حملها اناس غير طبيعيين ابدا.. وانتهاء بالقرن العشرين وما انجبه العراق من عدد كبير منهم لا نحظى بمثلهم ابدا في بيئات اخرى في الشرق الاوسط.

سادسا: بقدر ما نجحت الدولة العراقية في القرن العشرين ببناء مؤسسات قوية لها، الا انني اعتقد بأنها قد اخفقت في بناء مجتمع متماسك.. وبقدر ما نجحت الدولة في تعظيم نفسها، فشلت في خدمة المجتمع وجعله مجتمعا متواضعا متسامحا.. وكم كان رائعا لو بقيت الدولة في خدمة المجتمع لا ان يحدث العكس، عندما بدأت الدولة بامتهان المجتمع واخذت تستخدم تناقضاته من اجل ابقاء انظمة الحكم تتلاعب بمصير العراق كله.. وبقدر ما كان الجيش العراقي الذي يشيد به الجميع يمتاز بالقوة والرهبة، والادعاء بأنه من الشعب واليه، الا انه فشل في يكون مدافعا حقيقيا عن المجتمع ونجح في تأليه الدولة ومن ثم السلطة.. لقد كان المجتمع يكره في قراره جيش العراق كراهية عمياء، ولا اظن ان عراقيا واحدا كان يلهث وراء خدمة العلم، لأن جيش العراق جمع كل التناقضات المتوحشة وخصوصا في العهود الجمهورية واستخدمت فيه كل الوسائل غير الانسانية في اذلال الاقليات وامتهان كرامة الاصلاء وتفشي الرشوة والمحسوبيات واستخدام كل البشاعات. وكان جيش العراق وراء كل الهزات والانتفاضات والقمع والاحكام العرفية والانقلابات الدموية!! بل وسجل فصولا مأساوية من قمع المجتمع في عهود مختلفة.. ولا استطيع ان اشهد اجيالا قادمة ستحتفل بكل ما صنعه جيش العراق في القرن العشرين في الحروب التي خاضها.. ناهيكم عن النهاية التي انتهى اليها في كل من عام 1991 وعام 2003.

سابعا: لعل اخطر من ساهم في العبث بمجتمع العراق واذكاء تناقضاته هو ذلك البعض من زعمائه الذين تولوا قيادته بعد حكم الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان يعشق شعبه، ولكن لم يدرك او يفهم تناقضاته، فغلبت عاطفته على المنطق.. اما عبد السلام عارف، فلقد اثار جملة هائلة من التناقضات عندما لعب باسم الدين على المجتمع، فاغاظ المسيحيين، ونبش في المسألة الطائفية التي تعتبر صاعقة حارقة على من يستخدمها.. ناهيكم عن كل الجنايات التي ارتكبت في عهده باسم القرارات الاشتراكية وما نتج عن ذلك من تأثيرات مخّلة بطبيعة المجتمع العراقي التي تختلف اختلافا جذريا عن مكونات المجتمع المصري وطبيعته.. ولما تولى البعثيون حكم العراق، فجّروا المزيد من التناقضات، وعرف عن كل من احمد حسن البكر وصدام حسين انهما يكرهان بتأثير قرويتهما حياة المدن واساليب مجتمع العراق العليا.. ولقد بقيت عقدة صدام حسين ملازمة له حتى الرمق الاخير عندما كان يسمع العالم بأن مجتمع العراق لم يعرف الاحذية وان العراقيين لبسوها على عهده.. ان مجرد القاء مثل هذه الاوصاف، فهي كافية لتفجير تناقضات من كل حدب وصوب.. ناهيكم عما فعلته الحكومات من اختلال في الهيئة الاجتماعية العليا بمصادرة الاراضي الزراعية باسم الاصلاح الزراعي الذي اضرت سياسته بالانتاج الزراعي العراقي منذ ذلك الوقت حتى اليوم.
ثامنا: هذا ينقلنا الى ظاهرة اشاعها الكتاب والساسة التقدميون وخصوصا من الشيوعيين العراقيين الذين قالوا بوجود الاقطاع في العراق، وعلى اساسه صدرت جملة من القرارات المجحفة بحق الملاكين. وهنا لابد لي ان اتوقف قليلا ذلك انني لا اجد اقطاعا في العراق مقارنة بما كان في مصر! ان هناك في العراق شيوخ قبائل وشيوخ عشائر ينتشرون في الريف العراقي وكل شيخ ينضوي تحت اسمه المئات من الفلاحين الذين يستمدون منه قوتهم وحياتهم.. ان الاقطاع لا اجده في العراق ابدا باستثناء ما كان هناك من اقطاع في العمارة. صحيح ان هناك من شيوخ القبائل من يمتلك الاف الدونمات من الاراضي، ولكنه لم يكن يمتلك الفلاحين، فالفلاحون العراقيون يحسبون ضمن منظومته العشائرية ضمن قانون دعاوى العشائر. ان ما صدر من قرارات قد اخل بالمعادلة الاجتماعية وفجّر جملة هائلة من التناقضات.


القسم الثالث
الشخصية العراقية وطبيعتها

عوامل رسوخ التناقضات
ولا يمكننا ان نقف على تناقضات تصل الى حد الصراعات في تاريخ العراق الاجتماعي، وهنا لابد من القول:
اولا: ان مجتمع العراق قد صادفته عدة متغيرات وعاش صفحات متنوعة عبر زمن طويل.. فلا يمكن ان نقيس مجتمع العراقيين في العصور الكلاسيكية كالمجتمع الذي تمتع به العراقيون ابان العصور الوسطى مقارنة بما اتصف به المجتمع العراقي في العصر الحديث اي منذ بدايات القرن السادس عشر حتى بدايات القرن العشرين.. ومنه ولد في رحمه مجتمع العراق ابان القرن العشرين ونعتبر جزءا منه.. وهو الذي يتوالد عنه مجتمع القرن الواحد والعشرين ويرث تركة مجتمعنا بكل ما له وما عليه.. تبقى مسألة غاية في التعقيد تتحرى مجموعة اجابات تضم حقائق واجتهادات لا حصر لها عند علماء التاريخ الاجتماعي، وهي التي يمثلها تساءل يقول: ما الذي يحمله مجتمع العراق اليوم من بقايا وجذور الماضي؟ ولكن اي ماض؟ انني أؤمن ايمانا راسخا كما وضحّت ذلك تاريخيا في كتابي (بقايا وجذور: التكوين العربي الحديث) المنشور عام 1997، او كما حللت ذلك فلسفيا في كتابي (المجايلة التاريخية: فلسفة التكوين التاريخي) المنشور عام 1999. انني أؤمن بأن المجتمع العراقي قد ورث موروثات هائلة من الماضي الصعب والمتعب وخصوصا ما حدث ابان القرون الاربعة التي سبقت القرن العشرين.. وان مجتمع العراق (الذي اسموه بالحديث) قد ورث كل بلايا ماضيه، ولما اصطدم صدمات صاعقة بمكونات ومنتجات ومعطيات العصر ولدت عنده تناقضات هائلة اسوة ببقية المجتمعات العربية والاسلامية في المنطقة، ولكن اكاد اجزم بأن تناقضات العراق اكبر بكثير من تناقضات الاخرين.

ثانيا: ان التحديات الخارجية التي ألمت بالعراقيين قد ولدت جملة تعايشات متنوعة ولكن هذا لا يمنع من ان نجد ركاما من التناقضات التي حكمت المجتمع العراقي في تراكيبه الثلاثة، المدن والريف والبادية.. فلقد شهدت المدن صراعات داخلية محلية لم ترق الى ان تبقى مزمنة ودائمة وخصوصا بين طرف واخر او بين محلة واخرى.. والاسباب عادة ما تكون اقتصادية ومعيشية بالدرجة الاولى.. اما الارياف، فلقد شهدت هي الاخرى تناقضات وتعايشات في آن واحد وكثيرا ما نجد تحول خلافات عشائرية الى صراعات دموية.. وكانت البوادي ولم تزل تشهد صراعات نتيجة تناقضات اجتماعية بين طرفين واسبابها اجتماعية واقتصادية بالدرجة الاولى. ولم تقتصر الصراعات التي تولدها تناقضات شتى على ملة معينة او طائفة محددة او قرية معلومة.. بل انما تشمل المجتمع باسره.. ولابد ان نتذّكر بأن العلاقات الاجتماعية العراقية بقيت متباينة في نزوعاتها وتتوارث جملة هائلة من الموروثات والعادات والتقاليد البالية التي كانت تسبب بحد ذاتها صراعات مزمنة تترسب عنها تناقضات صارخة.. ان التركات والثارات والخاوات والنهية والزيجات والارض والماء والارواء.. الخ كلها تقف وراء ركام هائل من الاختلافات.. وتخبرنا بعض الروايات ان خلافات طوال بين عشائر او اسر وعوائل دامت لعشرات السنين. وثمة صراعات خفية تذكيها تناقضات اجتماعية دينية او مذهبية في مدن معينة دون اخرى..

ثالثا: تعتبر الطائفية خازوقا مدقوقا في قلب العراق منذ قرون مضت – كما يذكر احد اصدقائي العراقيين -، وهي بلاء ارعن ابتلي به العراق.. وحاول العراقيون المدنيون اخفاء تناقضاتهم الطائفية ردحا من الزمن، ولكن هذا البلاء عاد من جديد ليشكل اسفينا شائكا وصعبا لا يمكن انتزاعه بسهولة في اي تنظيم سياسي او اي مؤسسات للدولة، فما بال الدولة ان كانت تتبنى النزعة الطائفية وتكرسها دستوريا! ان اي اعلان لاذكاء اي مشكلة اجتماعية او سياسية في العراق من قبل طرف طائفي ضد الطرف الاخر.. معنى ذلك تكريس للتناقضات واحياء مشروع خلافات كانت مختفيا ودعوة صريحة للصراع الاجتماعي وهو اقسى بكثير من الصراع السياسي. ولابد من القول ان اي تدخل ديني من قبل اي مرجع ديني في اي قضية سياسية في العراق، معناه تأجيج مواقف الاطراف المخالفة.. وعليه، فالعراق كما قلنا واعدنا وكررنا منذ الساعات الاولى لسقوط الطاغية لا يمكن ان يحكمه اي حزب ديني ولا اي جماعة دينية ولا اي دستور ديني. ان خلاص العراق دولة ومجتمعا لا يتم الا من خلال مؤسسات معلمنة (= مؤهلنة – كما اسميتها -) يمارس السلطة فيها عراقيون مدنيون وان تختفي الهوية الطائفية سياسيا. فكل طائفة لها اجندتها الدينية المخالفة للاخرى، فطالما عبر ذلك في الطقوس والعادات والتقاليد الاجتماعية والمشاركة فيها، فليس له خطورته مقارنة اذا ما استمدت السياسة العراقية مواقفها من اجندة دينية (أي بمعنى: طائفية). واستطيع القول كما كان يردد عقلاء من رجالات العراق بأن كل المشكلات العرقية والقومية والاقلياتية لها حلول الا المشكلة الطائفية التي لا حل لها الا باخفائها في العمل السياسي والوطني تماما ومن اي مشروع حقيقي للعراق.

رابعا: عندما يتشدق البعض انهم سلالات حضارات قديمة وان عمرهم الحضاري يتجاوز سبعة الاف سنة.. فهذا خطاب فيه دليل صحة عندما نجد النخب العراقية الذكية التي تتمتع بخصال اصحاب الحضارات الاولى، بل وما ورثه العراقيون في لهجاتهم وفولكلورياتهم واساليب حياتهم.. ولكن الامر لا ينطبق على عموم مجتمع مهترئ بعاداته وتقاليده البالية التي تجسد التخلف بكل ابعاده.. ان اعتلال مجتمع العراق وهو يحمل كما هائلا من عوامل التخلف والذهنية المركبة والشخصية المتناقضة قد ادى الى اختباء كل الاذكياء وهروب كل العقول وشقاء كل المفكرين وسيطرة كل البلداء وهيجان كل الاشرار وعصف كل المتطرفين والمتعصبين وهيمنة كل الطفيليين.. ربما تخدمنا آراء جملة من القادة والزعماء ورجالات الفكر والخبراء والرحالة والمستشرقين الذين اختبروا العراق ومهروا في الكشف عن حقائق المجتمع العراقي.. لا يمكننا ان ننسى ما كتبه او قاله عن اهل العراق كل من: المؤرخ هوميروس والامام علي (رض) والامام الحسين (رض) والامام الشافعي (رض) والخطيب البغدادي وابن جبير وابن بطوطة والمحبي والعمري وصولا الى المس بيل والملك فيصل الاول ونوري السعيد وعلي الوردي..

خامسا: من الاهمية بمكان ان انقل عن كتابي " انتلجينسيا العراق: دراسة في النخب العراقية المثقفة " النص التالي: " تنوعت مواقف المثقفين العراقيين إزاء السلطة، نتيجة لتبدل السلطات وتنوعها هي الأخرى على مدى قرن كامل، هكذا، اختلفت توجهاتهم باختلاف طبيعة الأساليب الثقافية أو الثقافوية التي اضطلعوا بالتعامل معها، ومن ثم تم التفاعل فيها، وقد تلاشت معظم توجهاتهم الواعية وطموحاتهم في الإصلاح والتغيير كونهم اصطدموا بالتناقضات الاجتماعية جنباً إلى جنب مع الواقع السياسي المرير، لقد كان المجتمع أقسى عليهم كثيراً في أنماط تفكيره ومجمل علائقه الأسروية والبيئية، وتقاليده وعاداته، وأنساقه المتخلفة في المحليات والأطراف، إلخ، وطالما اتهموا بانتمائهم إلى الطبقة البرجوازية وأنهم ابتعدوا عن مصالح المجموع. لقد كان مجتمعهم قاسياً عليهم بسلطاته القسرية المتعددة التي أحكمت قيودها على أي مثقف كان يحمل فكراً مستنيراً ويعلن بجرأة عن مواقفه الحرة والصريحة إزاء سلبيات المجتمع وأمراضه، كان المجتمع لما يزل أقوى من المثقف المستنير، فيشقى بوعيه وأفكاره وتجاربه، ويجد أن مجال التثاقف هو الأقوى والمسيطر بفعل السلطات الاجتماعية متعددة الأطراف التي تخدم التخلف.

سادسا: هناك – أيضاً – سلطة العقائد والتقاليد والطقوس الاجتماعية المتوارثة، وسلطة قوانين (= أعراف) العشيرة، وشكليات العلاقات المهزوزة، وموروثات المؤسسات الوقفية والتفكير المرتبط بتلك الموروثات، ثم الطرائقية الصوفية (= التكايا والزوايا) كانت ولما تزل أشكالاً من قهر السلطة السوسيوتاريخية الارثية، وقمعها لنخبة الاستنارة والمثاقفة، فكان أن ظهر تعارض مطلق ناشز بين الذات الاجتماعي المعقد الذي كان يريد إرضاء افق التفكير السائد بكل أنساقه الافقية، وبين الوعي الحقيقي بالتغيير، والنضال من أجل إجراء التحولات على الصعيد الفكري الحديث، صدامات متعددة بين المهن القديمة (= طبقة الصناع التقليديين/ الحرفيين والتجار الصغار) وبين المهن الجديدة (= فئات مثقفة من الصحفيين والمحامين والأطباء..)، تعارضات ساخنة بين الأجهزة الدينية في الجوامع وتدريس العلوم الدينية المتوارثة (= المدارس الدينية) وبين المؤسسة التربوية والتعليمية الرسمية (= المدارس الحديثة)، باختصار: حدوث تناقضات واسعة النطاق بين الاعتبارات الافقية القديمة المسيطرة وبين المؤسسية العمودية الحديثة ووسائلها ".

سابعا: الاحادية: كانت نزعة الاحادية بالنسبة للمجتمع مقتلا له ومصرعا لحياته.. العراقي احادي بطبعه لا يرضي على احد ولكنه يريد من هذه الاحد تقديسه!! لقد كان هناك الملايين يوالون الزعيم الاوحد، وهناك الملايين ينضمون ويسجلون في الحزب الواحد.. وهناك تأليه السيد الرئيس القائد انه التماهي بين النزعة الفردية ومصرع الروح الجماعية.. ما اجتمع عراقيون الا واختلفوا.. كل واحد يريد لنفسه وكل واحد يريد لذاته.. اختلافات العراقيين اكبر من اتفاقاتهم.. كان على الدولة ان تعمل على زرع روح الجماعة في المجتمع وترّبي وازع الثقة والاحترام، ولكن هذا لم يحدث ابدا.

البنية الاجتماعية
ان بنية المجتمع العراقي لا تقتصر على ثنائية استاذنا علي الوردي في البداوة والحضارة، فلقد نشرت منذ زمن ليس بالقصير افكاري حول المجتمع العراقي بتشجيع من الاستاذ المؤرخ البرت حوراني الذي اهتم بها اهتماما كبيرا، ولما طرحتها مؤخرا على الاستاذ علي الوردي نفسه وافقني على الثلاثية التي اظهرتها والتي كانت سببا من اسباب تفجير تناقضات المجتمع العراقي بديلا عن ثنائيته التي كان قد اذاعها قبل خمسين سنة، فلقد قال الرجل بأنها تمتد بين الحضارة والبداوة وان تصادمهما قد سبب وبالا على كل ما في المجتمع العراقي من ادران وكثيرا ما طغت البداوة حسب رأيه على الحضارة.. وهنا يمكنني القول بِأن المدينيين ليس شرطا ان يكونوا متحضرين، فالناس المدينيون (Urban people) شيئ والناس (Civilized People) شيئ آخر! اما ثلاثيتي التي تنص على تصادم كل من المدينة والريف والبادية هي التي انتجت كل هذا التلاقح من المشكلات التي قد تصل في ظروف قاسية الى المعضلات الصعبة. فلا يمكن اعتبار البداوة في صدام دائم مع التمدن، لأنني اعتبر مجتمعات البدو لا تحمل بقايا معقدة جدا بقدر ما تحمله بقايا الريف العراقي الذي تعّرض لاقسى الحملات التاريخية واشنع المعاملات الاجتماعية ليس من ابناء المدن حسب، بل من السلطات في الدولة.. وكان " الفلح " (= الفلاحون) ادنى بدرجات من غيرهم في العراق.. وابناء الريف يحملون دوما احقادهم على ابناء المدن لاسباب اجتماعية بدرجة اساسية ليست سياسية ولا اقتصادية، بل ربما غدت تاريخية بفعل التناقض العسير بين الدواخل في المركز و(الاطراف) في المحيط.
على امتداد قرون طوال كانت ابواب المدن تغلق على الساعة السادسة مس