من حق أي كاتب أو مفكر أو حتى الإنسان العادي أن يغير أفكاره ويبدل قناعاته حينما يشاء إذا جاء عن وعي ذاتي وتطور معرفي وبلا إكراه. وقد اعتاد العرب في فترة الستينيات وما تلاها أن تنشر في صحفهم براءة كوادر الأحزاب أو المفكرين والصحفيين من انتماءاتهم السياسية أو الشبهة بها، وكان الدافع واضحا الخوف أو الطمع وبالترهيب أو الترغيب من الأجهزة الأمنية العربية.
ولكن أن يعلن المفكر الإسلامي سيد القمني براءته "وتوبته" عن كل فكره واعتزاله الكتابة وبلا رجعة فجأة وخوفا من القتل وتشريد أسرته وتحت تهديد من كفّروه وأراقوا دمه بشرط تنصله من ذاته ونفسه، فيطرح سؤالا لا بد أن يجيب الجميع عليه، أية ظلامية تساق إليها مجتمعاتنا؟ ومن سمح لهؤلاء القلة بالتغوُّل والسيطرة؟ ومن أعطاهم حق منح وحجب صكوك الغفران والتوبة للمسلمين قبل غيرهم؟
من نصَّبهم حراسا على أبواب الهداية وبشروطهم ورؤاهم؟ ومن أجاز اساليبهم وأسهلها القتل والترويع والتكفير وسفك الدماء، لماذا لم يقاومهم الجميع ويعلموهم أن " الله يهدي من يشاء" بالرحمة وبالمجادلة الحسنة. ومن أعطاهم تصنيف الضلال لإباحة قتل المسلمين في أي مكان بحجة مقاومة المحتلين؟
من علمهم كل تلك القسوة والقتل بدم بارد وبفتاوى خاصة لا يعرفها الدين؟ أين سندهم في قتل عشرين ألف مواطن عراقي جلهم من الأطفال والنساء بينما يخرجون للبحث عن لقمة العيش، ويبيع بعضهم دماءه لتوفيرها لصغارهم الجياع، بينما لم يقتلوا سوى ألفين من الجنود الأمريكيين رغم الادعاء بأنهم هدفهم؟
كيف يصير إرهابهم كفاحا حتى في ظل الخوف منهم ومن طول أياديهم؟
لا يمكن إلا تسمية الأشياء بمسمياتها، هذا إرهاب ولا شيء غيره، إرهاب يتسربل بعباءات الدين، وفكر ظلامي تدميري يتمسح بالإسلام.
تنفس العرب الصعداء حين تبين أن منفذي تفجيرات لندن باكستانيون مسلمون، ثم أطل وجه عربي فانكمشوا، وفي الحالين كان الإسلام هو المتضرر الأول، فمن اختطف الدين باسم الحفاظ عليه أثار العالم ضده وشوه صورته بدموية ووحشية غير مبررة.
لا إسلام يبيح قتل الآمنين حين يستسهل الإرهابيون أماكن عملهم ومواصلاتهم وتجمعاتهم لسهولة اختراقها.
لقد فتح الغرب أبوابه للمهاجرين من المسلمين منذ عقود طويلة، ذهبوا للعلم أو العمل أو هروبا من ضيق الحرية في مجتمعاتهم، فنبغ منهم علماء واقتصاديون ومفكرون وعملوا في كل المهن ونعموا بالاستقرار وأقيمت مساجدهم في أفضل الأماكن، بينما ظلت بعض دول العرب خالية من كنائس الغربيين فلم يعترضوا. فتحوا بلادهم ومنحوا جنسياتها للمسلمين القادمين، وتعايش هؤلاء بسماحة الإسلام وانفتاحه، ولكن العقدين الأخيرين من القرن الماضي شهدا هجرة بهدف آخر هو الإرهاب ونشر فكره هناك، واستفادت جماعاته من حرية الغرب ودعمه لهم لأسباب سياسية أحيانا فارتد عليهم.
لقد كشف بعضهم أهدافه الإرهابية وبلا مواربة، ففي لقاء مع أبو حمزة المصري على قناة الجزيرة قبل سنوات، سأله المذيع سامي حداد عن مهاجمته للغرب بينما يحمل الجنسية البريطانية ويعيش من أموال الضرائب والتأمينات والمساعدات البريطانية، فقال بالحرف الواحد، "بلادهم كالحمّام، أدخلها لقضاء حاجتي ثم أخرج منها بعد ذلك".
يومها لم يلق الإنجليز القبض عليه، ولم يجردوه من الجنسية، ولم يعيدوه إلى مصر ليسجن وهو المطلوب فيها، تساهلوا مع أمثاله حتى طالهم الإرهاب.
وفي البلاد العربية تساهل الحكام مع الفكر الانغلاقي وأفسحوا له العمل ليضربوا به الأحزاب الليبرالية والتقدمية، وضيقوا الخناق عليها بكل السبل، ولكن هذا الفكر السلفي ارتد على الحكام قبل غيرهم قتلا وتكفيرا.
أما الفكر الليبرالي فقد انتهج أيضا سياسة توفيقية مع الفكر السلفي، إما خوفا واتقاء لبطشه، أو محاولة منه للاستفادة من سرعة تنظيمه وانتشاره، فكان خاسرا في الحالين. فقد طغى هذا الفكر وارتد قتلا وتكفيرا وهيمنة حتى على الوسطيين من رجال الدين ومؤسساته.
وتهديد سيد القمني ورضوخه الذي قد يُفهم في سياق قوة الاحتمال والظروف الخاصة به، فقرة في سلسلة اغتيال الفكر والقتل وإقامة الحسبة وخنق الحريات باسم الدين. ولكن الرضوخ يعني مزيدا من بطش هذه الجماعات وإعادة المجتمعات إلى كهوف الظلام والجهل، ونزع كل مكتسبات التنوير والفكر الحر وحقوق النساء.

[email protected]