الأحداث المتتالية في العراق لا يمكن قراءتها بنحو تبسيطي دون الغور في أعماقها الداخلية. فما ينتج من خطابات، ويصدر من مواقف لقوى سياسية وعسكرية بتنوعاتها المتعددة، يكتنه في داخله، ويستبطن، أكثر مما يظهر بكثير. وبالتالي فإن قراءة ما بعد الخطاب، والوجه الآخر، أو لنقل النيات المؤسسة له، هي ما سيجعل المشهد أكثر وضوحا.
الصورة المعقدة، السنية، الشيعية، الكردية...والإرهاب، والعمل السياسي، والممانعة السلبية. كل هذا الواقع المتشابك والمستعصي على الفهم، يجعل من المفيد أن يتم وضع الأمور في نصابها، وارجاعها لمصدرها. من هنا ياتي السؤال عن موقف السنة العرب من مسودة الدستور العراقي الأخير، وهو الموقف ليس المعارض وحسب، بل المعرقل والمؤجل لأي حل سلمي من الممكن أن يقترح، والموقف الدافع للشك في صدقيته، خصوصا مع الطهرانية الكبيرة التي يظهرها حيال الإسلام والعروبة، وكأن الدستور الجديد جاء ليشق صدور العراقيين وينزع من داخلها انتماءهم الإسلامي والعروبي!.
كل هذا يجعل التساؤل يأخذ منحىً أبعد واكثر قسوة، على نحو التسؤال عن من يمثل هذا الرفض، وصوت من يرتفع رافضا للدستور: صوت سنة العرب أم سنة صدام؟.
السنة كتشكيل مذهبي يضم اطيافا متنوعة، ومواقف متباينة، بين القبول، والرفض، والتحفظ، أي أنه ليس موقفا واحدا متجانسا. لكن الصوت العالي هو صوت التشدد والانكفاء الذي يمارس سياسة وضع العصي في الدواليب، ويمعن في حد الزوايا بدلا من تدويرها.
الموقف المتشدد تمارسه ثلاث تيارات داخل الوسط السني، هم: بقايا النظام الصدامي البعثي القديم، وهم فئات واسعة كانت مستفيدة، تمتلك العديد من الامتيازات، ووجدت نفسها فجأة خارج المعادلة الجديدة، مقصية مبعدة، ولذا راحت بأي وسيلة تعمل على عرقلة أي مشروع سلمي، اعتقادا منها بخطورته على وجودها، وتأثيره المباشر على مصالحها المادية. التيار الثاني يتمثل في السلفية السنية الممسكة بعصبوية الشارع السني العام، وأبرز من يمثل هذا الموقف "هيئة العلماء المسلمين في العراق". هذا التيار لا يمكنه القبول بحكم شيعي راجح، يكون السنة فيه أقلية محكومة لا حاكمة. ولا تزال "الخلافة الإسلامية" كمفهوم قائم على غلبة أهل السنة والجماعة على من سواهم من فرق ومذاهب، هو الخيار والحلم المسيطر على ذهنيتهم، رافدين هذا الحلم بتاريخ موغر في القدم كانت فيه الغلبة للسنة، ما يجعل من الصعب عليهم أن يتعايشوا مع عهد جديد لا يمتلكون زمام أمره، وناصية قراره. أما التيار الثالث فهو تيار السلفية الجهادية الذي يكفر الشيعية ويرى في الخطر الشيعي الأمريكي خطرا يتهدد الأمتين العربية والإسلامية، وتجب مقاومته بقوة السلاح والعمليات التفجيرية. مهمة التخريب هذه قادتها خلايا "القاعدة" وأبو مصعب الزرقاوي، وفلول الإرهابيين القادمين من البلدان العربية المجاورة. تلك البلدان التي أرادت التخلص من إسلاموييها، فوجدت في العراق "مكب نفايات" جاهز لاستيعاب ما يصدر من قنابل بشرية مفخخة.
هذه التيارات الثلاثة وتحت شعار "مقاومة المحتل" و"تحرير العراق"، اجتمعت على مشروع محدد وهو توقيض أي عملية سلمية، ومنع قيام حكم بأرجحية شيعية، سارقين بذلك الشارع السني العراقي نحو التطرف والطائفية، ومعبئين جيله الجديد بثقافة الكراهية والموت.
السلوك المتطرف السابق، هو سلوك يمكن وصفه بالأقلي. بمعنى أن هنالك رغبة عراقية واسعة، تمثلها أغلبية كردية شيعية لا تفتقد للسنة ، ولا تستثنيهم ولا تلغيهم، وتعمل جاهدة على إرضائهم، محاولة تفتيت هذه الممانعة الأقلوية، وتوريطها في العملية السياسية.
إن بقاء الموقف العربي السني على هذا النحو سيدفع لعزلة تدريجية، وانشقاقات داخلية، سيكون ضحيتها، وأكثر المتضررين منها، على العكس مما يتصورون. فمهما كانت الجماعات الإرهابية قادرة على البطش والتخريب، ومهما وفرت دول عربية من دعم مادي ولوجستي، ومهما أعطت زعامات دينية من شرعية فقهية، ومهما كان الشعار العروبي والقومي براقا، إلا أن قدرة كل هذه الأسلحة على الصمود لن تكون طويلة، بل، سترتد على مستخدميها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ليس كل أهل السنة في العراق هم مع هذا التشدد، فهناك شرائح واسعة مغيبة مع الحل السلمي والانخراط في المشروع السياسي.
ليس هنالك من يعتبر الدستور نصا مقدسا لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه. إلا أن الرشيد هو من ينخرط مشاركا في كتابته لا عرقلته، ومن يستفتي معه أو ضده بناء على مصلحة العراق، لا مصلحة الطائفة والحزب، لذا من المفيد الاحتكام الى العقل، والانخراط في العمل السياسي السلمي، والقبول بقواعد اللعبة الديموقراطية، والتخلي عن عقلية الغلبة والتسلط، وممارسة المعارضة بالوسائل المشروعة، بدلا من السيارات المفخخة وإيواء الإرهابيين وتوفير غطاء شعبي وشرعي لهم.

[email protected]