لم يجد الرئيس بوش الأبن سوى الحديث في خطابه أمام الجمعيّة العامة للأمم المتحدة عن أنجازات السياسة الأميركية. وكان عليه بعد ذك بذل جهد كبير لنفي ما ورد في تقرير للأستخبارات الأميركية عن أنّ الحرب على العراق زادت من تفاقم ظاهرة الأرهاب بدل الحدّ منها. يبدو جليّاً أن أن في الأمكان الحديث عن فشل للسياسة الأميركية في كل مكان وعلى كل المستويات. في أساس الفشل الأكتفاء بأسقاط نظام quot;طالبانquot; والأنصراف ألى غزو العراق وكأنّ كلّ شيء يسير على ما يرام حسب الخطة المرسومة. كان شعار أدارة بوش الأبن اليوم أفغانستان وغداَ العراق وبعد ذلك، كلّ من يتجرّأ على قول لا لواشنطن. يكفي لأعطاء فكرة عن الفشل الأميركي الأشارة ألى ما يجري في أفغانستان . فقد عادت أفغانستان ألى الواجهة فجأة. بعد مرور خمس سنوات على أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، يتبيّن أن المهمة التي نذرت الولايات المتّحدة نفسها من أجلها في أفغانستان لا تزال غير منتهية حتى لا نقول أن هناك عودة ألى نقطة الصفر. أكثر من ذلك، يبدو أن هناك حرباً جديدة، أو على الأصحّ متجدّدة، في أفغانستان وأنّ quot;طالبانquot; لا تزال حيّة ترزق وهي قادرة على المقاومة طويلاً.
ثمة عوامل كثيرة تستفيد منها quot;طالبانquot; التي عادت تقتل وتفجّر في أنحاء مختلفة من أفغانستان. في مقدّم هذه العوامل الأعتقاد الأميركي بأنّ كلّ شيء سار على ما يرام في البلد منذ أسقاط نظام quot;طالبانquot; وأن الحركة هُزمت أمام التجربة الديموقراطية التي أستطاع الغرب فرضها خصوصاً بعد أجراء أنتخابات quot;حرةquot;في البلد. ومن هذا المنطلق لم تعد حاجة ألى مزيد من القوات الأطلسية والدولية لضبط الأوضاع الأفغانية.
من الواضح أنّ الحسابات الأميركية في أفغانستان كانت خاطئة. هناك quot;طالبانquot; التي عادت تقتل وتفجّر بعدما تبيّن أنّها أستطاعت ألتقاط أنفاسها وأعادة تنظيم صفوفها. وهناك فشل في تشكيل سلطة جديدة متجانسة في أفغانستان مع عودة quot;أمراء الحربquot; ألى الواجهة، كلّ يحكم منطقته، وأزدهار زراعة المخدّرات وانتاجها مجدداً والشكوى الباكستانية الصادرة عن الرئيس برويز مشرّف الذي بات يعتقد أن زعيم quot;طالبانquot; الملاّ عمر صار أشدّ خطورة من أسامة بن لادن! وفوق ذل كلّه يأتي العجز الأميركي عن ألقاء القبض على زعيم quot;القاعدةquot; ليتوّج خمس سنوات من الجهود الفاشلة في تحويل أفغانستان ألى تجربة ناجحة.
يحصد الأميركيون حالياً، ومعهم البريطانيون، نتائج جهلهم للوضع الأفغاني. أنّه جهل من النوع العميق ألى درجة أنّه حال دون أستفادة الأميركيين من أي تجربة سابقة لهم في هذا البلد. ربّما كانت التجربة الأهم التي كان على الأدارة الأميركية التوقف عندها قبل الأقدام على أيّ خطوة في أفغانستان، تلك التي سبقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حين كانت الولايات المتّحدة تشجّع quot;طالبانquot; على فرض الأمن في البلد ومكافحة زراعة الأفيون وبسط نفوذها على كل شبر من الأرض الأفغانية على حساب من يسمّون quot;امراء الحربquot;. وكان بين quot;أمراء الحربquot; أحمد شاه مسعود صديق الأميركيين الذي لم يتوقف عن تحذيرهم من نتائج دعم quot;طالبانquot; ومن الخطورة التي يشكّلها شخص أسامة بن لادن. ولكن ما العمل مع أدارة لا تريد سماع نصائح أقرب المقرّبين أليها، أدارة همّها الأوّل والأخير في مرحلة معيّنة أيجاد سلطة مركزية قويّة في أفغانستان لتفادي مرور الأنابيب التي تنقل النفط المستخرج من آسيا الوسطى ومحيط بحر قزوين عبر أيران أو ألأراضي الروسيّة. لم تدرك الولايات المتحدة خطورة أسامة بن لادن وquot;طالبانquot; ألاّ متأخّرة. وكان على أحمد شاه مسعود زعيم quot;تحالف الشمالquot; دفع حياته ثمن مقاومته لquot;طالبانquot; وأسامة بن لادن. فقد أرسل أليه ألأخير من يقتله قبل ثماني وأربعين ساعة من أحداث الحادي عشر من أيلول. في الواقع، أرسل أليه أنتحاريين من quot;القاعدةquot; من أحدى دول شمال أفريقيا العربية لنسفه. هذا هو أسلوب quot;القاعدةquot; التي عادت ألى الحياة بسبب السياسة الأميركية الفاشلة.
يمكن القول، أنّ في أساس الفشل الأميركي في أفغانستان الجهل التام لما يمكن أن يؤدي أليه الأستثمار في quot;طالبانquot; من جهة والأنصراف ألى حرب العراق من جهة أخرى وذلك قبل الأنتهاء من تنظيف أفغانستان من حركة متخلّفة ومتطرّفة في آن وحتى من بن لادن. من نصح الأدارة الأميركية بالذهاب ألى العراق فور الأنتهاء من أسقاط نظام quot;طالبانquot; في أفغانستان، بغض النظر عن النتائج التي ستترتب على ذلك وقبل ترتيب الأوضاع في البلد؟ ثمة شخص لعب دوراً أساسياً في هذا المجال. أنه بول ولفويتز رئيس البنك الدولي حالياً الذي كان نائباً لوزير الدفاع لدى وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر. في اللقاء الأوّل لكبار المسؤولين الأميركيين الذي أنعقد في منتجع كامب ديفيد برئاسة بوش الأبن للبحث في الرد على العمل الأرهابي الذي أستهدف نيويورك وواشنطن، أثار ولفويتز قضية العراق رابطاً نظام صدّام بالأرهاب. أعترض عليه كولن باول وزيرالخارجية الأميركي وقتذاك، وتقرر التركيز على أفغانستان أوّلاً. ولما سُئل نائب وزير الدفاع لاحقاً عن الأسباب التي دفعته ألى طرح قضيّة العراق في الأجتماع، أجاب أنّه quot;زرع البذورquot;. ولم يمض وقت طويل ألاّ وأينعت البذور التي زرعها ولفويتز وفي مارس 2003، بدأ ألأجتياح الأميركي للعراق.
بدل الفشل الأميركي الواحد، هناك فشلان في كلّ من أفغانستان والعراق. أقلّ ما يفترض في الأميركيين أدراكه أن الحرب غير المنتهية لا يمكن أن تكون سبباً لحرب جديدة أو أساساً لمثل هذه الحرب. لم تنجح أميركا في أفغانستان كي تسمح لنفسها بالأنتقال ألى العراق... أما ولفويتز، فلم يجد ما يقوله لصحيفة quot;لوموندquot; قبل أيّام سوى أنه يعترض بصفة كونه رئيساً للبنك الدولي على منع السلطات في سنغافورة التظاهرات التي كان سينظمها ألمعادون للعولمة أحتجاجاً على أجتماعات للمؤسسات المالية العالمية أنعقدت في أراضيها. صار ولفويتز يقول الآن:quot;من المهم الأستماع ألى الذين لا يفكّرون مثلنا. هؤلاء يمكن أن يكونوا على حق أحياناًquot;. في موضوع الحرب على العراق، كان المعترضون على أمثال ولفويتز على حق لا أكثر ولا أقلّ، لماذا لم يستمع أليهم في حينه؟!
هناك فشلان أميركيان في أفغانستان والعراق. كلّ منهما مرتبط بالآخر، هل في أستطاعة الأدارة الأميركية التفكير جدّيا في الأخطاء التي أرتكبتها؟ هل تمتلك ما يكفي من الشجاعة للتعاطي مع الحقائق والقيام بعملية نقد للذات... أم تمارس عملية هروب ألى أمام لن تقود سوى ألى أرتكاب أخطاء جديدة من نوع الخطأ الذي يكمن في الطريقة التي يحاكم بها صدّام حسين الذي تحوّل من مجرم ألى ضحية. حصل ذلك ليس بسبب سخف القاضي الذي يتولّى محاكمته فحسب، بل بسبب ما يحصل في العراق أيضاً. أمّن الأميركيون كلّ ما يلزم من أجل أندلاع حرب أهلية ما زالوا يرفضون الأعتراف بأن البلد غارق فيها. أذا كان ما يحصل في العراق ليس حرباً أهلية، فما هي الحرب الأهلية أذاً ؟