لم تكن المحاكم الأستثنائية جديدة على العراقيين، فقد تشكلت المجالس العرفية والمحاكم الخاصة منذ العهد الملكي، وكانت تتشكل من ضباط الجيش وتصدر أحكامها بحق المناوئين للسلطة الملكية آنذاك.
وأستمر العمل بالمحاكم الأستثنائية حتى بعد سقوط الحكم الملكي وقيام النظام الجمهوري، ولعل المحكمة العسكرية العليا الخاصة بمحاكمة المتآمرين ومفسدي نظام الحكم من أول المحاكم الأستثنائية الخاصة التي دشن بها العهد الجمهوري أيامه، وتمت محاكمة المتهمين من قبل ضباط الجيش مع توفر لمسة قانونية تجسدت في وجود مدع عام حقوقي بالإضافة الى توفر بعض الحقوق والضمانات، إلا أن قراراتها كانت لاتخضع للتمييز ولم يكن من بين أعضائها قاض واحد، بل لم يكن بينهم حقوقي واحد.
وحين حل زمن الخراب العراقي في 8 شباط 63 صار لكل مقر من مقار الحرس القومي محكمته الخاصة ولجان تحقيقيه المتخصصة في أبشع أساليب التعذيب والقتل، وصارت المجالس العرفية التي تشكلت أيضاً استمرارا لحالة القضاء الاستثنائي وفقاً للظروف غير الاعتيادية التي يمر بها العراق.
وبعد سلسلة من الفجائع العراقية والانقلابات،تطورت المحاكم الأستثنائية لتصير محاكم أمن الدولة الأولى والثانية، وهي أيضا محاكم تتشكل من ضباط الجيش العراقي ولاعلاقة لها بالنظام القضائي العراقي ولا تخضع قراراتها للتمييز، ووقف إمام هذه المحاكم خيرة رجال العراق من أبناء الحركات الوطنية، حيث كانت ترسلهم الى السجون القصية ولمدد طويلة لاتنسجم أو تتناسب مع القضايا المتهمين بها.
ولعل الذاكرة العراقية لم تزل تتذكر أسماء تركت أسوأ الآثر في نفوس الناس يتقدمهم شمس الدين عبد الله ونجم الدين عبد الله العاني من رؤساء تلك المحاكم والمجالس العرفية الظالمة .
وبعد نجاح انقلاب 17 تموز 1968، شكل الأنقلابيون محكمة استثنائية برئاسة عزت مصطفى وفليح حسن الجاسم وعدد من أعضاء قيادة البعث، ولكون القرارات لم تكن تروق الى البكر ndash; صدام، ولعدم مجيء الأحكام وفقا لما يتطابق مع عقلية الحاكم، تم إقصاء العاملين في تلك المحكمة ومعاقبتهم، و جميعهم لم يكن بينهم قاض أو حقوقي واحد.
وتم تشكيل محكمة خاصة في قصر النهاية تشكلت من طه ياسين رمضان لوحده دون وجود أعضاء ولا مدع عام ولانصوص قانونية ولارقابة، أخذت على مسؤوليتها محاكمة مجموعة جابر حسن الحداد وراهي عبد الواحد الفرعون في العام 1970، كانت الأحكام تصدر أما بالإعدام الفوري أو الإفراج في ساحة قصر النهاية، وتمت محاكمة عدد غير قليل ممن كانت السلطة تحركاتهم من ذوي الميول القومية، حيث تم إعدام عدد منهم فوراً وبأمر من طه ياسين رمضان وبأشرافه وأمام أنظاره دون وجود تحقيق أو إدانة، ( ويمكن مراجعة كتاب المناضل القومي السيد أحمد الحبوبي ndash; ليلة الهرير ).
ثم تشكلت محكمة الثورة وأنيطت رئاستها بالعقيد علي هادي وتوت وعضوية عسكريين آخرين، وأحيلت عليها القضايا التي لايراد للقضاء العراقي النظر بها، والتي تجد السلطة أنها من القضايا الأمنية التي تخص أمن الدولة، وبقيت هذه المحكمة تنظر في قضايا الشتم والسب على رئيس الجمهورية، بالأضافة الى تخصصها في القضايا التي تخص القضايا الأمنية والسياسية، وتعاقب على رئاسة تلك المحكمة العديد من الرؤساء، غير أن مايلفت الأنتباه انه لم يترأس تلك المحكمة قاض عراقي واحد، ولم يكن احد أعضاؤها من القضاة الفعليين، كما لم يكن من بين رؤسائها حقوقي واحد، ابتداءا من علي هادي وتوت مرورا بمسلم الجبوري، وبالنظر لتوسع صلاحيات هذه المحكمة واستلابها للأختصاص القضائي في العديد من القضايا الجنائية، وبالنظر لكون المحكمة المذكورة لاتخضع لطرق الطعن القانونية، ولا لأشراف محكمة التمييز ومجلس العدل، ولاتتقيد بالضوابط المنصوص عليها في قانون اصول المحاكمات الجزائية، ولاتلتزم بالمدد العقابية المنصوص عليها في القوانين العقابية، وصارت المحكمة تنظر في العديد من القضايا التي تحال اليها من رئيس الجمهورية، أو من الأجهزة الأمنية الخطيرة ( الأمن الخاص والمخابرات والأمن العام )، ولعل السيد عواد حمد البندر كان من اشهر الأسماء التي عملت فيها.
وعواد حمد البندر لم يكن قاضيا ولم يدخل المعهد القضائي، ولم يتدرج في الوظائف والمناصب القضائية، ولاعرف فن القضاء العراقي، وبالتالي لاعلاقة له قطعاً بالقضاء العراقي، مع انه اكمل كلية القانون حيث أختار العمل الأداري في أروقة وزارة الداخلية، فكان موظفاً مغموراً متطلعاً إن يكون بوظيفة أدارية مرموقة من خلال سلوكه الدرجات الوظيفية الأدارية، ولأعتبارات خاصة فقد تم اختياره لرئاسة هذه المحكمة التي اشتهرت في العراق برهبتها وظلمها وتبعيتها الى أحكام ورغبات الحاكم .
وتحول البندر بين عشية وضحاها من موظف أداري مغمور الى رئيس لأخطر الأجهزة الحكومية التابعة لرئاسة الجمهورية، متمتعاً بحقوق المدراء العامين والدرجات، ومتنعما بمكارم صدام وعطاياه، وبحماية الأمن الخاص.
غير أن البندر بعد إن صار رئيساً لمحكمة الثورة حاول إن يثبت ولاءه للحاكم بأصدار أشد القرارات قسوة في أبسط القضايا الجنائية، وأشتهر أيضا بقسوته وسوء ألفاظه على المتهمين، وتطاوله على رجال وأحزاب العراق، وكما اشتهر بعدم تقيده بجميع الضوابط التي تستوجبها مستلزمات العدالة والقانون.
وصار عواد البندر مشهوراً في العراق لصيقاً بمحكمة الثورة، والتي ضج العراق بأحكامها الظالمة، حيث أصدرت المحكمة في عهد عواد البندر العديد من أحكام الإعدام بحق الأبرياء من اهل العراق دون تدقيق ودون وجه حق، وفي العديد من الأحيان الإعدام لأناس يتشابهون في الاسم أو دون السن القانونية المسموح بها، كما حدث في قضية الدجيل.
وتمادى البندر في إصدار هذه الأحكام لايخشى ربه ولا يردعه وازع من ضمير، فقد كان يرجو رضا الحاكم الذي كان منسجما مع ما يصدره البندر من أحكام.
وكان البندر لايمنح المتهم أية فرصة ويستهين بالمحامين والحقوقيين، وكان متجبراً طاغياً متكبراً متيقنا انه في مأمن من حكم الله والشعب مادامت سلطة الطاغية باقية وتحميه، غير أنه نسي إن الله يمهل ولايهمل، وبعد أن فاحت رائحة الأحكام الباطلة والظالمة التي يتم تنفيذها والتي حصدت عشرات الآلاف من أرواح العراقيين، تصدت منظمات حقوق الإنسان والتجمعات القانونية تدين السلطة العراقية في الزمن الصدامي وتفضح عمل محكمة الثورة وقراراتها الجائرة، مما أجبر السلطة لأيجاد مخرج قانوني وأعلامي لهذا الأمر، فأصدر الطاغية أمراً بالغاء محكمة لثورة ونقل رئيسها عواد حمد البندر الى ديوان الرئاسة ليصبح نائبا لرئيس ديوان الرئاسة.
غير أن السلطة الصدامية ولفرط غبائها القانوني ولعدم ثقتها بالقضاء العراقي الذي منعت عنه أي حق في نظر عدد غير قليل من القضايا الأمنية والجنائية التي منحت حق النظر فيها حصراً الى محكمة الثورة، وبعد إلغاء تلك المحكمة التي شكلت علامة عار وخدش في ضمير السلطة الصدامية تم تشكيل محكمة أغرب من محكمة الثورة، تلك هي المحكمة الخاصة بوزارة الداخلية العراقية، وتلك ابشع من سابقاتها حيث تتبع وزير الداخلية ولاتخضع لجميع الضوابط والقوانين وليس للقضاء العراقي اية علاقة بها، وفوق كل هذا فأن قراراتها قطعية وواجبة التنفيذ.
وبشهادة جميع العراقيين الذين اصدر البندر احكامه بالسجن الشديد أو المؤبد بحقهم، فقد كان قاسياً في كلامه وظالما في احكامه، ومتقيداً بما ترد اليه من تعليمات وأشارات بصدد تلك الأحكام، ولعل أخزى ما كشفته التحقيقات انه اصدر احكاماً بحق عراقيين ماتوا تحت التعذيب، حيث أصدر حكمه بأعدامهم بعد موتهم تبريراً لذلك الموت، كما تدلل استهانته بارواح الناس أصداره الأحكام بحق اطفال لم يبلغوا سن الرشد، مما يدلل على عدم احضار المتهمين امامه لمحاكمته.
غيرأن اصدق كلمة أطلقها المدان عواد حمد البندر عند أصدار الحكم بحقه في قضية الدجيل ولعلها الكلمة الصادقة الوحيدة التي انطلقت منه بعد إن وجد نفسه محاصراً بالأدلة التي عززها اعترافه إمام المحكمة وأدانته لنفسه دون إن يعي، انه قال ( الله اكبر على الظالمين... الله اكبر على الظالمين )، لكنه كان قد نسي هذه الكلمة حين كان رئيسا لمحكمة الثورة ولم يرددها مع نفسه مطلقاً خشية من انتقام الحاكم الطاغية، غير انه لم يخش انتقام الله لدماء الأبرياء والمظلومين من اهل العراق الذين طالتهم احكامه الجائرة حين كان على رأس اعتى سلطة سلطها الدكتاتور على رقاب العراقيين.
وستبقى كلمة الله اكبر على الظالمين مدوية في كل زمان ومكان، ليس بحق عواد البندر وأنما بحق كل أنسان ينسى نفسه وينسى الله ويوم لاينفع مال ولابنون.