كلمة حول (عِكرمة) وسيِّده بن عباس!

(عكرمة) هو يروي ذلك عن بن عباس، وعكرمة هذا الذي إعتمده البخاري في روايته صدرت في حقه ذموم كثيرة، ولا يهمني سعة روايته في التفسير عن إبن عباس، ولا مدى

الحلقة الأولى
حفظه لما يقوله الآخرون، فالحفظ وسعته، بل العلم بحد ذاته ليس دليل صدق وأمانة وحرص على قول الحقيقة ونقلها، فليكن أعلم الناس في التفسير، فهل يغني ذلك عن غواية شيطان، وتحريف حقيقة، ونزول نفس عند صغائرها المذمومة، وتحيز مسبوق بنية وتصميم؟
يتحدث عكرمة عن نفسه فيقول أنه صرف أربعين سنة في طلب العلم، ويقول إنه كان يفتي بالباب وإب عباس في الدار، وكان يقول إن بن عباس كان قد وضع على رجله (الكبل على تعيلم القرآن)، وكان يقول عن نفسه (إني لأخرج إلى السوق، فأسمع الرجل يتكلم بالكلمة، فينفتح لي خمسون بابا من العلم)، وكل ذلك لا يزكيه بطبيعة الحال، لأنها رواية عن نفسه، وعلى ذات المستوى تلك النقول التي تصفه بالبحر، وبسعة العارضة العلمية، وبأنه حافظة بن عباس، فهي لا تزكيه ولا ترفعه بالضرورة إلى مصدر رواية موثوق به، ومن ثم، لم يكن عكرمة سالما من النقد الجارح، وقد تعددت فيه مناحي النقد، ومجالات الذم، فقد كان الرجل بداية محل شك، أي هو محل كلام (قال حماد بن زيد : قيل لأيوب : أكنتم تتهمون عكرمة؟ قال أنا فلم أكن أتهمه)، وبالتالي كان محل شك من حيث المبدا، يعزز ذلك الرواية التالية (قال أيوب : قال عكرمة : أرأيت هؤلاء الذين يكذبوني من خلفي، أفلا يكذبوني في وجهي؟).
هناك اكثر من كلام رجالي يفيد أن عكرمة كان يبحث عن المال، عن الثروة، ولهذا رحل إلى أفريقيا بعد أن وصفوا له أهلها بالسذاجة والبساطة، فقد جاء في الكتب الرجالية (سعيد بن أبي مريم،عن أبن لهيعة، عن أبي الأسود، قال : كنت أول من سبب لعكرمة الخروج إلى المغرب، وذلك أني قدمت من مصر إلى المدينة، فلقيني عكرمة وسألني عن أهل المغرب، فأخبرته بغفلتهم، قال : فخرج إليهم، وكان أول ما أحدث فيهم رأي الصفرية).
تتعدى صيغة الموقف المرتاب من عكرمة لتصل إلى إتهامه بالكذب صراحة (... جرير بن عبد الحميد،عن يزيد بن زياد، قال : دخلت على علي بن عبد الله بن عباس، وعكرمة مقيد على باب الحش، قال : فقلت : ما لهذا كذا؟ قال : إنه كان يكذب على أبي). ونسب لسيعد بن المسيت إتهام عكرمة بالكذب، كذلك كان يقول بن أبي ذئب بأنه ليس بثقة، وكان مالك بن أنس فقيه المدينة سي الرأي بعكرمة، وقال بن علية (كان قليل العقل...)، وفي خبر (قال أحمد بن أبي خيثمة : رأيت في كتاب علي بن المديني، سمعت يحي بن سعيد يقول : حدَّثوني والله عن أيوب،أنه ذّكِر له : عكرمة لا يحسن الصلاة. قال أيوب : وكان يصلي؟). وأتهمه رشيد بن كريب بأنه شاهده يلعب النرد، وقال بن سعد (كان عكرمة كثير العلم والحديث، بحرا من البحور، وليس يحتج بحديثه، ويتلكم الناس فيه)، وعندما مات عكرمة لم يحتل موته اهمية لدى الناس، فقد مات (كثير عزة) وعكرمة، فشيع الناس كثير وتركوا جنازة عكرمة!!!
لقد صدرت توثيقات بالرجل، ولكن مع هذه الذموم، فإن أبسط ما يدعو إليه الفكر الحصيف هو التوقف، خاصة في الروايات ذات الطابع الغيبي المثير، التي تجعل من صاحبها محل نظر وتقدير وتعظيم وإشارة، وكانت مادة المعجزات والغرائب ذات سوق رائجة!
ولكن هناك سؤال مهم يتعلق بسيِّده بن عباس، ذلك أن الرجل لم يذكر مصدره في أخباره عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فهو يتحدث عن معركة بدر وكأنها شاهد عليها، أو شاهد من أهلها، وهذا تدليس بطبيعة الحال، لأن الرجل قد أخذها عن غيره، وهناك من علماء الرجال منْ يقول : أن أزني خير لي من أن أدلس. تدليس بن عباس مسالة يجب أن لا نتعامل معها ببراءة، فهل كان يريد أن يطرح نفسه كمؤسس للزمن النبوي؟ أو يريد أن يحصر بنفسه شرف هذا العلم العظيم في وقته؟ أو للأيحاء بأنه الوحيد الذي يعرف سيرة النبي الكريم؟

عار الأسر!
الأسر عار عند العرب، فأن تؤسر دليل ضعف أو جبن أو قلة حيلة في شؤون الحرب وفنونها ودروبها، فكيف إذا أُسر بطل، أو شجاع، أو سيد، أو شيخ عشيرة وزعيم واد؟
لا ننسى أن الأسير يسمى عبدا، أو يُعامل معاملة العبد!
لقد أسر العباس بن عبد المطلب في معركة بدر، والعباس رجل مطوال، أبيض اللون، شيخ أهل الوادي، ند إبي لهب، ملجأ بني هاشم، فهيم، قوي، كريم، إسمه يشفع، وصوته مميز، وإقباله مهاب...
أسر في معركة بدر، ولكن يجب أن نعلم أن إبن اسحق كان يكتب السيرة في زمن بني العباس، وبطلب من الخليفة العباسي، ذلك هو (المنصور) مؤسس الدولة العباسية، لهدف مرسوم بدقة، ذلك أن تكون السيرة نديم قوة، وحافز إعتزاز، ومنبع دليل لأبنه المهدي بل للدولة العباسية بالذات . و في الحقيقة هي إشارة من (المنصور) إشارة ذات نزعة باطنية، لا يخفى جوهرها على إبن اسحاق الذكي الفطن،إذن يجب معالجة صدى الأسر هذا، معالجة مستحقاته، همهماته في داخل المجتمع، وقد كان العباسيون يعملون على تاسيس ملكهم أو إعطاء ملكهم صفة شرعية مستمدة من علاقة مميزة بين محمد وعمه (العم صنو الأب!!!!!)، بين النبي الكريم وعمه، وكان ذلك عبر روايات مختلقة، ومواقف تعالج كل ما سجله التاريخ في حق العباس ولكن سجله بكلمات مثيرة للسؤال، والسؤال الذي يتصل بحق وجدارة بني العباس بالخلافة.
نقرأ في المغازي (جاء رجل من الأنصار بالعباس قد أسره،فقال العباس : يا رسول الله ليس هذا من أسرني،أسرني رجل من القوم أنزع من هيئته كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أزرك الله بملك كريم).

ما هو المخفي من الرواية؟
أولا : لم يُذكَر الآسر، لقد حجبت القوة هنا التاريخ.
ثانيا : تحويل الأسر إلى كرامة، فلم يـأسر العباس بن عبد المطل رجل عادي، بل ملك كريم.
ثالثا : تبرير خوار قوة العباس بين يدي الآسر العادي، ذلك أن الملك الواحد يستطيع بجناحه أن يزيل جبال.
هل بأمكاننا أن نقول أن رجلا عاديا أسر العباس لان العباس لم يرد أن يحارب حقا محمدا وأصحابه بدافع العصبية القبلية؟ ولماذا لا؟ وهو الذي كان يجهد أن يدفع بهذه الحرب بعيدا.
لست معنيا هنا بالسند، فقد رو اه الهيثمي واحمد وقالوا : والحديث إسناده صحيح. لست معنيا بهذه الصحة السندية التي تحولت اليوم إلى قضية منسية في الدراسات الحديثة التي تناولت قيمة الشفهي كتاريخ، والشفاهية كطريقة لنقل وحفظ التاريخ، بل وقيمة السند أمام العاطفة حتى ولو كان رجاله ثقاة عند أصحابه الذين قد لا نرتضي ولا نرضى طريقتهم بالتقييم والتوثيق، ولكن أنظر إلى السياق الذي ورد فيه الخبر، وزمن تدوينه، وهدف كتابة السيرة بأمر المنصور، والشخصية التي يتناولها الخبر وصلة ذلك بالصراع من أجل السلطة، رحمك الله يا ميشيل فوكو.
نقرا في البيهقي (... حدَّثنا موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال : كان السايب بن أبي حبيش يحدث الناس في زمن عمر إبن الخطاب رضي الله عنه يقول : والله ما أسرني أحد من الناس فيقال قن. فيقول : لما إنهزمت قريش أنهزمتُ معها، فيدركني رجل أبيض طويل على فرس أبيض بين السماء والارض، فأوثقني رباطا وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا، وكان عبد الرحمن بن عوف ينادي في العسكر من أسر هذا فليس يزعم أحد أنه اسرني حتى أنتى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يابن أبي حبيش من أسرك؟ فقلت : لا أعرفه وكرهت أن أخبره بالذي رأيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسرك ملك من الملائكة، اذهب يا بن عوف بأسيرك، فذهب بي عبد الرحمن بن عوف، فقال السايب : ما زالت تلك اللكمة أحفظها، وتأخر إسلامي حتى كان من أمري ما كان) / المصدر ص 340 /
أولا الرواية على لسانه، وهي كلمة أراد أن يتحرر بها من عار الأسر، فهو لم يؤسَر بشكل عادي وطبيعي، لم يأسره رجل عادي (فيُقََال قن)، أي عبد!!
تلك هي القوة الخفية التي كانت تصنع النص، وتخلق الخبر، بل وتبدع الخيال، مرة أخرى رحم الله مشيل فوكو.
ولكن في السند : موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، وكان معاصرا لمالك، حكم الدار قطني بتركه / مغني الذهبي 2 / رقم 6519 /. وأبوه محمد بن إبراهيم التيمي، وإن كان من ثقاة التابعين، ولكن في حديثه شي كما قال أحمد، فقد روى مناكير / المصدر رقم 5203 /
وفي الحقيقة سواء كانت الرواية صحيحة السند، أي منقولة حقا عن السايب أو لا، فإ نها تعكس بوضوح ثقافة زمنها فيما يتعلق بالأسير، نظرة المجتمع إلى الاسير، وإلى الأسر بحد ذاته.

و... ثقافة الأسماء
كان المحيط العربي مفعما بثقافة الأسماء، أسماء العشائر والأفخاذ والقبائل والمناطق والمعارك والأيام والزعماء والشعراء والانساب وغيرها وغيرها... فكيف كان حظ الذين قتلتهم الملائكة في معركة بدر من ثقافة الأسماء؟ كيف كان نصيب الذين شاركتهم الملائكة في أسر هذا البطل أو ذاك من ثقافة الأسماء؟
لقد قالوا أن الجن قتلوا سعد بن عبادة، فاشتهر الأمر عند العرب، وقيلت فيه أشعار، مشككة ومؤكدة، ولا يُذكَر أسم سعد بن عبادة حتى يقرن بقصة إغتياله على يد الجن!
يعقد إبن أسحق فصلا بعنوان (من قُتِل ببدر من المشركين)، ويبدأه بالقول (وقُتِل من المشركين يوم بدر من قريش ثم من بني عبد شمس : حنظلة بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، قتله زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم... ويقال إشترك فيه حمزة وعي وزيد...) / المصدر ص 414 / ويستمر في سرد الأسماء، من قتلى ومن قاتلين، مع ترجيح وتوكيد هنا وهناك، ولكن لم يذكر لنا إبن اسحق من قتلته الملائكة، قتلى الملائكة مجهولون، غائبون.
تقول الرواية (وحدّثني أبي اسحق بن يسار، عن رجال من بني مازن بن النجَّار،عن أبي داود المازني، وكان شهد بدرا قال : إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أ نه قد قتله غيري) / السيرة ص 373 /.
فهذا المازني كما يبدو من روايته عن نفسه أنه قتل اكثر من مشرك، وأنه لم يكن هو القاتل، بل ملك قتله بدلا عنه، تُرى أي مشرك هذا؟ فإن إبن اسحق وغيره قد أحصوا لنا قتلى بدر، كل قتيل مقرن بقاتله، هكذا نقرا في السيرة، فكيف غاب على إبن اسحق هذه الأضافة المهمة، نعم، هي إضافة في غاية الأهمية، لأن القاتل لم يكن المازني، وإنما هو ذلك الملك العظيم الجبار!!
الغريب أن المازني هو بالذات تجاهل ذكر إسم هذا المقتول على يد الملائكة، ترى لماذا؟ وهل حدث بمثل هذه الضخامة الروحية والإعجازية، مع سيادة ثقافة الأسماء ... هل في حدث بمثل هذه المقتربات يغيب الأسم؟ الأسم هنا مهم، مهم للتذكير، وللاستدلال، ولتضخيم الحدث، ولتكريس الواقع المزعوم، ولتخليد المازني نفسه، فكيف يغيب بمثل هذه الطريقة البائسة؟
في الواقدي (hellip; عن أبي عفير،عن رافع بن خديج، عن أبي بردة بن نيار، قال : جئت يوم بدر بثلاثة رؤوس، فوضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت : يا رسول لله، أمّا رأسان فقتلتهما، وأمَّا الثالث فإني رأيت رجلا أبيض طويلا ضربه فتهدى أمامه، فأخذت رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك فلان من الملائكة hellip;) / ص 79 / ولست أدري كيف ينسى أبو بردة هذا أسم ذلك الملك العظيم، وهو ما يجب أو يرجح أن ينحفر في ذاكرته أخر عمره، على أني لم أجد فيما يدي من مصادر (أبي عفير)، ورواه البيهقي مع مجهوليَّة إسم الملك القاتل! لكن المفاجأة الكبرى أننا عندما نعود
لجدول بن اسحق في قتلى المشركين وقاتليهم يوم بدر، لم نجد سوى قتيل واحد لأبي بردة وعلى شك، والقتيل هو جابر بن سفيان (وقتل جابرا أبو بُردة بن نيَّار، فيما قال إبن هشام) / المصدر ص 417 /
تقول الراوية نقلا عن البيهقي (... يونس بن بكير،عن عيس بن عبد الله التميمي، عن الربيع بن أنس قال : كا ن الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممَّن قتلوهم بضرب الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار) المصدر ص 338 /
إذن هناك تمييز واضح بين قتلى الملائكة وقتلى المسلمين، وعليه تكون الأسماء هي الأخرى واضحة، ولكن عرفنا قتلى المسلمين ولم نعرف قتلى الملائكة، فيما ينبغي أن تكون هذه الأسماء أكثر شهرة من أسماء قتلى المسلمين!
الرواية مرسلة بـ (الربيع بن أنس)، فهو شيعي مات في خلافة أبي جعفر المنصور سنة 139 أو سنة 140، ثم يونس بن بكير لم يوثق عند بعض رجال السنة، وهو شيعي، فقد ضعَّفه العجلي، والنسائي قال عنه ليس بالقوي / مغني الذهبي رقم 7261.

التجسيد والتقمُّص وقصة (سُراقة)
نقرا في الواقدي (فحدّثني أبن أبي حبيبة،عن داود بن حصين، عن عِِكرمة، عن أبن عباس، قال : كان المَلَك يتصوَّر في صورة من يعرفون من الناس يثبتونهم، فيقول : إني قد دنوتٌ منهم...) / المصدر ص 79، ويرويها البيقهي في دلائل النبوة بذات السند، وفيه أبن أبي حبيبة، وداود بن حصين، وكلاهما مجروحان، ودواد مغرم برواية هذه النماذج من الروايات!
وكان لإبليس دور كبير في ما يروى عن معركة بدر (أخبرنا الواقدي قال : حدَّثني عبيد بن يحي،عن مُعاذ بن رفاعة بن رافع، عن أبيه، قال : إن كنَّا لنسمع لأبليس خُوارا، ودعا بالثُبور والويل، وتصوّر في صورة سراقة بن جُعشُم، حتى هرب فأقتحم البحر، ورفع يديّه مداَّ يقول : يا ربّ ما وعدتني! ولقد كانت قريش بعد ذلك تعيِّر سُراقة بما صنع يومئذ، فيقول : والله ما صنعتُ منه شيئا) / الواقدي ص 75 / وفي سند الرواية معاذ بن رفاعة بن رافع، لم يوثقه غير ابن حبان، وهو موثِق متساهل، فيما ضعَّفه بن معين، وقال الازدي لا يُحتَج في حديثه / تهذيب التهذيب 10 رقم 353 /.
قصة (سُراقة) هذه خضعت لإحكام إسطوري مخدوم بقدرة فنية رائعة، فالرواية السابقة تعززها رواية مكمّلة بحيث تبدو الحكاية نابعة من صميم الواقع، وإنها محل تسالم حسي مشهود (حدّثنا الواقدي قال : فحدّثني أبو إسحق الأسلمي، عن الحسن بن عبيد الله بن حنين مولى بن عباس، عن عُمارة بن أكيمة الليثي، قال : حدثني شيخ عرّأك ــ صياد من الحي ــ كان يومئذ على الساحل مطلاّ على البحر، قال : سمعتُ صياحا : يا ويلاه! ملأ الوادي! يا حزناه، فنظرت فإذا سراقة بن جُعشُم، فدنوت منه فقلت : مالك فداك أبي وأمي؟ فلم يرجع إلي شيئا، ثم إقتحم البحر ورفع يديه مدّا يقول : يا ربّ، ما وعدتني! فقلتُ في نفسي : جُنَّ وبيت الله سُراقة! ذلك حين زاغت الشمس، وذاك عند إنهزامهم يوم بدر) / نفس المصدر ص 75 /وفي سند الرواية مجهول، ذلك هو صياد الحي، وقد أختلفوا في (عمارة بن أكيمة الليثي)، فقد عدَّه بعضهم مجهولا كالبيهقي والحميدي، ومنهم منْ لا يحتج بحديثه.
وهكذا تتقن الحكاية الخرافية حبكتها على يد فنانين من الدرجة المتقدمة في صياغة الأساطير والحكايات الغريبة، لم يتلبس إبليس بصورة سراقة مرة واحدة، أي في بحر المعركة، بل كان ذلك قبل المعركة، في أثناء الأعداد لها، فقد كان بين قريش وبني كنانة دم، وخافت قريش أن تغتالها (كنانة) من خلف، لأن طريقها ـ أي طريق قريش ـ إلى بدر يمر بـ (بني كنانة)، فما كان من إبليس إلاّ أن يتجسد بهيئة (سراقة بن جُعشُم) هذا ليغريهم بأن كنانة لهم جار، وليس لهم غير الأمان، فمضت قريش مطمئنة لوعد سراقة، الذي هو في الحقيقة البعيدة إبليس لعنة الله عليه / سيرة بن اسحق ص 361 /.
نقرأ في مغازي الواقدي أيضا (حدّثني عمر بن عقبة، عن شعبة مولى ابن عباس، قال : سمعت ابن عباس يقول : لما تواقف الناس أغمي على رسول لله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم كُشف عنه فبشّر المؤمنين بجبريل بجند من الملائكة في ميمنة الناس، وميكائيل في جند آخر في ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم،وإسرافيل في جند آخر بألف، وأبليس قد تصوِّر في صورة سُراقة بن جُعْشُم المُدلجي يذمر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم من الناس، فلما أبصر عدو الله الملائكة نكص على عقبيه، وقال : إني بريئ منكم إنِّي أرى ما لا ترون،فتشبث به الحارث بن هشام، وهو يرى أنّه سُراقة لِما سمع من كلامه، فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث، وأنطلق إبليس لا يُرى حتى وقع في البحر، ورفع يديه وقال : يا ربّ، موعدك الذي وعدّتني) / المصدر ص 71 / والرواية مرسلة بطبيعة الحال، لأن ابن عباس لم يبين لنا مصدره، ومولاه شعبة بن يحي محل نظر عند بعض الرجاليين، فقد قال عنه النسائي (ليس بالقوي)، وقيل هو شعبة بن دينار، وقد قال فيه صاحب الميزان (صدوق سي الحفظ) / مغني الذهبي رقم 2766 /.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، تُرى لماذا اختار إبليس ِ أن يتجسّد بـ (سُراقة) هذا دون غيره؟

هل هو الوحيد من كنانة؟
يحتل (سراقة) في منظومة الأسطورة في التاريخ الإسلامي مكانة مهمة، فهو الذي لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم هاجر من مكة إلى المدينة بهدف قتله لينال دية من قريش، وقد أدرك رسول الله وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه، ولكن بدعاء النبي الكريم ساخت فرسه أكثر من مرة، وقد عرضته للموت، وعلى أثرها أعلن أسلامه على يد البني آنذاك، وحسن إسلامه ــ وربما أتعرض لهذه القصة بالتفصيل لاحقا إن شاء الله ــ
تُرى ألهذا السبب كان إبليس يتقمص صورة سراقة؟
الغريب أن الناس بقيت تؤمن وتعتقد أنه سراقة بعينه، بل كانت قريش تعيره بذلك، فيما هو المسكين ينكر ذلك ويحلف لهم بالله إنه لم يكن هو!!
تتكرر عملية التقمُّص هذه في معركة بدر، ولكن مع جبرائيل في هذه المرة، ففي الواقدي (قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ : هذا جبريل يسوق الريح كأنه دِحيَّة الكلبيّ) ص 78 / ولست أدري ما حاجة جبريل لَئِن يتقمّص بهذا الرجل كي يسوق الريح العاتية؟

جبرائيل ذلك الفارس العربي!
تجمعّت في معركة بدر من خلال الروايات في كتب السيرة كل مواصفات الفارس العربي في شخصية جبرائيل عليه السلام وهو يشارك في المعركة الكبيرة، فهو ذلك العربي الجميل الذي فاق في جماله كل من عرفته العرب في ذلك الوقت، والدليل على ذلك تجسّده بـ(دِحيَّة الكلبي كما في الرواية التي تقول (هذا جبريل يسوق الريح كأنه دِحيَّة الكلبي)، وهذا الذي تجسَّده جبرائيل عليه السلام صحابي جليل، ولكن صفته المميزة التي فاق بها الآخرين هو جماله كما تؤكد الروايات، فعن عُفير بن مَعْدان،عن قتادة، عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : يأتيني جبريل في صورة دحية، وكان دحية جميلا) / سير أعلام الذهبي 2 رقم 116 /، ويقول الذهبي (قال عبد الله بن صالح العجلي : قال رجل لعوانه بن الحكم : أجمل الناس جرير بن عبد الله لبجلي؟ فقال : بل أجمل الناس من نزل جبريل على صورته، يعني دحية) / ص 554 /. ولا أريد أن أناقش الجانب الأريتوكي في هذه الروايات، ولكن الذي أريد أن أخلص إليه هو أن الجمال كان أول علامات جبريل مجسّدا في معركة بدر، وبعد هذا العنصر يأتي عنصر أخر، أقصد لباس جيريل عليه السلام، كانت العمامة (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه على ثناياه النقع يقول آتاك نصر الله إذ دعوته) / ص 336 من البيهقي / وبذلك يُضاف عنصر جديد إلى صورة جبريل البطل، الفارس العربي البطل. فجبريل كان مصداقا حيا لهذا الفارس، الفارس العربي الجميل، القوي، النشط، الذي يسوق الأخرين تحت إمرته، وبذلك تشبعت ملائكة بدر وبأعلى مستويات ممكناتها وطاقاتها بروح الثقافة العربية السائدة في زمنها، ولنا عودة إلى بدر إن شاء الله، بعنوان (بدر في القرآن الكريم)
[email protected]