أشعر بالعار، لأنّ البعض من شعبي، غضبَ واحتجّ على قرار المحكمة العراقية بإعدام الديكتاتور العراقي صدام حسين. أشعر بالعار، حين تقف الضحية مع جلاد عربي، بحجة أنه كان عدواً عظيماً لجلاّدها الإسرائيلي - أمريكي. أشعر بالعار، حقاً، لأننا كفلسطينيين، أعرف شعوب المنطقة بالجلاد، وبسيكولوجيته ومدى قسوته السادية فوق البشرية، ولذلك، كان يجدر بنا، ألا نقف مع أي جلاد، مهما تكن الحجج والمُسوّغات. فالجلاد جلاد، سواء أمارس ساديته على شعبه أو على شعب آخر. بل إنّ من يمارس ساديته على شعبه، يكون أسوأ. مع ذلك.. مع ذلك، لا أكاد أفهم، لمَ تقف بعض وسائل إعلامنا، ومنها بالأخص الإذاعات المحلية، مع طاغية العراق، وعلى طول الخط؟ إنّ من العجيب أن تتفق إذاعتا حماس وفتح، في قطاع غزة، ولو لمرة واحدة، في مديحهما للدكتاتور، وهما غير المتفقتين أبداً في معظم القضايا وتآويل الأحداث ! يوم صدرَ الحكم المتوقع على الطاغية، قامت دنيا هذه الإذاعات ولم تقعد، مستنفرة أقصى طاقاتها، وموظفة كل إمكاناتها، للاتصال المباشر، على الهواء، بتلك الوجوه الفلسطينية والعربية الكالحة، لكي تزعق هذه وتكبّر فداءً ومحبةً في القائد الخالد. أشعر بالعار، وأشعر بالشفقة معاً. الشفقة على بعض هذا الشعب، لأنه لم يعرف بعد، عدوه من صديقه. لم يعرف أنّ صنيعاً كهذا يسيء لقضيتنا العادلة، ويترك ندوباً عميقة في نفوس الآخرين: تحديداً الشعب العراقي النبيل بكل مكوّناته. فالوقوف مع الطاغية هو وقوف ضد شعب العراق، وهو في التحليل الأخير: وقوفٌ ضد نفسك وضد إنسانيتك وضد قضيتك العادلة - حتى لو لم يفهمها بعضنا على هذا النحو. أعرف أن الجذر العميق لهذه المواقف، يعود فقط لمقولة [ عدو عدوي: صديقي ]. وأعرف أنه من المستحيل على فلسطيني يموت برصاص أمريكا، كل ساعة، أن يقف معها ضد صدام أو أي عربي آخر. لكن الأمور، في عالمنا المعقّد هذا، لم تعد بذلك التبسيط أو ذلك الأبيض والأسود. كما أنّ المسألة برمتها هي مسألة مبدئية في الأساس والجوهر: هل أنت مع الدكتاتور، أم ضده؟ بالطبع لن يكون الجواب quot; مع quot; إلا إذا كان صاحبه غير طبيعي أو يعيش في ظروف غير طبيعية. فلا وقوف مع دكتاتور، ولا قداسة لدكتاتور، حتى لو مدّ يد المساعدة لك في يوم من الأيام. صدام أذاق الشعب العراقي، الأمرّيْن، كما لم يُذق حاكمٌ شعبه. فهو نمط فريد في الدكتاتوريات المعاصرة. مع أنّ هؤلاء متشابهون بل متماثلون في أغلب الأمكنة والأوقات. فكيف لبعضنا أن يقف معه؟ وكيف لبعضنا أن يجعله بطلاً، وبالذات بعد معرفته بكمّ جرائمه ومقابره الجماعية، فقط لأنه ضربَ إسرائيل ببضعة صواريخ لم تضرّها؟ ثم متى نستيقظ من أوهام البطولات الفارغة؟ ومتى نكفّ عن التعلّق الطفولي بلغةٍ ماتت وشبعتْ موتاً من كثرة أكاذيبها؟ هل يليق هذا بشعب مجرّب؟ مجرّب ! يا للكلمة ! بل قل بشعب، من طول ما تعرّض للظلم، اختلطت عليه الأمور، فلم يعد قادراً على تمييز الغث من السمين. شعب تائه، فلا تعتبوا على بعضه، لو أساءوا التقدير وجافتهم الحكمة. فالبعض من هذا البعض، معروف النوايا والأهداف. والبعض من هذا البعض، وهو الجزء الأكبر من عامة الشعب، مُضلّل. تلك هي القصة بتبسيط كبير. ولا شيء أبعد من ذلك. لذا، أعتذر شخصياً، عن كل ما بدرَ منا، نحن الشعب الفلسطيني العائش في الأراضي المحتلة، من تأييد أهوج، ومن بكائيات ومراثٍ، ذلك اليوم: يوم إرسال الديكتاتور إلى الجحيم. أعتذر بالأخصّ، لذكرى الغائبين وأهلهم الأحياء. الغائبون عن الحياة، والمرسلون إلى جحيم الموت، بيد هذا الطاغية الأحمق. أعتذر لهؤلاء وأولئك، وهم بمئات الألوف بل بالملايين، الذين أرسلهم صدام إلى حربه الظالمة مع إيران، أو الذين قتلهم فوق أرضهم، وفي مدنهم وقراهم، بغضّ النظر عمّن يكونون. كما أعتذر لملايين العراقيين في المنافي والمهاجر، بعد أن أجبرهم صدام ونظامه الفاشي على الهجرة القسرية، فتركوا وراءهم وطناً عزيزاً حوّله الطاغية الأكبر إلى جحيم. أعتذر لكل مَن ذاق ظلماً على يدي الطاغية، وانجرح من تأييدنا له، فنحن الفلسطينيين، أعرف الناس بالظلم، وأولى الناس بالوقوف ضده: أكان عربياً أم أجنبياً، فالظلم ظلم بغض النظر عن لغته.
لقد كنتُ آمل أن يتعذّب الديكتاتور وقتاً أطول. لكنّ حكم العدالة هو الغالب. فليُعدم صدام، إذاً، وليحصد قليلاً من الكثير الذي زرعه. أما نحن الفلسطينيين، فقد آن لبعض نُخبنا الإعلامية والسياسية أن تخجل من نفسها. فما هكذا تقف النخب مع شعوبها: ما هكذا تكون النخب شعبوية مع شعوبها: إنّ للنخب دوراً آخر، عظيماً وتنويراً: أن تفتح ثغرة في جدار الوعي السياسي والاجتماعي، وقبل هذا وذاك: الأخلاقي. فالوقوف مع الطغاة فعل لا أخلاقي بامتياز. بل فعل فضائحي بالأحرى. بدل أن نبكي ونتباكى على طاغية، فلنبكِ على ضحاياه: ولنبكِ على أنفسنا كضحايا مزمنين. إنّ أشدّ ما يحيّرني في هذا الشعب، هو وقوفه دوماً مع القضايا الخاسرة: الخاسرة أخلاقياً ثم فلتنزلْ درجات السلّمَ كما تشاء ! صدام سيموت ملعوناً عما قريب. هذا جيد. والأجود منه: أن يغيب كل الطغاة العرب، وما أكثرهم: أن يذهبوا إلى الجحيم، هكذا مرةً واحدة وللأبد. وكم كنتُ أودّ أن يعرف البعض من شعبي، أنّ سقوط أيّ ديكتاتور عربي، هو من مصلحته ويصبّ في اتجاه وصميم هذه المصلحة. فلو كانت شعوبنا العربية، لا ترزح تحت حُكم الديكتاتوريات، منذ ستين سنة، لكان حالنا غير هذا الحال، منذ ستين سنة أيضاً - وهي عمر مأساتنا. مرة أخرى وأخرى وألفاً: لا قداسة لدكتاتور. لا رحمة على ديكتاتور. لا أسف على ديكتاتور. بل الفرح، ولو كان مكسوراً، والأمل، ولو كان خافتاً، بألا تتوالد هذه السلالة الكريهة، في أية بقعة من بقاع عالمنا العربي الكبير. صدام سيذهب إلى مزبلة التاريخ، كحثالة لا أكثر، فمتى تغيب شمس بقية الديكتاتوريين العرب. لنقل مبروك للشعب العراقي، والعقبى عند الجميع. هكذا نكون مع شعوبنا في المنطقة كلها: وهكذا نكون مع أنفسنا وذواتنا ومصالحنا الوطنية والقومية، أولاً وأخيراً. وباسم الواعين من شعبي، أعتذر لكل العراقيين، من هذا البلد العظيم، عما يفعله السفهاء والمُضلّلون منا: باسم الواعين من شعبي أعتذر، ولا أخفيكم أنني أغصّ في العلقم والخيبة ! وأما أنت يا شعب العراق المجروح فلا تنسَ ولا تغفر. فما من داء أخطر على عافية الشعوب من النسيان. لأنك لو نسيت - وأنى لك ذلك - فمن المحتمل أن يولد في أرضك طغاة آخرون. وهذا ما لا يريده لك محب ولا صديق.
يوماً ما، ونأمل أن يكون قريباً: يوماً ما، حينما تنجح في فرض الأمن والاستقرار على ربوع وطنك، سيكون من المهمّ والضروري، أن تقيم متحفاً جليلاً لضحايا الطاغية المقبور، فهكذا تفعل كل الشعوب المتحضرة، كي لا تنسى. ولنا في أوروبا المثَل والنموذج. نعرف أنّ [ عدم النسيان ] يحتاج إلى عمل مادي كثير، لكننا نثق بكَ، ونثق في أنكَ، بعباقرتكَ من الفنانين، لا تريد لهذه الحقبة الأشد سواداً في تاريخك، أن تتكرر.
عما قريب سيمضي الطاغية إلى مصيره الأسود. لكننا نعرف، أنّ القلوب البيض للآباء والأمهات العراقيين لن تُطفأ نارها بمجرد موت الرجل الكريه. فنارها أشدّ أواراً من حدث صغير مثل إعدام الديكتاتور. فلنطلب لها بعض السلوان إذاً. ولنتمنّ لها، إن لم تكن السعادة، فالراحة. إذ ها هو مفرّق الجماعات وسارق اللذات، يمضي إلى حفرة وضيعة في باطن الأرض، ميتاً للأبد هذه المرة، بعد أن اختبأ فيها، حياً، لشهور.

إنها نهاية تليق حقاً بكل ديكتاتور.