يناقش مجلس الشّورى هذه الأيّام نظامًا مهمًّا لتشريع جديد، ينظّم نشاط وعمل جمعيات ومؤسّسات المجتمع المدني، ويُرتّب آليات عملها، ويُشرّع إطارها، ويُقنّن أداءها.. وفي كلّ ذلك نصر للتّقدّم، وفوز للاستقرار!
ويصف الصّديق الأستاذ علي الدّميني هذه الخطوة ndash; أعني تشريع عمل هذه المؤسّسات ndash; بأنّه (يوازي في أهميته الأنظمة الثّلاثة التي صدرت في عهد المغفور له الملك فهد لتنظيم أجهزة الدّولة، وحيث أنّ المرسوم الصّادر بإقرار الأنظمة الثّلاثة قد أشار إلى إنّها قابلة للتّطوير والتّعديل، فإنّ الباب مفتوح قانونيًّا وموضوعيًّا لتطويرها بما يتوافق والمُتغيّرات المحليّة والدّوليّة، وبما يُعزّز العمل المُؤسّساتي، ويكفل المزيد من الحقوق الأساسيّة للمواطنين في العدالة والمساواة والمشاركة في صناعة القرار، واحترام مواثيق حقوق الإنسان التي وقّعتها المملكة).
إنّ الاعتناء بمؤسّسات المجتمع المدني وإقامة أنظمتها وتوطين مفاهيمها هو الحجر المتين والرُّكن السّمين والحارس الأمين، الذي يُعطي للوطن صلابته وللبلاد تماسكها، وكلّ البلدان الحضاريّة اتّخذت من هذه المؤسّسات سبيلاً ومن مفاهيمها دليلاً لتكون للمجتمع الظِّلَّ الظّليل والنِّظام الأصيل الذي يحفظ القيادة والشّعب والإنسان.
يقول الباحث الفرنسي دي توكفيل في كتابه quot;الدّيمقراطيّة في أمريكاquot; عام 1839م: quot;إنّ الأمريكان من جميع الأعمار ومن جميع المنازل والمشارب المختلفة نجدهم يكوّنون الجمعيات.. جمعيات عملاقة، وأخرى صغيرة جدًّا، إنّهم يكوّنون جمعيات لوظيفة إقامة الحفلات، ولتأسيس الأديرة، ولبناء الفنادق في الأماكن الرّيفيّة، ويُؤسّسون جمعيات للإبداع، ولنشر الكُتب.. إنّهم يشكّلون الجمعيات باستمرار، وفي كلّ مناحي الحياة، وفي كلّ مجالٍ. فأنت تجد على رأس كلّ مؤسّسة ما في فرنسا حضور للدّولة، وفي إنجلترا حضور لرجل الإقطاع، أمّا في أمريكا فلا نجد إلا الجمعيات..quot;!!
إنّ إعجاب الفرنسي بتجربة أمريكا الدّيمقراطيّة قبل أكثر من قرن ونصف يؤكّد أهمّية هذه الجمعيّات حين تدخل في كلّ مفاصل الحياة، لذا أعتبرها أساسًا مهمًّا في تثبيت قِيم العدالة وخصائص التّعدّديّة، كما إنّها تُبرز ثقافة الانتخاب التي تدور محاورها على إبراز الأفضل والأكثر كفاءة والأكبر صلاحًا وأمانةًً.
أمّا العمل القانوني الذي تضّطلع به هذه الجمعيات، فيقول عنه الدّكتور كمال عبداللّطيف معرّفًا إيّاه :quot; إنّ المجتمع المدني هو كلّ المؤسّسات التي تُتيح للأفراد التّمكّن من الخيرات والمنافع العامّة، دون تدخّل أو توسّط من الحكومة، لأنّ الأمر يتعلّق بوضع المجتمع المدني أمام الدّولة لصياغة مواثيق جديدة تحمي المجتمع من هيمنة الدّولة، وتُتيح للمؤسّسات التي ينشئها الأفراد إمكانيّة إعادة صياغة المجتمع السّياسي انطلاقًا من علاقات الصّراع التي تحكم الوجود المجتمعي، وتنعكس بالضّرورة على وجودهم السّياسيquot;!!
ولأجل هذا يقول الأستاذ علي الدّميني: quot;إنّ اعتماد هذا النِّظام الجديد للجمعيات في بلادنا، ينبغي أن ينطلق من فكرة تمايز مجال الدّولة عن مجال المجتمع المدني، فهما يتكاملان في أدوارهما المستقلة من أجل تفعيل آليات خدمة المجتمع.. وعليه فلا ينبغي أن ترجع هذه المؤسّسات في ظلّ المؤسّسة الرّسميّة للدّولة حتّى لا تكون الأولى عبئًا على الثّانية، وحتّى لا تطمس الثّانية هويّة وظيفة الأولىquot;!!
حسنًا.. ماذا بقي؟
بقي أن نشاطر الصّديق الكاتب عمر جستنية عندما كتب في جريدة البلاد في 17/10/1427هـ حين أكّد على ضرورة quot;سن تشريع ينظّم مؤسّسات المجتمع المدني بكافة تخصّصاته باعتباره رؤية تقدّميّة حضاريّة، تُتيح للمجتمع التّماسك، ومعاضدة الدّولة في مستقبل الأيّام تجاه أيّ عوارض أو طوارئ..quot;.
وفي الختام ماذا لو أطلقنا على هذه المؤسّسات quot;مؤسّسات المجتمع الأهلي..quot; لأنّها أقرب وأكثر حميميّة ووفاءً لأستاذنا القدير الدّكتور متروك الفالح الذي يقترح هذا الاسم. والله من وراء القصد.