لم يكن العراقيون أكثر انقساما وفرقة في أي وقت مضى مما هم عليه اليوم، وقد تجلى هذا الانقسام بوضوح في الأردن خلال الأيام القليلة الماضية حتى بين من يُفترض أنهم يشكلون جبهة واحدة ويشتركون في حكومة quot;وحدةquot; وطنية. فقد وصل إلى عمان خلال أيام قلائل عدد من الوفود الرسمية العراقية كل على انفراد وبأجندة مختلفة. كان الأول برئاسة السيد طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية، والأمين العام للحزب الإسلامي العراقي، وبرفقته عدد من المسئولين السياسيين السنة، والثاني برئاسة السيد عبد العزيز الحكيم رئيس كتلة الائتلاف والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وبرفقته عدد من المسئولين الشيعة، بعضهم وزراء في حكومة المالكي، والثالث برئاسة الدكتور إياد علاوي، رئيس القائمة العراقية، وبرفقته عدد من المسئولين في القائمة المشاركة في حكومة المالكي، والرابع هو برئاسة نوري كامل المالكي رئيس الوزراء وبرفقته عدد من المسئولين العراقيين من الوزراء والنواب. أما في بغداد فقد أعلن التيار الصدري عن تعليق عضويته في الحكومة والبرلمان احتجاجا على التقاء المالكي بالرئيس الأمريكي بوش، إذ يعتقد أعضاء هذا التيار أن المشكلة العراقية الحالية هي بسبب الوجود الأمريكي في العراق وأن خروج القوات الأمريكية سيقود إلى حلها. وكان الشيخ حارث الضاري، رئيس هيئة علماء المسلمين، قد سبق الجميع إلى عمان أيضا ممثلا لهذه الهيئة التي تنفرد بأطروحات سياسية بعيدة كل البعد عن الواقع العراقي إذا ما اعتبرنا أن ما صرح به الشيخ الضاري يمثل رأي الهيئة في الأحداث، وليس رأيه الشخصي. إذ ليس هناك من العراقيين السنة أو الشيعة أو الأطراف الأخرى من يؤيد منظمة quot;القاعدةquot; الإرهابية التي أعاثت فسادا في العراق وباقي دول العالم وقتلت السنة والشيعة وتدعو ليل نهار لإشعال حرب طائفية تعتقد أنها ستكون بصالحها، وهي بالتأكيد في صالحها، إذ تسعى قوى الإرهاب إلى خلق فوضى عارمة في كل مكان في العراق كي يفشل المشروع الديمقراطي ويتضح أن صدام وزمرته هم الوحيدون القادرون على حكم العراق، وكأن الأخير غابة لا ينفع معها إلا القوة أو التهديد بها، وليس شعبا من أعرق شعوب الأرض وأكثرها تنوعا ونشاطا في كل نواح الحياة.

معظم العراقيين يلقون باللائمة على الأمريكيين بخصوص المشاكل التي يعانون منها، والأمريكيون دون شك يتحملون قدرا كبيرا مما نحن فيه من كوارث، ويلامون على الأخطاء الكثيرة التي ارتكبوها ويرتكبونها باستمرار في العراق، فهم الذين أسقطوا النظام السابق دون أن يضعوا بديلا له قادرا على حكم البلاد ودون أن يضعوا آليات محكمة لبسط الأمن الذي اضطلعوا بإدارته وتمسكوا بها حتى يومنا هذا. ورغم التسليم بذلك كله، بل وهناك المزيد مما يمكن قوله في هذا الاتجاه، ولكن هل التفت اللائمون إلى أنفسهم وما يفعلونه ببلدهم وبأنفسهم؟ هل يعتقدون حقا أن الانقسام الطائفي والسياسي والديني والقومي والمناطقي والحزبي الذي يهللون له ليل نهار هو في صالح البلاد أو يمكن أن يكون كذلك في يوم ما؟ وهل أن لجوء القوى السياسية العراقية إلى دول أجنبية ذات مصالح متضاربة هو أمر يقود إلى الوئام الوطني ويطمئن مكونات الشعب العراقي المختلفة؟ وهل أن تأجيج المشاعر الدينية والطائفية واستفزاز العصبيات المذهبية والقبلية والقومية والمناطقية في كل مناسبة هو أمر مفيد للعراق والعراقيين؟ وهل يعتقد زعماء الطوائف العراقية إن استخدام وسائل quot;إعلامهمquot; في تأجيج المشاعر واستفزاز العصبيات سيعود بالخير على المجتمع ويجلب الوحدة الوطنية؟ وهل السكوت على الفساد والفاسدين واعتبار بعضهم زعماء سياسيين ووطنيين، هو في صالح العراق أو العملية السياسية؟ كيف يسمح قادة سياسيون ودينيون لأنفسهم أن يهاجموا مواطنين عراقيين من طوائف ومناطق أخرى ويطلقون عليهم تسميات ما أنزل الله بها من سلطان؟ لا أدري هل يفهم هؤلاء أن السياسي والنائب البرلماني على وجه التحديد، يمثل شعب العراق كله، ولا يليق به أن يشنع بفئات وطوائف أخرى لمجرد أنه ينتمي إلى طائفة أخرى؟ فالاختلاف يجيب أن يبقى ضمن الأمور السياسية ولا يتعداه إلى قضايا الدين والمذهب والقومية والعرق.

المعضلة الكبرى في العراق اليوم هي غياب الثوابت الوطنية كليا، فكل شيء مباح، وهنا تكمن أسباب الأزمة، فالفرقاء العراقيون الحاليون مستعدون على ما يبدو للقيام بأي شيء لإلحاق الأذى بالخصم. فبينما يؤيد البعض ما يسمونه بـ quot;المقاومة الشريفةquot; التي لا تتردد في ارتكاب أبشع الجرائم من قتل وتخريب واختطاف بحق الأبرياء والناس العزل، أو منظمة القاعدة التي تتفق دول العالم بأسره، وفي مقدمتها السعودية التي نصبت نفسها مدافعا عن حقوق السنة العراقيين، أنها منظمة إرهابية لا تصالح معها الآن أو في المستقبل البعيد وأن الحل الوحيد هو دحرها وإلحاق الهزيمة بها، يسمح آخرون مشاركون في العملية السياسية وداعون إلى التمسك بها، بتسلل ميليشياتهم إلى أجهزة الدولة لتمارس القتل والاختطاف والتخريب، وهي ذات الجرائم التي يلومون الآخرين عليها. ولا أدري ما الذي تبقى من العملية السياسية التي يتشدق بها هؤلاء بعد أن غاب الأمن كليا وأصبح المواطن العادي، من بائع الفجل والسمك إلى الوزير ووكيل الوزارة مهددا وغير آمن في مكتبه أو منزله ؟ كيف يمكن للإنسان العادي أن يثق بدولة وحكومة لا تستطيع أن تحمي حتى الوزراء ووكلاء الوزارات فيها؟ ولا يزال مصير رئيس اللجنة الوطنية الأولمبية أحمد الحجية، وهو بدرجة وزير، ووكيل وزارة الصحة، عمار الصفار، فرج الله عنهما وأعادهما إلى أهلهما وأصدقائهما سالمين، مجهولا بعد أن اختطفا في وضح النهار، الأول من مكان عام هو المركز الثقافي النفطي وسط الكرادة والثاني من منزله في منطقة الوزيرية. كيف يمكن للمواطن العادي أن يحترم القانون إذا كان السياسي والوزير يخرقه أمام أعين الجميع دون أن يحاسب أو يساءل؟ كيف يمكن للحياة أن تستمر بعد أن تحولت الأسواق الشعبية التي تباع فيها الخضروات والحاجيات الأساسية والمخابز وأماكن العمل ومراقد الأئمة بل وحتى حقول الدواجن إلى ساحات معارك دامية؟ كل يوم يحترق الأبرياء بالمئات وتتطاير أشلاؤهم في الهواء دون أن تتمكن حكومتهم الوطنية quot;المنتخبة ديمقراطياquot; وفق دستور quot;دائمquot;، من حمايتهم أو تقديم حلول عملية لمشاكلهم الأمنية. هل يمكن بعد الجريمة الشنعاء في مدينة الصدر التي قتل وجرح فيها أكثر من خمسمئة إنسان فقير، ثم جريمة حي الصدرية المماثلة لها في بشاعتها التي استهدفت المدنيين من الكرد الفيلية، وجريمة اختطاف وقتل موظفي دائرة البعثات في وزارة التعليم العالي، هل يمكن بعد هذه الجرائم التي حدثت خلال أسبوع واحد وسط بغداد وبالقرب من الثكنات العسكرية العراقية والأمريكية، التعويل على دعم الناس العاديين للحكومة أو للنظام الجديد الذي لم يتمكن من أداء أقل واجباته وهو حماية الناس العاديين وموظفي الدولة؟

كان بإمكان جميع القوى السياسية احترام بعض الثوابت الوطنية التي يفترض أن في مصلحة كل عراقي احترامها، ومنها وحدة العراق، وهذا المبدأ يتطلب تأجيل النظر في مسألة الفدرالية، والمحافظة على النظام الديمقراطي الذي جاءت بموجبه هذه القوى السياسية إلى الحكم، ومساندة أجهزة الدولة التي يجب أن تكون محايدة ووطنية في توجهاتها، وتمكينها من أداء عملها، وتفعيل مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب، الذي يعني عمليا التخلي عن مبدأ المحاصصة الطائفية وليس السياسية، ومكافحة الفساد وتسليم المفسدين للسلطات القضائية والتخلي عنهم من قبل أحزابهم إن ثبت عليهم ارتكاب مخالفات. هذه ثوابت كان بالإمكان الاتفاق عليها سابقا وبالإمكان الاتفاق عليها حاليا إن أراد الحريصون على سير العملية السياسية وتقدمها، إن وجدوا، أن يطوروا العملية ويحققوا مزيدا من النجاحات في هذا الاتجاه. بقاء الأوضاع على ما هي عليه الآن أمر مستحيل ولا يمكن أن نتوقع حصول تقدم في ظل غياب أي جهد لإصلاح الأوضاع المتردية في كل نواح الحياة. يبدو أن البعض مصممون على الفوز بكل شيء أو تدمير الخصم والنفس معا (أقتلوني ومالكا). أعتقد أن القادة السياسيين الحاليين غير قادرين على إنقاذ البلاد لأنهم ببساطة هم الذين أدخلوها بما هي فيه وبعضهم لا يزال يعتقد أن ما فعله ويفعله صحيح رغم ما جره على البلاد والعباد من مآس وكوارث. المواطن العادي لا يهمه من هو وزير الداخلية وهل هو شيعي أم سني، بقدر ما تهمه قدرته على تحقيق الأمن والقبض على المجرمين، ولا يهمه من هو وزير المالية أو الكهرباء أو البلديات أو النفط، وإلى أي حزب أو طائفة ينتمون، بقدر ما يهمه توزيع الثروة بشكل عادل على المواطنين وزيادة ساعات التيار الكهربائي وانتظام الخدمات البلدية وتوفر المنتجات النفطية ووقف المخالفات وتهريب النفط. وبالتأكيد لا يهمه من هو الرئيس ونوابه أو رئيس الوزراء ونوابه أو عدد هؤلاء النواب ومساعديهم أو عدد أعضاء المجلس السياسي للأمن الوطني بقدر ما تهمه قيادة البلاد في الاتجاه الصحيح وتحقيق الوئام الاجتماعي والتماسك الوطني. لذلك فإن المحاصصة الطائفية وتوزيع المناصب حسب الطوائف هو أمر يستفيد منه المشتركون في عملية المحاصصة وليس أبناء الشعب العراقي، وإن إصرارهم على إبقاء المحاصصة هو بسبب رغبة شخصية وحزبية عند البعض للحصول على المناصب وليس هدفه الارتقاء بمستوى الناس الاقتصادي والثقافي أو الخدمي. العراقيون يريدون حكومة متماسكة واحدة قادرة على إدارة البلاد وتوفير الأمن ومكافحة الجريمة والفساد، وليس مجموعات سياسية ودينية متناحرة تختلف على كل شيء وليس لديها النية أو القدرة على إنجاز مهمة وطنية واحدة بإتقان.