الإدعاء الأول

ذكرت في مقالي السابق أن كتب التاريخ الإسلامي توضح أن الأقباط رحبوا بالفتح العربي لمصر،وذكروا سبعة إدعاءات تبرر هذا الترحيب، وأنا هنا أعرض حقيقة الإدعاء الأول القائل بأن الأقباط رحبوا بالجيش العربي لتخليصهم من ظلم الرومان مستعيناً بالكتب والمراجع التاريخية. الواقع أنه لم يكن هدف الجيش العربي إنقاذ أحد ولا مساعدة أحد، فقد كان الفاتحون العرب واضحين كل الوضوح، في هدفهم المعلن الصريح من مجيئهم إلى مصر فاتحين، ولم يذكر أحداً منهم موضوع أو قصة الإنقاذ هذه، لم يذكر هذا الادعاء الا بعض الكتاب المحدثين، وكما تقول الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، في كتابها (عبد العزيز بن مروان)،سلسلة كتب أعلام العرب، تقول في صفحة 132: quot;أننا لا نجد في المراجع القديمة ما يشير اليه بعض المحدثين من أن الأقباط استنجدوا بعمر بن الخطاب لينقذهم من ظلم الرومquot;.
الذي يدعي هذا الادعاء بلا شك لا يعلم أن الجانب الإيماني والعقائدي لدى الأقباط كمسيحيين يرفض تماما فكرة أو مبدأ اللجوء إلى إنسان ليخلصهم من إنسان آخر، ففي صلوات الأجبيه التي يصليها الأقباط كل يوم، يقول مزمور 145 من مزامير صلاة الساعة الثانية عشر:
quot;لا تتكلوا على الرؤساء ولا على بني البشر الذين ليس عندهم خلاص تخرج روحهم فيعودون إلى ترابهم في ذلك اليوم تهلك كافة أفكارهم طوبى لمن اله يعقوب معينه واتكاله على الرب إلهه الذي صنع السماء والأرض..quot;
وفي سفر أرميا 17:5 quot;هكذا قال الرب ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه وعن الرب يحيد قلبهquot;.
وفي المزمور 118: 9,8 quot;الاحتماء بالرب خير من التوكل على إنسان، الاحتماء بالرب خير من التوكل على الرؤساءquot;.
وفي المزمور 103: 15 ـ 18 quot;الإنسان مثل العشب أيامه كزهر الحقل كذلك يزهر. لأن ريحا تعبر عليه فلا يكون ولا يعرفه موضعه بعد. أما رحمة الرب فإلى الدهر والأبد على خائفيه وعدله على بني البنين، لحافظي عهده وذاكري وصاياه ليعملوها quot;.

وهكذا عشرات الآيات المقدسة التي توجه وتعلم وتحذر من الاتكال أو اللجوء إلى إنسان لينقذنا أو يخلصنا من إنسان آخر، فالاتكال على إنسان مهما كان وضعه أو مكانته أمر مرفوض تماما من جهة العقيدة لدى الأقباط بغض النظر عن الأوضاع مهما كانت سيئة أو قاسية. وإذا كان الأقباط قد رحبوا بالعرب ليخلصوهم من ظلم الرومان، فلماذا لم يرحبوا بالمستعمرين الآخرين الذين جاؤا بعد العرب ليخلصوهم من ظلم العرب؟

الحقيقة أن الأقباط حرصوا بكل دقة وعناية على تنفيذ مبادئ وتعاليم كتابهم المقدس التي ترفض وتحذر وتحرم الالتجاء أو الاستعانة بإنسان مهما كانت مكانته ليخلصهم من إنسان آخر مهما كان ظلمه أو جبروته.

والتاريخ أصدق شاهد على ذلك، والمؤرخ بتلر وغيره يؤكدون أنه لم يرحب القبط بالفرس ليخلصوهم من الرومان، كما لم يرحبوا بالرومان ليخلصوهم من الفرس بعد ذلك، كما لم يرحبوا بالعرب ليخلصوهم من الرومان، كما لم يرحبوا بأى فاتح أو مستعمر بعد ذلك ليخلصهم من العرب.
والسلوك العملي والمواقف الكثيرة المتكررة تؤكد هذا المفهوم الراسخ لدى الأقباط وتثبته بكل وضوح وجلاء. فمثلا يذكر كتاب الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة للأسقف ايسيذوروس ـ الجزء الثاني صفحة 126 ـ موقف البابا خائيل الأول البابا (46) (728 ـ 752م) من كرياكوس ملك النوبة المسيحي أيام عبد الملك بن مروان (741 م) عندما جاء كرياكوس لإنقاذ البابا من يد عبد الملك بن مروان الذي كان قد فرض إتاوة كبيرة من المال على البابا وسجنه لمدة 17 يوما ثم أطلقه ليجمع قيمة الإتاوة المفروضة عليه من أبنائه الأقباط، ولكن البابا لم يستطع أن يجمع أكثر من نصف الإتاوة فقط، فغضب عبد الملك بن مروان وألقاه مرة أخرى في السجن، ولما سمع بذلك ملك النوبة كرياكوس، جهز جيشا كبيرا سار به حتى وصل إلى مشارف الفسطاط، ولكن عبد الملك بن مروان أسرع وأخرج البابا من السجن، وكان أول ما فعله البابا خائيل بعد خروجه من السجن أنه طلب من الملك كرياكوس العودة من حيث أتى رافضا تدخله لفرض حمايته على الأقباط.

ومن الأحداث الشهيرة الأخرى التى تدل على هذا الفكر وهذه العقيدة الرافضة لطلب الحماية من إنسان، كعقيدة راسخة لدى الأقباط، ما حدث مع البابا بطرس الجاولى [البابا109] (1809 ـ1852 م) أيام محمد علي باشا (1809 ـ1848م) والى مصر، عندما جاءه سفير دولة روسيا، والتي كانت تعد أكبر دولة مسيحية أرثوذكسية ويحكمها قيصر، جاء هذا السفير ليعرض على البابا بطرس موضوع حماية قيصر روسيا للأقباط، ولكن البابا بطرس رفض هذا العرض، ورد على السفير بهذه الجملة الذهبية ( نحن في حمى من لا يموت).[أنظر سيرة البابا بطرس الجاولي، سنكسار7 طوبه].

وتقرر الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، أستاذة التاريخ الإسلامي، كلية البنات جامعة عين شمس، في كتاب عبد العزيز بن مروان، سلسلة أعلام العرب رقم 70 إصدار وزارة الثقافة،ص132، حقيقة هامة إذ تقول: quot; على أننا لا نجد في المراجع القديمة ما يشير إليه بعض المحدثين من أن الأقباط استنجدوا بعمر بن الخطاب لينقذهم من ظلم الروم quot;. كذلك فقد رفض الأقباط بشدة جميع أنواع وطرق فرض الحماية عليهم أو إنقاذهم من ناحية جميع المستعمرين والغزاه الذين جاؤا يتذرعون بمقولة حماية الأقباط، رغم ما كان يعانيه الأقباط من الظلم والاضطهاد والقسوة.

والحقيقة أن أكذوبة الترحيب هذه، هي الأكذوبة الشهيرة التي يتذرع بها ويطلقها دائما كل مستعمر أو فاتح أو محتل، يكاد لا يشذ عنها أحدا منهم على مدى التاريخ وفي كل مكان، هي ستار شفاف يحاول الفاتح أو الغازي أو المحتل أن يغطي به دوافعه الحقيقية، متوهما أنه قد استطاع أن يخفي الحقيقة، وأن يضفي على وجوده صفة الشرعية بأن الأهالي هم الذين استنجدوا ورحبوا به، ولا مانع عنده من أن يلصق بالمواطنين تهمه الخيانة ليسقط عن نفسه جريمة الاغتصاب.

حدث هذا ويحدث ليس فقط مع من فتحوا أو احتلوا أو استعمروا مصر، بل مع غالبية الشعوب التي نكبت بالفتح أو تعرضت للغزو أو الاستعمار، هي نفس الحجة والأكذوبة وهو هو نفس الأسلوب الملتوي والمخادع لتبرير الأحداث.

كان هذا هو الإدعاء الأول ولا زال هناك ستة إدعاءات سأعرضها في مقالاتي القادمة.
[email protected]