لقد أثبت الشعب العراقي بذهابه إلى صناديق الاقتراع ثلاث مرات في سنة واحدة (2005) رغم تهديدات الإرهابيين له، أنه أكثر نضجاً وحكمة من قياداته ونخبه السياسية. وهذه حقيقة لا أعتبرها إهانة إلى أي سياسي قيادي، بل أثبت الواقع صحة ذلك. فهذه الأزمة السياسية الخانقة التي تجتاح العراق وتهدد وجوده لدليل ساطع على ما أقول وقاله غيري من أصدقاء شعبنا من الكتاب، العرب والأجانب.

نشر لي مقال قبل عام بعنوان، اللهم أحفظِ العراق من العراقيينقلت فيه: quot;فما أن حررت قوات التحالف العراق من الفاشية البعثية حتى تسابق القادة العراقيون في تنافس شديد شاهرين خناجرهم، يريدون تقطيع العراق إلى أوصال وهو مازال يئن في غرفة الإنعاش بعد العملية الجراحية الكبرى لاستئصال سرطان البعث.quot; أقولها الآن ولا فخر، بل ومع الأسف الشديد، فقد صدق حدسي وتحقق ما كنت أخشاه من القادة العراقيين، إذ نراهم اليوم يتخبطون خبط عشواء على المناصب والنهب، فبدلاً من أن يكملوا المشوار في بناء الوطن الجريح بعد تحريره، جعلوا الوطن فريسة لهم يتشاجرون فيما بينهم على الغنائم، غير مبالين بما يتهدد العراق من أزمة سياسية خانقة تهدد مصيره كشعب وكوطن. فمتى يتدارك هؤلاء الخطر؟

دروس من الماضي
لقد أضاع العراقيون فرصاً ذهبية كثيرة بسبب عدم نضج قادتهم السياسيين وتناحرهم على المصالح الشخصية والفئوية على حساب المصلحة الوطنية. حصل هذا طيلة فترة الحكم الملكي حيث الانقلابات العسكرية المتوالية والانتفاضات الشعبية الدموية إلى أن سقط ذلك العهد بثورة 14 تموز 1958. وبعد هذه الثورة توفرت للأحزاب السياسية الوطنية فرصة ذهبية نادرة لاستكمال الاستقلال السياسي والسيادة الوطنية واستغلال ثروات البلاد لصالح الشعب، ولكن بدلاً من ذلك، انشغلت القيادات السياسية بصراعات دموية إلى أن خسروا ثورتهم وquot;تمزقوا شذر مذرquot; كما حذرهم الشهيد عبدالكريم قاسم عندما نجى من محاولة اغتياله من قبل العصابات البعثية الإرهابية ومن بينهم البلطجي (أبو طبر) صدام حسين.
واليوم وبعد أن حرر التحالف الدولي بقيادة أمريكا العراق لهم من أسوأ نظام فاشي عنصري مقيت، نظام المقابر الجماعية والأنفال، وبدلاً من أن يجتمعوا كقادة سياسيين ناضجين لحل مشاكل الشعب، راحوا يعيدون ذات اللعبة وذات الخطيئة الكبرى التي ارتكبوها بعد ثورة تموز، دون أن يستخلصوا أية عبرة من تاريخهم الدموي المعاصر. فمتى يتعلم هؤلاء القادة quot;الميامينquot;؟
أجل، إن الواقع المزري هو نتاج حكم البعث الفاشي لما يقارب أربعة عقود من قهر وظلم واستلاب وإذلال وتجهيل متعمد، وتفتيت النسيج الاجتماعي وفرض العزلة على الشعب عن العالم والقضاء على مؤسسات المجتمع المدني. باختصار، لقد أعاد الحكم الفاشي شعب العراق إلى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، بل أسوأ من ذلك، لأن تعداد الشعب قبل 86 عاماً كان في حدود مليون ونصف المليون نسمة ولا يمتلك أدوات الدمار. أما الآن فتعداده يقارب الثلاثين مليون نسمة إضافة إلى ترسانة من الأسلحة المنهوبة من الجيش العراقي المنحل وما يصل من الخارج. لذا فإذا حصلت حرب أهلية، لا سامح الله، وبهذا العدد وتكدس الكميات الهائلة من أسلحة الدمار في أيدي القوى التي تتربص الشر بشعبنا، ستكون نتائجها وخيمة تفوق كل التصورات. فأين الزهد بالمناصب والمال والشهرة كما يدعي الإسلاميون؟ وأين الديمقراطية التي يدعي بها المتصارعون من جميع الاتجاهات؟

حقاً لقد أثبتت الأزمة العراقية فرضية مفادها أن الشعب المضطهد لا يمكن أن ينجب قادة ديمقراطيين. وهذه ليست محنة خاصة بالعراق بل، هي محنة جميع الشعوب المبتلية بالأنظمة المستبدة. فالحكومات المستبدة لا تحترم شعوبها ولا تعوِّدها على الديمقراطية. كما إن الشعوب المضطهدة لا يمكن أن تنجب قادة وحكام ديمقراطيين. وهذه حلقة مفرغة قاتلة ظهرت نتائجها المدمرة في العراق وغيره.

فمن المؤلم حقاً أن نرى الأجانب، وبالأخص الأمريكان والبريطانيين، أكثر حرصاً على وحدة العراق وسلامة شعبه من نخبه السياسية. وهذه حقيقة واضحة للعيان يجب أن لا ننكرها، فقد بلغ السيل الزبا من سلوك السياسيين العراقيين ويجب تجنب سياسة النعامة في دس رؤوسنا في الرمال. فهاهو السفير الأمريكي في بغداد زلماي خليل زاد، قال حقاً عندما اتهم الزعماء العراقيين في حديث الى laquo;الحياةraquo; بـ laquo;الانشغال بالتفاصيل وبالمصالح الذاتية والفئوية، فيما تواجه بلادهم خطر حرب أهلية ومخططات خارجية لتمزيقها...raquo;. كما حرص الرئيس الأمريكي جورج بوش غداة تفجير المزار الشيعي في سامراء بالإتصال التلفوني بستة من القادة العراقيين يلح عليهم بالوحدة الوطنية والجلوس معاً لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية لاحتواء الأزمة، ولكن لا حياة لمن تنادي.

ما هي المشكلة؟
المشكلة باتت معروفة ولكن لا ضير من ذكرها لإكمال الصورة. فكل هذه الأزمة التي تهدد العراق ناتجة عن ترشيح أو رفض مرشح الائتلاف الوطني العراقي (الشيعي)، الدكتور إبراهيم الجعفري لرئاسة الحكومة القادمة الدائمة. فمن جهة يصر قادة كتل: التحالف الكردستاني، وجبهة التوافق، والحوار الوطني، والعراقية الوطنية (133 مقعداً) على تبديل الجعفري بشخص آخر مثل الدكتور عادل عبدالمهدي. بينما كتلة الائتلاف الشيعية التي حصلت على 130 مقعداً تصر على مرشحها الجعفري، حسب الاستحقاق الدستوري. وبهذا الصراع، فقد أثبت القادة العراقيون عجزهم في حل هذه المعضلة بالجلوس حول المائدة، المستديرة أو المستطيلة، ليتداولوا المشكلة بأسلوب حضاري وديمقراطي هادئ للوصول إلى نتيجة تنقذ البلاد والعباد من هذه الأزمة الخانقة والمحنة القاتلة. علماً بأن الكل يدعي أنه مع الحق ومع الديمقراطية ومع الحلول الصائبة!! فمن نصدق ومن هو على حق؟
فمن تصريحات ممثلي الكتل الرافضة لترشيح الجعفري، نفهم أن الأكراد يرفضونه لأنه لم يتعاون معهم في حل قضية كركوك. أما قادة الجبهة السنية فيرفضون الجعفري لسبب آخر وحسب ما يدعون أنه عجز في تحقيق الأمن وتوفير الخدمات للشعب. فهل هذه الادعاءات منصفة؟
لست محامياً للجعفري كما إني لست راضياً عن أداء حكومته خلال فترة توليه رئاسة الحكومة الانتقالية الثانية المنتخبة. ولكن لنكون منصفين، هل كان الجعفري يحكم العراق لوحده حتى يكون وحده المسؤول عن عدم تحقيق الأهداف أعلاه؟ وهل كانت حكومة الجعفري حكومة الحزب الواحد (حزب الدعوة مثلاً) أم كانت حكومة إئتلافية شاركت فيها جميع الأطراف الأخرى بما فيها الرافضة للجعفري الآن؟
أعتقد أن مسؤولية ضعف أداء حكومة الجعفري تقع على جميع الأطراف وليس على طرف واحد أو الدكتور الجعفري وحده، لأن الحكومة كانت إئتلافية مؤلفة من وزراء ممثلين من ذات الأطراف التي ترفض الجعفري. إضافة إلى ذلك فضعف الأداء لا يعود إلى ضعف الحكومة فحسب بل إلى شراسة الإرهاب والدعم الخارجي له، وخاصة السوري والإيراني. كما ويجب أن لا ننسى أن الحكومة ومؤسساتها الأمنية المسلحة بدأت من الصفر وما زالت في طور التكوين. فالجعفري لم يكن مخولاً حتى لتبديل وزير من وزرائه، لأن كل وزير يمثل جهة حزبية معينة. لذلك ربما من المفيد أن اقترح بتخويل رئيس الوزراء القادم صلاحية تبديل الوزير الذي لا ينسجم معه لسبب وآخر على أن يكون البديل من نفس حزب الوزير الذي تم إعفاءه.

أما موقف الأخوة الكرد من الجعفري واتهامه بعدم وفائه في حل مشكلة كركوك، أعتقد وكما يعرف الأخوة الكرد أن حل مشكلة كركوك لم يكن من صلاحية الجعفري ولا من صلاحية حكومته الانتقالية. لأن حل هذه المشكلة المزمنة والمعقدة من مسؤولية الحكومة الدائمة التي تنبثق من البرلمان الدائم القادم. كذلك نقول أن الأخوة الأكراد تحملوا مشكلة كركوك لمئات السنين، فما الضير لو انتظروا عاماً أو عامين آخرين لحل هذه المشكلة؟ وعليه أرى أن جميع الاتهامات التي تعرض لها الجعفري غير منصفة وكان من الممكن أن يتعرض لها أي شخص آخر لو كان يحتل منصبه ويلعب دوره الصعب.

ما الحل؟
هناك عدة حلول مطروحة، أشار إليها البعض من العراقيين والأجانب وأحاول إضافة حل أخر، عسى ولعل أن يتوصل القادة إلى نتيجة لإخراج البلاد من هذا المأزق الخانق.
1-الاستجابة إلى دعوة السيد مسعود بارزاني، رئيس اٌقليم كردستان إلى لقاء قادة الكتل الفائزة في الانتخابات، في كردستان لمناقشة الأزمة وحلها.
2-وإذا تعذر الحل الأول، الاستجابة لإقتراح السفير الأمريكي في بغداد السيد زلماي خليلزاد، بذهاب قادة الكتل السياسية إلى واشنطن ومناقشة خلافاتهم للوصول إلى حل. وفي هذا المضمار، أحبذ الأخذ باقتراح الكاتب الأمريكي (توماس فريدمان) المنشور في نيويورك تايمس، والمعاد نشره بالعربية في صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية يوم 11/3/2006، والذي جاء فيه: laquo; نحن في حاجة لتجميع كل القيادات العراقية المنتخبة لمؤتمر للمصالحة العراقية خارج بغداد. ويجب علينا حبسهم في غرفة وعدم السماح لهم بالخروج الى ان يتوصلوا الى حكومة وحدة وطنية، او يفشلوا في تشكيل تلك الحكومة، وفي تلك الحالة نشير الى ان الوقت قد حان للاستعداد للرحيل raquo;. (الشرق الأوسط، 11/3/2006). إلا إن السيد فريدمان يستدرك في البداية أن الانسحاب غير عملي ولكن نستخدمه كتهديد!!
3- وإذا فشلت المحاولتان، الأولى والثانية، فعلى الولايات المتحدة عرض المشكلة على مجلس الأمن لإصدار قرار بتشكيل حكومة تكنوقراط من العراقيين المستقلين وأصحاب خبرة سياسية وتكنوقراطية، وإعطاء الفرصة للكتل السياسية لحسم خلافاتها وتصفية حساباتها. وحكومة التكنوقراط هذه غير مخولة بحسم القضايا المستعصية مثل مشكلة كركوك أو بيع ممتلكات الدولة الخ.
4-ولدي حل رابع أقترحه على أهل الحل والعقد وهو أن يترك ترشيح الجعفري كما هو دون جعله عقبة أمام تشكيل الحكومة، ويتم التصويت عليه في البرلمان (له أو ضده)، حيث يمكن لجبهة الرفض رفضه كما ستتاح الفرصة أمام كتلة الإئتلاف (كتلة الأكثرية حسب الاستحقاق الدستوري) ترشيح شخص آخر مثل الدكتور عادل عبدالمهدي أو غيره. وبذلك يمكن الخروج من المأزق دون إحراج لأية كتلة أو أي شخص.

ألا هل بلغت، اللهم اشهد.