quot;المصيبة ليست في ظلم الأشرار وإنما في صمت الأخيارquot; (مارتن لوثر كنغ)

تربينا منذ الصغر على مقولة (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب). وقد لعبت هذه التربية دوراً. كبيراً في تبني البعض الصمت حتى عندما تكون القيم مهددة بالخطر. فمن نافلة القول أن الأمور مرهونة بظروفها وإذا ما طبقت هذه المقولة خارج سياقها ستكون نتائجها معكوسة. إذ تقابلها مقولة أخرى وهي: quot;الساكت عن الحق شيطان أخرسquot;. فالمفروض بالإنسان أن يتبنى الموقف المناسب حسب ما يمليه عليه وعيه وضميره. صحيح إن الصمت أسهل من الكلام إذ لا يعرض صاحبه إلى الخطر على المدى القصير، ولكن على المدى البعيد، تكون له عواقب وخيمة عليه وعلى المجتمع. فكما قال الشاعر الإيراني، سعدي الشيرازي:laquo;شيئان يقودان الحكيم إلى الخطأ: البقاء صامتا حينما يكون الكلام مستوجبا، والتكلم حينما يلزمه الصمتraquo;.

في هذا الزمن الرديء، يخوض اللبراليون العرب معركة فكرية ضارية ضد التخلف والتضليل والمد السلفي وطغيان الإسلام السياسي. ويواجهون في سبيل ذلك الكثير من مضايقات ومحاصرة وتشرد وحتى التصفيات الجسدية من قبل القوى الإسلاموية ومعها بعض الأنظمة العربية المستبدة. هذا المد الإسلاموي ما كان ليتصاعد وينتشر ويسيطر على الشارع العربي لولا دعم الحكومات العربية له وتفشي الفساد الإداري في أجهزة الدولة.

يحاول البعض من الكتاب الليبراليين، إلقاء اللوم على اللبراليين أنفسهم في انحسار العلمانية وتصاعد المد الإسلام السياسي واتهامهم بالكسل وعدم الجدية في العمل والتغلغل في أوساط الجماهير لنشر أفكارهم. في رأيي، هذا خطأ في تشخيص العلة. إن سبب تفشي التطرف الإسلامي وانحسار الفكر الليبرالي يعود إلى عدة عوامل، معقدة ومتشابكة، منها: اضطهاد الحكومات العربية للكتاب الديمقراطيين والليبراليين، وفسح المجال للإسلامويين المتطرفين مما أتاح لهم السيطرة على المؤسسات الدينية في البلاد العربية والإسلامية، وهيمنتها على الثقافة والدعاية والنشر وتوجيه الأجيال وفق الفكر السلفي والذي أدى إلى التطرف وشيوع فكر الإسلام السياسي. إضافة إلى إن الفكر السلفي موجود منذ مئات السنين، تمتد جذوره في أعماق المجتمعات العربية والإسلامية ومتغلغل في لا وعي المواطن المسلم، فقط يحتاج إلى إثارة وتفعيله بالخطب الدينية الرنانة. كذلك دور الحكومات في محاربة الفكر التنويري الليبرالي، حيث استعانت سلطات القمع بأئمة المساجد المجندين للفكر السلفي السياسي والترويج بأن العلمانية والليبرالية وحتى الديمقراطية هي أفكار مستوردة إباحية إلحادية ضد الإسلام وغريبة على المجتمع العربي المحافظ المعتاد على تقاليد السلف الصالح! كذلك تفشي الأمية الأبجدية التي توفر البيئة الخصبة ليستغلها أئمة المساجد في غسل عقول الشباب وإغرائهم بالجنة وحور العين للانتماء إلى المنظمات الإرهابية. أما الليبراليون، فلا حول ولا قوة لهم، لا يملكون سوى أقلامهم، وهم مطاردون ومهددون بالتصفية الجسدية من قبل حكوماتهم ومن قبل الظلاميين الذين يتوعدونهم وعائلاتهم بالذبح. فكيف لهم التغلغل في أوساط الجماهير لنشر أفكارهم، وحتى كتبهم ممنوعة من الدخول في بلدانهم.

أجل، إن الحكومات العربية المستبدة هي المسؤولة عن تفشي الإسلام السياسي المتطرف، لأنها هي التي استعانت بالتيار الإسلامي لمحاربة القوى الديمقراطية ومطاردة المثقفين الليبراليين حتى في منافيهم. وكانت النتيجة أن دفعت هذه الحكومات وشعوبها الثمن الباهظ، كما يجري الآن في العديد من الدول العربية المبتلية بالإرهاب. ولم تكتف هذه الحكومات بفسح المجال للإسلامويين في محاربة الفكر الليبرالي فحسب، بل راحت اسخباراتها تستخدم ذات الأساليب التي يتبعها الإرهابيون في ملاحقة الليبراليين في منافيهم لإرعابهم، وحتى اغتيالهم، لتلقي جرائمها على المنظمات الإرهابية. وهذه لعبة قذرة تلعبها بعض الحكومات العربية ولا شك ستكون نتائجها وخيمة على الجميع. وهذا الوضع يضع المسؤولية الإخلاقية على جميع الأخيار من الكتاب المتنورين لتجنب الصمت إزاء ما يجري من انتهاكات ومظالم بحق الإنسانية في الدول العربية والتي تهدد بعواقب وخيمة تحرق الأخضر بسعر اليابس. فالآن هناك مجازر في أكثر من دولة عربية، مجاز في العراق ضد الجميع، مجازر في مصر ضد الأقباط، ومجازر وانتهاكات وجرائم اغتصاب وهتك أعراض من قبل عصابات الجنجويد المدعمة من قبل الحكومة السودانية ضد المسيحيين في دارفور جنوب السودان. حقاً الصمت إزاء هذه المجازر جريمة. وكما قال فولتير: quot;أينما وجد الظلم فالكتاب مسؤولون عنهquot;.

فلو راجعنا تاريخ العالم، القديم والحديث، لوجدنا أن أهم سبب للكوارث التي نزلت على البشرية يعود إلى صمت الأخيار وعدم تنبيه المجتمع وتحذيره بالعواقب في الوقت المناسب عندما يكون الكلام مطلوباً. إني أعتقد جازماً، أن العالم العربي خاصة، والإسلامي عامة، يعاني الآن من انهيار المعايير والقيم الإخلاقية والحضارية وتفشي الفكر السلفي الظلامي وتضييق الخناق على الفكر الليبرالي الديمقراطي. إذ كيف نفسر السماح لمؤلف سلفي متطرف بنشر كتاب ضخم من مجلدين وبمباركة الجهات الرسمية ويمنح عليه درجة دكتوراه بامتياز من جامعة حكومية، يحرض فيه على قتل أكثر من مائتي مثقف عربي ليبرالي، في الوقت الذي يمنع فيه كاتب ليبرالي مثل تركي الحمد من الكتابة؟ كيف نفسر موقف نائبة في البرلمان العراقي تؤيد ضرب الرجل لزوجته مدعية بأن الله سمح بذلك؟ ماذا نقول عن وسائل إعلام تنشر وتبارك جرائم ذبح البشر أمام عدسات التلفزة باسم الله والإسلام ويهلل لها المشاهدون بصيحات quot;الله أكبرquot;؟ وعلى ماذا يدل تمتع الجماعات الإرهابية بشعبية واسعة بين الشعوب العربية والإسلامية؟ ألا يدل كل ذلك على أننا نعيش في مرحلة الانحطاط الحضاري والأخلاقي؟

في الستينات من القرن المنصرم، رفع الفيلسوف الفرنسي سارتر، مذكرة احتجاج بعنوان (عارنا في الجزائر) محرضاً ضد الدولة. فطلب مدير شرطة باريس من الرئيس ديغول موافقته على اعتقاله ومن وقع على تلك المذكرة. فأجابه ديغول أنه يرفض إصدار أمر باعتقال أحفاد فولتير. أين العرب من هذا؟ أي انحطاط ثقافي وحضاري بلغه العرب في هذا الزمن العاهر، زمن بن لادن والزرقاوي والظواهري؟ زمن quot;القائد الضرورةquot; صدام حسين؟ زمن يتعرض فيه المثقفون الليبراليون إلى الذبح ويضطر الآخرون منهم إلى الهجرة طلباً للأمن والكرامة. إننا حقاً في حالة كارثة.
لا شك إن هذا الوضع ينذر بكارثة بشرية وخيمة على العرب وهي من صنع أيديهم، ولا يمكن تفاديها أو التخفيف من آثارها، إلا إذا انتبه لها المسؤولون في السلطة والمستحوذون على توجيه الرأي العام من الكتاب والإعلاميين ورجال الدين والمختصين في مجال التربية والتعليم واتخذوا الإجراءات اللازمة لمنعها. فما جرى ويجري في العراق ما هو إلا البداية والآتي أعظم. الوضع العربي والإسلامي جد خطير ولا يحتمل التفرج ويستوجب التحرك السريع وبالأخص من المثقفين. فكما قال فرانس فانون: quot;كل متفرج، خائن أو جبانquot;. ومن هنا نعرف صمت المثقف الاختياري جريمة.

تقوم الحكومات العربية وبطلب من التنظيمات الإسلامية السلفية المتشددة على حجب المنابر التي تنشر الفكر الليبرالي التنويري. فمثلاً تم حجب موقع (إيلاف) و(الحوار المتمدن) و(شفاف الشرق الأوسط) في عدد من الدول العربية. كما تجري الآن حملة شرسة من قبل السلفيين في البحرين لغلق صحيفة (الأيام) البحرينية ويهددون المثقفين الذبح إن لم يتوقفوا عن الكتابة. إننا نشهد هجمة شرسة على الفكر الليبرالي من قبل قوى ظلامية تدعمها بعض الحكومات العربية. لذا يجب عدم السكوت عن هذه التجاوزات بالتفرج عليها. ففي الوقت الذي يمكن تبرير صمت المثقفين الليبراليين المقيمين في أوطانهم بدافع الخوف من التصفية الجسدية، إلا إن هذا العذر غير مقبول من المثقفين الأحرار في المنافي الذين اختاروا الصمت وهم بعيدون عن الاضطهاد والملاحقة نسبياً. يجب على الكتاب اللبراليين في المنافي عدم الإذعان لتهديدات الإرهابيين الأوباش التي جاءت في بيانهم البائس قبل أسابيع يهددون فيه بذبح الليبراليين ما لم يعلنوا توبتهم خلال ثلاثة أيام من تاريخ صدوره!! ولنقل لهم (طز فيكم وفي بياناتكم وتهديداتكم). وتحية للصديق المفكر الليبرالي الدكتور شاكر النابلسي الذي رد عليهم بمقال (خسئتم، فنحن نتحداكم).

نعم، إن الشعوب العربية مهددة الآن بالإرهاب الإسلامي أكثر من أي شعب آخر، وأكثر من أي وقت مضى، إلى حد يمكن أن يحصل معه الانهيار التام. وهذا الإرهاب ساعدت في ولادته جهات عديدة، وعلى رأسها أمريكا ومعها الدول الخليجية النفطية خلال مرحلة الحرب الباردة وذلك لمحاربة عدوها الأول، المعسكر الاشتراكي. لقد ساعدت هذه الدول على قيام المنظمات الإرهابية ومنها منظمة (القاعدة) ومدها بالمال والسلاح، كما ولعب أئمة المساجد دوراً مؤثراً في دفع الشباب للانتماء إلى هذه المنظمات الإرهابية وروجت لها بالإعلام. أما الدول العربية الأخرى غير النفطية فقد ساعدت على تفشي الفكر الظلامي الإرهابي وذلك بفسح المجال للتيارات الإسلامية السلفية ومطاردة المثقفين الديمقراطيين واللبراليين حيث ضيقت عليهم الخناق وزجت بهم في السجون وشردت الباقين إلى المنافي وأرغمت من تبقى منهم في الوطن على السكوت.
ولكن بعد انتهاء الحرب الباردة، وزوال الخطر الشيوعي، تغيرت موازين القوى وانقلب السحر على الساحر، فأمريكا ومعها الشعوب العربية والإسلامية باتت هي المهددة بالخطر من قبل ذات المنظمات الإرهابية التي أسستها في السبعينات والثمانينات. وهذا الخطر تجاوز كل التوقعات، حيث بلغ الذروة في كارثة 11 سبتمبر 2001 التي دفعت أمريكا لتغيير سياستها الخارجية، من دعم المنظمات الظلامية والحكومات الدكتاتورية إلى مطاردة هذه المنظمات وإسقاط الأنظمة المستبدة والعمل على نشر الديمقراطية. وهذا التحول التاريخي الكبير هو في صالح الشعوب المضطهدة، لذا يجب على القوى الديمقراطية الاستفادة منها إلى أبعد الحدود. أما إصرار القوى اليسار العالمي والتيارات القومية العلمانية على محاربة أمريكا بحجة مواقفها السلبية في الماضي، فهذا الموقف يصب في خدمة الإرهابيين الإسلاميين ويلحق أشد الضرر بمصالح شعوبنا. فالسياسة تتغير وفق المصالح، وإنها فرصة تاريخية نادرة أن تلتقي مصلحة شعوبنا مع مصلحة الدولة العظمى في محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية.

لذا فالآن، أمام الشعوب العربية وحكوماتها خياران لا ثالث لهما: إما التحالف مع القوة العظمى، أمريكا، لمواجهة الإرهاب والقضاء عليه قضاءً تاماً والعمل الجاد للتحولات الديمقراطية، أو عدم التعاون مع أمريكا وبذلك سيحل ببلدانها الكوارث الماحقة.

ولكن يبدو أن الحكومات العربية ومعها شعوبها الغارقة في ظلام الجهل والتضليل، لا تدرك المخاطر المحدقة بها، وهي تخاف من الديمقراطية وفقدان السلطة أكثر من خوفها من الإرهاب الإسلامي. لذلك فإن أشد ما يرعب الحكومات العربية هو نجاح التجربة الديمقراطية في العراق. لأن بنجاح هذه التجربة سيتحول العراق إلى دولة صديقة لأمريكا والتي تريد أن تجعل منه نموذجاً تقتدي به دول المنطقة في الديمقراطية والإزدهار الاقتصادي، كما حصل في ألمانيا وإيطاليا واليابان التي حررتها أمريكا في الحرب العالمية الثانية وكوريا الجنوبية في الخمسينات من القرن الماضي. والعراق يتمتع بجميع المواصفات ليكون يابان الشرق الأوسط، وذلك لما يمتلك من ثروات نفطية ومائية وإمكانيات بشرية. ولهذا السبب تعمل الحكومات العربية على إفشال التجربة خوفاً من وصول عدواها إلى شعوبها. وهذا ناتج عن قصر نظر شديد يؤدي بهم وبشعوبهم إلى كوارث لا تقل فظاعة عن تلك التي حصلت في الصومال.

ليس أسهل على المواطن العربي من شتم أمريكا، وقد أوضحت ذلك في مقالتي السابقة الموسومة (معاداة أمريكا.. إلى أين؟). ولكن التصريح بضرورة علاقة استراتيجية وصداقة مع الدولة العظمى هو الأصعب والذي يعرض صاحبه إلى النقد والرجم بالحجارة. لذلك أعتقد أن شتم أمريكا هو موقف انتهازي وغوغائي ولا يحتاج إلى شجاعة. إن الدعوة لصداقة أمريكا تخدم قضايانا المصيرية وخاصة الحركة الديمقراطية الليبرالية التي بدونها لا يمكن تحقيق أي تقدم. وبهذا الخصوص يقول الكاتب اللبناني حازم صاغية: quot;ما من ليبرالي مطلقاً يمكن أن يكون مناهضاً لأميركا. هذا ضد طبيعته. فأميركا جوهرة الحرية والمبادرة الإنسانية الخاصة. إنها التعددية الثقافية وهي تعمل. لكن الليبرالي لا ينبغي له، بالضرورة، أن يؤيد كل ما تقوم به الإدارة الاميركية. وهذه ليست مناهضة لأميركا. انها الليبرالية. (حازم صاغية، الحياة اللندنية، 16/5/2003). وأنا مع ما قاله صاغية في كل كلمة.
إن الذين يعملون على إفشال التجربة العراقية لا يقدرون مدى خطورة سلوكهم هذا. يحكى أن سفينة كانت تمخر عباب البحر وعلى ظهرها مائة بحار، 99 منهم من عشيرة واحدة وبحار واحد فقط من عشيرة معادية. فظل ال 99 بحاراً يدعون الله أن يغرق السفينة لكي يهلك البحار العدو الوحيد. وهذا المثال ينطبق على جميع الذين يعملون على إغراق السفينة العراقية. فقد أعماهم تعصبهم الأيديولوجي وراحوا يعملون على تدمير العراق وإفشال تجربته الديمقراطية من أجل إلحاق الهزيمة بعدوتهم الوحيدة أمريكا، غير مدركين المخاطر الجسيمة التي تنتظرهم في حالة فشل التجربة العراقية. هذا الفشل يعني نجاح الإرهاب ومنح الفكر الظلامي زخماً هائلاً وسقوط الحكومات العربية الواحدة تلو الأخرى كما تسقط أوراق الخريف عند هبوب العاصفة لتقوم مكانها حكومات بقيادة القاعدة ورئيسها بن لادن والزرقاوب والظواهري، وعندها نقرأ على السلام العالمي السلام.
المطلوب تجنب سياسة النعامة والصمت إزاء ما يجري في البلاد العربية الآن والذي يهدد بكارثة ماحقة ما لم يسارع المسؤولون باتخاذ الإجراءات اللازمة الآن.
يقول القس مارتن نيمولر عن جرائم النازية ضد الشعب الألماني قبل وخلال الحرب العالمية الثانية في قصيدة جاء فيها:
في البدء، جاءوا إلى الشيوعيين،
فسكتُ، لأني لم أكن شيوعياً.
ثم جاءوا إلى اليهود،
وسكتُ، لأني لم أكن يهودياً.
ثم جاءوا إلى الكاثوليك،
وسكت، لأني كنت بروتستانتياً،
وأخيراً جاءوا لي،
وعندها لم يبق أحد ليدافع عني.