الحرية مكسب عظيم في مخطط كسر إرهاب التسميات النافية، لأن الحرية تتعارض مع منطق الاستبداد، والتسميات التي مرت علينا هي لون من ألوان الاستبداد، الاستبداد الفكري والروحي والاقتصادي والإنساني، لا أتحدث عن المفهوم المباشر لهذه التسميات النافية ، بل أتحدث عن المعرفة باعتبارها سلطة خفية، لا أتحدث عن المفهوم بصراحته السمجة ، بل عن المفهوم كغطاء خارجي، كموقف، ونتيجة، ومستحقات، فالحرية شأن جوهري في فكر المثقف الشيعي، ليس لقيمتها الجوهرية في حد ذاتها وحسب، بل لما تخلقه من فرص استعادة الذات، والدفاع عن الحقيقة، الحرية ضد التغييب، والتسميات النافية التي هي مخطط تغييب، وإعدام، وحذف لطائفة من البشر ، ولذلك لابد من الكفاح في سبيل الحرية حتى تتوفر فرص تزييف وتعطيب هذه التسميات التي تتعارض مع الحس الإنساني بكل معانية الطيبة.
ونعتقد أن المثقف الشيعي إذا ولج عالم الحرية على مستوى التأسيس والتبني والممارسة والتبشير سوف يبدع أيَّما إبداع، لأن مساحة كبيرة من مذهبه وتراثه تتواصل مع هذه القيمة الرائعة، فا لعدل الإلهي وضرورة تحكيم الحاكم العادل، وحرمة التعاون مع الظلمة... كل هذه المقتربات وغيرها تفتح مجال تفجر فكري وإبداع نظري من خلال التعاطي مع الحرية، أضف لذلك، كانت هناك أنهار من الدم الشيعي سُفِكت على دروب الحرية، وبالتالي، يملك رصيدا من تجربة التعاطي مع الحرية كهدف، وقبل ذلك كأساس عقدي، ومن ثم لا ننسى، أن عقيدة الاختيار الرائعة تنسجم مع جوهر الحرية، بما في ذلك حرية الواقع، وليس حرية الذات وحسب، يعني حرية التصرف الخارجي ، حرية الخلق الخارجي، وليس حرية الـتأمل النظري.
الدعوة إلى ا لحرية تستلزم الدعوة إلى أمرين في الوقت نفسه، أمرين ملازمين لجوهر الحرية، هما بالضبط، العقلانية و التثوير! هما صنوا الحرية.
العقلانية دعوة إنسانية لاحترام الحياة والأشياء، ومداخلتها بهدوء ورصانة، وعدم التسرع في الأحكام، محاكمة الأمور بموضوعية.
المثقف الشيعي مدعو إلى عدم التمسك الحرفي بالماضي، بل بالإفادة منه، والإفادة منه حتمية، وهذا من معاني العقلانية، ولا ننسى أن الدعوة إلى العقلانية تتعارض مع الاستبداد، تتعارض مع كل تسميات الحذف، حذف الآخر.
العقلانية ضد استهبال الأخر، ضد تسميته من منطلق التحقير، من منطلق الإنفراد بالوجود والحقيقة، والتشيع يمتلك نصا مشرقاً في هذا المجال، فأي أبن أنثى أما أخ لي في الدين أو نظير لي في الخلق، بل كتاب الله شاهد على هذا المنحى الأخلاقي العقلاني الشفاف، فالأنبياء علاقتهم مع أقوامهم علاقة أخوة!
ألم نقرأ (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أن أنتم إلا تفترون).
ألم نقرأ قوله تعالى (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...).
وهذه هي العقلانية اليوم ترفض كل دعوى لاحتكار الحقيقة، حتى في المذهب الواحد.
التثوير نعني به تجاوز الحاضر لغد مشرق، تجاوز الذات، العطاء الذي من شأنه السمو بصاحبه الذي أعطى، لا حرية بلا قدرة على تجاوز معادلة الحاضر، ولا حرية بلا عقلانية شفافة.
هذا المثلث المقدس (الحرية، العقلانية، الثورية) يسلحنا بقوة هائلة لكسر الاغتراب، الاغتراب الذي خطه على بساط روحنا تاريخ من الظلم، تاريخ من الإهمال، تاريخ من العنف، تاريخ من الحرمان، تاريخ من التشويه، تاريخ من الحذف، الحذف المستمر.
الحقيقة أن العمل من اجل الحرية بذاته يحررنا من كل محاولة حذف، يمرِّننا على مقاومة تلك التسميات التي يريدون إنزالها من قيم النظر إلى قيم الواقع، ونحن مادتها، ونحن وعائها التطبيقي، وقد مارسوها، وما زالوا يمارسونها!
الآن وفي ظل هذه الحرب المستعرة على شيعة العراق، وشيعة أفغانستان، وشيعة البحرين، وشيعة لبنان، الآن ينبغي لمثقفي الشيعة أن يكتلوا جهودهم لوضع خطاطة لموضوعة الحرية، ليس تعريفها وماهيتها وخصائصها، ذاك ما لا ينفع، بل خطاطة تتعلق بكونها حقا،حق يجب أن يجد تطبيقه العملي، يجب أن يكون من معالم المجتمع المسلم، في أي مكان، في أي زمان، بل حق يجب أن يجد تطبيقه في كل مجتمع بلا استثناء.
الآن ينبغي أن يكثف شيعة العراق فكرهم وجهدهم للدفاع عن الحرية، فقد استغل بعضهم غياب الحرية ليخططوا على أرواحهم التسميات الحاذفة، يخططوها عنوة، وقد كان لاستفرادهم بالقوة سبب مهم في ذلك، وكان لغياب الحرية سبب في ذلك، وكان لطمس العقلانية سبب في ذلك، وكان لجمود المجتمع على نمطية ميتة سبب في ذلك.
إنه مثقف الحرية، وليس مثقف الأحكام الشرعية، مثقف الحرية وليس مثقف علم الكلام، الحرية من الخارج والحرية من الداخل، يكافح من أجل أن يحرر قومه من هذا العنت والتشويه والقتل والنفي، ويكافح من أجل أن يحرر الشيعي من داخله، من شعور بعضهم بالضعة، والرغبة في أن يكون بقرة للذبح، من الغيب الغبي، من الإيمان بقدرية الشهادة بلا تخطيط وبلا مناسبة وبلا أمل، تلك الأحبولة التي راح ضحيتها الملايين من الشيعة، من أجل أن يضع قدر الإنسان الشيعي بيده، وليس على أعواد منبر حسيني يملي عليه بما يرغب مرتقيه، بلا مساءلة وبلا حوار، لا سابقا و لا حقا، من الدمعة التي استعبدته، من الحزن الذي أمتلكه، من السود الذي استعذبه، من هذه الاستباحة التي سلطها برغبته على جسده، ففي كل سنة أكثر من خمسين مناسبة للبكاء واللطم والنواح والجرح والجري مئات الأميال مشيا على الأقدام،فيما لا تتحرك فيه غريزة الخوف على أطفاله الجياع، وهو يُدْعَى للقيام بحملة تنظيف شارعه، أو منطقته أو محلته، كم هي مأساة وكم هي فاجعة؟
أنه مثقف الحرية، حرية شيعته... حرية أحمد بن حنبل في اعتقاده بخلق القرآن...حرية النظَّام الكبير بتفضيل أبي بكر على علي... حرية الحلاج بقوله أن الله في جيبي... حرية الاشتراكي الذي يؤمن بأصالة الملكية الجماعية ...حرية القومي الذي لا يرى في القومية مقياس تفضيل حتى لو كان باطلا... حرية المرأة التي جعلت من فاطمة مثلا لها... حرية المرأة التي تطلعت إلى سيمون ديبوفوار قدوة وقيادة ، فإن الأصل هو الحرية بصرف النظر عن منحاها وهويتها عندي أو عندك.