ثبتت دول الخليج المنتجة للنفط سعر عملاتها بالدولار الأمريكي منذ فترة طويلة. و ينبع هذا الاختيار الاستراتيجي من قناعة لدى صناع القرار بان فوائد الربط تتجاوز بكثير أية انعكاسات سلبية له. أولا، يمثل العائد من النفط المقوم بالدولار أهم مصدر لميزانية الحكومة، و تثبيت سعر الصرف بالدولار يساعد هذه الأخيرة على تقدير مداخيل الميزانية بدقة. ثانيا، معظم الواردات الخليجية تأتي من دول تستعمل الدولار أو تثبت سعر عملتها به، مثل الصين، هونج كونج، وماليزيا. على هذا الأساس، فان الربط الثابت للعملات الخليجية بالدولار يقلل من درجة عدم اليقين لدى كل المتعاملين بالعملة الأجنبية. ثالثا، يمثل السعر الثابت للصرف أداة سهلة للسياسة النقدية، بينما اعتماد سياسة بديلة سوف يتطلب خبرات في مجال تحديد السياسة النقدية، و هي خبرات غير متوفرة في الوقت الحاضر.

تعرضت سياسة تثبيت سعر صرف العملات الخليجية لأول اختبار لها، خلال النصف الثاني من عقد التسعينات من القرن الماضي، إذ كان من المفترض إن تنعكس زيادة سعر صرف الدولار سلبا على تنافسية الصادرات الخليجية (الصناعات التحويلية و الخدمات). لكن هذا لم يحصل بحكم ضعف الصادرات غير النفطية، أو نتيجة قدرة المنشات التصديرية على التأقلم مع سعر الصرف المرتفع بالضغط على التكاليف، بما فيها تكاليف العمالة الوافدة التي قبلت بتخفيض الأجور، إذ إن المهم بالنسبة لها هو مقابل تحويلاتها الى بلدانها الأصلية من العملة المحلية، الذي ارتفع مع ارتفاع سعر صرف الدولار.

مع بداية انخفاض سعر صرف الدولار مقابل اليورو، في السنوات الأخيرة، تحسنت القدرة التنافسية للاقتصاديات الخليجية، مما اقنع صناع القرار بان تثبيت سعر الصرف يمثل السياسة الملائمة. و يفسر هذا القرار الذي اتخذه مجلس التعاون الخليجي بتثبيت كافة الدول الأعضاء لعملاتها بالدولار بصفة رسمية ابتداء من بداية 2003، و هو قرار رمزي و عير ضروري بدليل إن دول الاتحاد الأوروبي اعتمدت اليورو دون أن تكون أسعار عملاتها مثبتة، خصوصا و أن الاستثناء الوحيد في دول مجلس التعاون هو الكويت، حيث كان تغير سعر صرف الدينار مقابل الدولار محدودا جدا، و لا يؤثر على استقرار سعر صرف العملات الخليجية بصفة عامة.

لكن المعطيات تغيرت مع زيادة التضخم في بعض الدول الخليجية منذ 2005، نتيجة ارتفاع أسعار النفط و البرامج التنموية الكبرى للتنويع الاقتصادي في دول الخليج. أصبح التناقض واضحا بين سياسة الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي) الأمريكي و السياسة النقدية المرجوة في هذه الدول، و هو التناقض الذي ظهر إلى العلن يوم 18 سبتمبر الماضي، عندما قررت لجنة السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي خفض سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية (القروض فيما بين البنوك لليلة واحدة) بــ 50 نقطة أساس من 5.25% إلى 4.75%، بهدف تلافي الركود الاقتصادي المحتمل، بينما المطلوب في الدول الخليجية رفع سعر الفائدة و امتصاص السيولة. و لهذا السبب، و خلافا لأحد أهم أسس الربط بالدولار، لم تقم السلطات النقدية في السعودية و قطر و عمان بتخفيض سعر الفائدة.

أدت الخبطة أعلاه إلى ضغط كبير على العملات، و كان الضغط الأكبر على الريال السعودي الذي بلغ سعره أعلى مستوياته منذ 21 عاما. و قامت بنوك أجنبية و صناديق تحوط بإدخال أموال للخليج للاستفادة من سعر الفائدة المرتفع مقارنة بالفترة السابقة، و على أمل أن يتم رفع سعر العملات الخليجية، خصوصا الريال السعودي و الريال القطري و الدرهم الإماراتي.

مثل هذه الضغوط على العملات الخليجية سوف تكون مرشحة للزيادة quot; كلما وجدت الأسواق أن هناك تباينا بين سياسات الولايات المتحدة و دول المجلس، أو توقعت أن تبادر البنوك المركزية إلى اتخاذ خطوات جديدة quot;، كما جاء في تقرير أخير لبنك quot;ايتش-اس-بي-سيquot;. لكن الرد الأفضل على هذه الضغوط يتمثل في خفض سعر الفائدة في كافة الدول الخليجية بمقدار التخفيض الحاصل في الولايات المتحدة الأمريكية، مع التأكيد على التشبث بالربط الثابت لسعر الصرف بالدولار، و اتخاذ الإجراءات الممكنة للحد من السيولة، حتى لو كانت إجراءات محدودة و غير قادرة على التحكم في ظاهرة زيادة الأسعار.

إن فك الارتباط بالدولار يسوف يؤدي إلى تعقيدات فنية في شان السياسة النقدية الجديدة لن يكون بمقدور السلطات النقدية حلها، مما يدخل الدول الخليجية في دوامة من عدم اليقين و المضاربة و هروب الأموال إلى الخارج. و هي كلها سلبيات تفوق سلبيات ظاهرة التضخم الحالية. لذلك نقول يجب الحذر، مع التأكيد على ضرورة مواصلة الربط بالدولار و تغيير سعر الفائدة حسب ما تتطلبه هذه القاعدة.


أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه