تقوم فكرة المواطنة على مبدأ المساواة بين الأفراد، باعتبار حق المشاركة في المجمل من الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وبالقدر الذي يتبدى هذا المفهوم وقد استقر في الأدبيات المعاصرة، ليدل على مدى المساواة أمام القانون والحق في المشاركة في الحياة العامة، فإن المدلول يبقى يتفاعل وفقا لاشتراطات التطور التاريخي والسياقات الظرفية التي أحاطت به. فعلى مدى ثلاثة آلاف سنة من عمر الحياة السياسية للبشرية، وظهور الكائن السياسي الذي تفاعل مع الأنماط والسياقات السياسية المختلفة، إن كانت إقطاعية أم ملكية أم استبدادية أم قومية، فإن الموجه فيها كان يقوم على الفاعل الأصل في كل مجتمع، وطبيعة التزام العلاقة القائمة بين الأفراد والنظام السياسي السائد بينهم، تكون أهمية الوقوف على طبيعة العلاقة التي تميز مسار الشعور والانتماء وحقوق الأفراد.وإذا كانت مصادر الدخل في المجتمع الإقطاعي تقوم على الريع، و في الرأسمالي تستند إلى الربح، وفي المجتمع الصناعي تقوم على الأجرة، فإن البحث عن دالة العلاقة الرئيسة وعلى الصعيد السياسي، تبقى قائمة على مسار توزيع العلاقات، فالتوقف المدقق في المجتمع الإقطاعي يفصح عن طبيعة العلاقة بين السيد والتابع، حيث الحماية التي يقدمها السيد الإقطاعي، مقابل الخدمات التي يتعهد بتقديمها التابع. ومن واقع هذا التوزيع للعلاقة بين الطرفين، فإن البساطة تبقى ماثلة باعتبار طبيعة توزيع النفوذ الذي يبقى محصورا في الإقطاعية التي تعود حقوقها لصالح السيد.
تبرز علاقة الطاعة والولاء في النظام الملكي المطلق. و باعتبار أن الوطن يتمثل في شخص الحاكم المطلق، فإن على الرعية الطاعة والخضوع لموجهاته التي يراها مناسبة، ومن هذا يتبدى توصيف الرعية على حساب المواطنة. أما النظام الدكتاتوري فيتكشف مضمون إخضاع مفهوم الولاء وتمثيله في خدمة الطاغية حيث الولاء المطلق الذي تتمثل فيه معاني المواطنة النازعة نحو الخضوع، وتكييف مجمل الممارسات لصالح الفرد الدكتاتور.
المواطنة علاقة تحددها طبيعة النظام السياسي السائد، فهي خاضعة لموجهات النظام، وليس للعلاقة الفردية، أو الجماعية. ومن هذا يبرز مسار الحقوق التي يطرحها النظام السياسي، والواجبات الملقاة على كاهل المواطن كي يحظى بالمواطنة.باعتبار البحث عن السياق الشرعي الذي يحدد مضامين الاستقلال والمساواة وتنامي روح المسؤولية، وحفز مجال المهارات على صعيد تفعيل الحياة المدنية والمواطنية.
كان لظهور مفهوم الأمة و تلازمه مع مفهوم الدولة، ومنذ بواكير القرن التاسع عشر، دوره الأهم في تفعيل مسار ؛ ( الاستقلال، المساواة، المشاركة السياسية)، في الوقت الذي كانت ملامح المواطنة تعيش حالة التغطية في الأنظمة ؛ ( الإقطاعي، الملكي المطلق، الاستبدادي). إنها المواطنة التي تتمظهر في تجليات الدولة على الصعد، الاجتماعية ( الخدمات)، السياسية ( الانتخابات)، المدنية ( الخضوع للقانون).
يرتبط مفهوم المواطنة بطبيعة العلاقات السائدة، داخل المنظومة الاجتماعية، فهي لدى الإغريق تقوم على المؤثر السياسي، حتى أن أرسطو لم يتردد عن توصيف الإنسان باعتباره ( حيوان سياسي، فيما تتبدى في المجتمع الروماني، انطلاقا من المؤثر القانوني، بحساب علاقة الفرد بالدولة. ومن واقع التحولات التاريخية التي شهدتها أوربا، لا سيما في أعقاب نهوض الدور الذي اضطلعت به البورجوازية، يكون المدى القانوني وقد تمظهر في تشكيل كينونة فكرة المواطنة، بحساب الارتباط المتنامي بالقوانين التي تشرف عليها الدولة من أجل خدمة الأفراد وتنظيم علاقاتهم وشؤونهم العامة. وإذا كانت فكرة الخير العام التي ارتبطت بقيم الفضيلة والأخلاق التي تتمتع بها النخبة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، فإن تجليات القرن الثامن عشر وما أفرزته الثورة الفرنسية من قيم جديدة، تقوم على ثالوث( الحرية، الإخاء، المساواة)، ونبذ العلاقات القديمة المستندة إلى هيمنة ذوي الدماء الزرقاء، من نبلاء وأشراف نالوا مكانتهم عن طريق الوراثة، حتى غدوا بمثابة العبء الثقيل على مسار العلاقات المتجددة التي تفاعلت في أوربا.إنها الجمهورية الفرنسية، التي جعلت من النبلاء، يتنازلون عن كبريائهم القديم، ويتنادون على باقي أفراد الشعب الفرنسي بمفردة ( أيها المواطن). وهذا هو مسار التهوض الذي أفرزته الثورة على صعيد العلاقات المدنية، حيث الخضوع للقانون، وتركيز ملامح الوعي الليبرالي.

المواطن الإسبارطية، المواطن بوصفه محاربا
في القرن الثامن قبل الميلاد نشأت دولة المدينة الإسبارطية، على قيم الصرامة والقوة والبحث عن الكمال، من خلال التربية العسكرية والنشاط البدني.بل أن مفردة Spartan تعني البسيط والمقتصد والبعيد عن الترف والصارم المنضبط النفس. ومن واقع طبيعة النشأة التي قامت عليها دولة إسبارطة، حيث حالة الصراع والمعارك الطاحنة التي قامت بينها ومناطق الجوار، كان الاتجاه نحو إخضاع الشعوب إلى حد استعبادهم، ليتجلى دور النخبة المحاربة، في دعم الدولة، و ليتحصلوا على النفوذ والقيمة الاجتماعية والسياسية. و جاءت تشريعات ( ليكورغوس) لتعمق دالة التمايز في مفهوم المواطنة، والتي تم اقتصارها على المواطنين القادرين على المساهمة في دعم قوة الدولة، من خل التأكيد على المعطيات التالية:
1. توزيع الأراضي على المحاربين بالتساوي.
2. جعل العمل من حصة العبيد فقط.
3. الانخراط في النظام التدريبي والبدني والعسكري.
4. الجلوس لكل مجموعة يتراوح عددها الثلاثمائة على طاولة ( Mess ) مشتركة، كدلالة على المساواة والوحدة.
5. الخضوع لقانون دولة إسبارطة والالتزام المطلق به.
6. المشاركة في الفعاليات السياسية.
لا بد من التوقف العميق عند دلالة المساواة التي كان يتم تداولها في المجتمع الإسبارطي، فهي تخص المواطنين الملتزمين بالقانون، بحسب تعبير كزينوفون المؤرخ والفيلسوف والقائد الأثيني 426-354 ق.م. والذي انحاز إلى جانب إسبارطة. ومن واقع الاعتماد على البنية الاجتماعية المقاتلة والمحاربة، فإن المواطنة الإسبارطية، راحت تشير إلى تقاطع شديد الوضوح مع العمل اليدوي، الذي تم ربطه بطبقة العبيد.فيما اعتبر الأفراد ممن دون العشرين عاما أشباه مواطنين، باعتبار المسعى إلى تجاوز مرحلة التدريب البدني والقتالي الصارم، حيث يتم ترك الأطفال ذوي البنية الضعيفة من دون عناية حتى الموت، وتوجيه الأطفال ممن بلغوا السابعة إلى مجاميع التدريب حتى سن العشرين. ولا يتم الاكتفاء بالتدريب والإعداد الطويل، بل أن ترشيح المتدرب إلى المواطنة، لابد أن يتم من خلال المجموعة، وبتقليد إسبارطي خاص، يقوم على إقدام الناخبين بتقديم الخبز الطري على الطاولة الجماعية. ولا تتاح فرصة أخر للمرشح في حال فشله، بل أن النجاح في الترشيح والحصول على عضوية الجماعة، تكتنفها المزيد من المخاطر، حيث التهديد بالطرد في حال تقاعس العضو عن تقديم الفروض والواجبات المناطة به. والتي تتمثل في تقديم السعير والجينة والتين والخمر وبعض المال بصورة شهرية. ومن هذا فإن قواعد المواطنة الإسبارطية كانت تقوم على عنصري:
1. الالتزام الصارم بالقوانين و طاعتها.
2. الانتماء إلى الجماعة والالتزام بالقواعد التي تميزها.
التحولات في مفهوم المواطنة
كان للتطورات التاريخية التي شهدتها إسبارطة، على صعيد العلاقات الاقتصادية، أثرها البالغ في ظهور المزيد من التحولات في المكانة التي يحتلها المرء. فقد ازدادت الفجوة الطبقية اتساعا، حتى بات الفقراء غير قادرين على الإيفاء بالشروط والمتطلبات التي تفرضها الجماعة عليهم، ومن هذا راحت الإشارات إلى حالة التناقص في أعداد المقاتلين؛
1. هيرودوت عام 480 ق.م، عددهم 8000 محارب.
2. ثيوسيديس عام 418 ق.م، عددهم 3500 محارب.
3. كزينوفون عام 371 ق.م، عددهم 1500 محارب.
من هذا الواقع فإن التوجه بات يتطلع إلى إحداث نوع من التوازن في معنى المواطنة القديم. فشروط قبول المحاربين باتت أقل صرامة، فيما تم التعامل مع الجبناء بتساهل أكبر، إذ تم التغاضي عن وسم الجبناء على وجوههم.
المواطنة الأثينية، القدرة على المشاركة
أثينا تلك البيئة الثقافية والفلسفية والتي قيض لها أن تقدم أبرز الأسماء الفكرية في تاريخ البشرية، حيث التنظير والتحليل في أقصاه، فكانت القراءات المتعددة والمتنوعة حول المزيد من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان لمبحث المواطنة مساحة مهمة لدى كبار العقول الأثينية، فأفلاطون 347 ق.م، كان يربط بين مفهوم المواطنة وتقسيم العمل، ومن واقع الرؤية المثالية التي طبعت منهج التفكير لديه، فإنه كان يشير إلى أهمية أن يتم تمييز طبقة المحاربين، وفسح المجال أمامهم للتدريب والتمرين. ويبقى التقسيم الأكثر وضوحا في فكر أفلاطون يقوم على التوزيعة الرباعية للمواطنة:
1. الولاة يحكمون.
2. المحاربون يدافعون.
3. الفلاحون من العبيد.
الحرفيون والتجار من المقيمين الأجانب.
ومن هذا فإن العامل الاقتصادي يكون حاضرا وبوضوح في طريقة التوزيع، لتتبدى حالة عدم المساواة على صعيد التطبيق العملي لهذا المفهوم. إنه الفصل الواضح بين الغني الذي تنفتح أمامه مجالات المشاركة والاندماج في النظام السياسي، والفقير الذي يتم فسح المجال المحدود أمامه.وعلى الرغم من هذا التوزيع إلا أن مسار المواطنة بحسب أفلاطون لا يمكن أن يتم تحديد مساره الحقيقي من دون الاستناد إلى الثقة واحترام النظام الاجتماعي و السياسي. وهذا يحتاج إلى نظام تربوي دقيق لا بد للدولة من رعايته و الإشراف المباشر عليه.
الطريق إلى المواطنة بحسب أرسطو 322 ق.م، لا بد له أن يمر عبر البوابات الثلاث:
1. المجتمع المتماسك.
2. احترام القانون.
3. التربية المواطنية من خلال منهاج دراسي واضح.
توقف أرسطو عند مسار التداخل في مفهوم المواطنة، فكيف يمكن الوقوف على تحديد للمفهوم، وسط زحمة الفئات الاجتماعية، ما بين الشباب ممن دون سن الثامنة عشر، و كبار السن، والمقيمين الأجانب، والمواطنين المحكوم عليهم. لكن الحل الأسهل كان يتم عبر بوابتي ( المشاركة السياسية، احترام القانون)، لكن هذا يختلف ما بين دستور وآخر، بحسب التطبيقات التي تنهجها الدولة. ولا يمكن للمواطنة أن تتحقق من دون أن يبرز مجال المشاركة في، المناقشات العامة، إصدار القوانين، المساهمة في حضور الجمعية التشريعية، العمل في الدوائر الحكومية، المساهمة في هيئة المحلفين.، هذه السبل تبقى مرتبطة بالمصالح، التي تبدأ من الفردية لتتساوق مع المصلحة العامة. والمواطن الصالح لدى أرسطو هو من ينسجم مع طبيعة ومسار الدولة. فالمواطنة لا يمكن لها أن تتبدى من خلال الذاتية بقدر ما تتوضح سماتها وتفاصيلها من خلال علاقة الفرد بالدولة، ومن هذا تبرز أهمية تعليم المواطنين مجالات التنوع في الأنظمة السياسية، من أجل خلق أجيال واعية بالتنوع والاختلاف.
يتوقف صولون 560 ق.م، عند مسألة الأهلية في مفهوم المواطنة، فإذا كان الدستور الأثيني قد أسس لفكرة المساواة، فإن الفواصل الطبقية تبقى حاسمة في تمييز مفاصل المشاركة، ومن هذا فأن تشريع صولون كان قد توقف عند فكرة التوزيع الطبقي الرباعي والمستند إلى ؛ ( مجلس الخمسمائة، الفرسان، أصحاب المناصب، العمال)، وإذا كان صولون قد أشار إلى أهمية الدور الذي تضطلع الطبقات الثلاث الأولى، فإن المنضوين ضمن طبقة العمال كانوا في الأصل يتنصلون من انحدارهم الطبقي، على الرغم من فسح المجال أمامهم للمساهمة في الجمعية التشريعية، و كمحلفين في المجال القضائي.
المواطنة الرومانية
يقوم مفهوم المواطنة في روما على أساس العلاقة القانونية. لاسيما في أعقاب تنامي الدور الإمبراطوري والتوسع الذي شهدته، حيث باتت تفرض بنفوذها على المزيد من الشعوب والمجتمعات، ولتؤسس من خلال المواطنة علاقة الربط القانوني بمختلف الأقاليم التي توسعت فيها، وكان لقيام الحكم الجمهوري عام 507 ق.م، أثره الأهم في بناء وتعزيز دور الطبقات الدنيا للمطالبة بالحقوق المدنية بإزاء النفوذ الاسع الذي كان يتمتع به الأشراف والنبلاء. وصولا إلى العم 494 ق.م، والذي شهد ظهور حركة المنابر العامة، من قبل الناس العاديين، والذين طالبوا بأهمية الحصول على الحقوق المدنية، و ضرورة أن تقوم الدولة بحماية مكتسباتهم والسعي إلى إقامة المؤسسات القادرة على تنظيم عملهم. والواقع أن الدولة الرومانية كانت قد توجهت نحو تنظيم علاقة المواطنة من خلال جملة من الإجراءات الإدارية المباشرة، والتي تمثلت في البدء بإجراء أول إحصاء سكاني في العم 44 ق.م، كان القصد منه تنظيم وإعداد القوائم التفصيلية من أجل ضبط قوائم المواطنين بما يتعلق بمسائل ؛ ( الخدمة في الجيش، الضرائب).ومن واقع تنظيم الإحصاءات التي شملت الإجراءات الإدارية في الدولة الرومانية، توجه أغسطس عام 4 ق.م، إلى إصدار أمره بأهمية تسجيل المواليد الجدد في الدوائر الرومانية الرسمية والتثبت من إثبات حالة المواطنة منذ ميلاد الفرد. ومن هذا تتبدى الصورة القانونية للمواطنة التي حرصت عليها الدولة الرومانية. وكانت الإجراءات قد تركزت حول مسار العلاقة القائمة حول قضايا المعاملات العامة من زواج ونشاط تجاري والذي اختصت بين المواطنين الرومانيين تحديدا.وكان التمييز قد شمل النظام الضريبي، حيث يتم استحصال ضريبة من المواطن أقل نسبة من غير المواطن.بل أن امتياز المواطنة راح يتمثل في منحه حق المقاضاة في مدينة روما، حتى وإن كان قد تم توجيه الاتهام إليه في أي إقليم من أقاليم الدولة.ومن هذا تتضح أهمية الربط بين مفهوم المواطنة والحماية التي تسبغها الدولة على هذا المفهوم.
إذا كانت المواطنة قد أتاحت المزيد من الحقوق السياسية المتعلقة بـ ؛ التصويت لمرشحي المناصب السياسية، أو الانضواء في الجمعيات، أو تولي المراكز السياسية، فإن النفوذ الاجتماعي والعائلي بقي يمارس فاعليته في مدى طبيعة العلاقات السياسية.بل أن الدوائر الانتخابية التي بلغ عددها خمسة وثلاثين دائرة عام 241 ق.م، إنما كانت في الواقع تخضع وبشكل شديد الوضوح لهيمنة التمايز الاجتماعي والطبقي. الملفت للنظر أن حق المواطنة كان بمثابة الوسيلة التي قيض لروما من تحقيق المزيد من فتوحاتها في أقاليم الجوار، فعلى سبيل المثال قيض لها عام 381 ق.م، أن تفتح مدينة تاسكولوم اللاتينية سلميا، بعد أن وعدت أفراها بمنحهم حق المواطنة! فيما راحت تعمد إلى حل مشاكلها الحربية مع مناطق الجوار اللاتيني من خلال منحهم لقب المواطنة المنقوصة( الحرمان من التصويت أو تولي المناصب)، لاسيما خلال العام 338 ق.م. وإذا كانت روما قد نجحت في مسعاها إلى تنظيم علاقاتها من خلال السيطرة على هبة المواطنة، فإنها فتحت ثغرة على نفسها عبر بروز حالة الاستياء التي شملت مناطق حلفاء روما الذين طالبوا بحق المواطنة، والتي تمخض عنها حربا استمرت 91 ndash; 87 ق.م.
بوصول يوليوس قيصر إلى السلطة عام 44 ق.م، تبدأ مرحلة التطلع نحو تأسيس الإمبراطورية الرومانية، فيما كان الصراع الشديد بين قيصر و بومباي والذي برز فيه دور الفيلسوف والسياسي الروماني شيشرون 106-43 ق.م ليقف بالضد من قيصر، مناصرا الجمهوري ورافضا التطلعات التوسعية التي عنت على يوليوس قيصر، هذا الأخير الذي سعى نحو توسيع نطاق المواطنة لتشمل بلاد الغال، باعتبار السعي نحو تأسيس الإمبراطورية الرومانية فيما تساءل شيشرون حول موضوع ازدواج الجنسية، وما تفرزه هذه القضية من المسائل العالقة حول الولاء للوطن، وبقدوم أغسطس إلى سدة الحكم عام 27 ق.م، يكون التوجه نحو جعل المواطنة بمثابة المكافئة التي تم تقديمها للجنود الذين شاركوا في تحقيق الفتوحات الحربية. والواقع أن مسألة ازدواج الجنسية راح يتم طرحها خلال العام 9 الميلادية، بعد أن تمكن القائد الجرماني أرمينوس من تحقيق الانتصار على الجيش الروماني في معركة توتوبيرغ، وهو بالأصل من حاملي لقب المواطنة الرومانية.
لقد سعى البعض من أباطرة روما للإفادة من مفهوم المواطنة، ومحاولة جعله وسيلة لإدامة موارد الدولة المالية، حيث عمد كاراكلا 211-217، إلى إصدار دستور عام 212 والذي تم فيه منح جميع سكان الإمبراطورية صفة المواطنة، الأمر الذي يجعل منهم خاضعين لضريبة الإرث. وإذا كان مفهوم المواطنة قد ارتبط بالجانب الإجرائي في التاريخ الروماني، فإن المعالجة الفكرية كانت قد ندت من قبل المدرسة الرواقية، ومؤسسها زينون( أواخر القرن الخامس قبل الميلاد) تلميذ برمنيدس، والتي برزت آثارها خلال الحقب المختلفة، إلا أن تأثيرها كان قد برز على صعيد التداول الفكري خلال العام 100 ميلادية، بعد توسع الإمبراطوري، وبروز السؤال حول( طريقة التوفيق بين الواجب المدني المرتبط بالولاء للدولة، و الانتماء لقواعد الأخلاق الكونية التي تضلل مجموع البشر).
مواطنة العصور الوسطى، بين المسيحية والمواطنة البلدية
بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن السادس الميلادي، تعرض الإرث القانوني الروماني إلى التفكك. حتى تفاعلت في أوربا جملة من المعطيات الثقافية والتي ارتبطت، بالمسيحية والفكر الأرسطي ومدى الارتباط بالجغرافيا الصغيرة التيس تتمثل في المدن والبلدات وليس بالدولة.حيث الأمير الحاكم، والإقطاعي ذو النفوذ والسيطرة، والرعية المطيعة، وبالقدر الذي عانت الديانة المسيحية من الاضطهاد على يد الرومان، إلا أنها تحصلت على المنزلة الرفيعة بعد أن جعل منها الإمبراطور ثيودوسيوس عام 391 ميلادية، دينا رسميا، وبانهيار الإمبراطورية قيض لرجال الدين أن يستثمروا حالة الفراغ السياسي، ليتم نشر سلطتهم الروحية والدينية على الريف والمدينة. وبحالة التوسع التي شهدتها المدن على الصعيد التجاري، فإن حالة التململ كانت بدرت ملامحها من سلطة رجال الدين المسيحي، لا سيما وأن حالة التقاطع التي تنامت، كانت تقوم أصلا على أن المسيحية كانت دينا يهتم بقضايا الروح على حساب الدنيا.حيث التأكيد الذي راح يتم تأصيله باعتبار أن الأرض عالم فاسد ويحتاج إلى سبيل الخلاص. وكان القديس أوغسطينوس 353-430 م، قد أشار في كتابه مدينة الله، إلى أن التاريخ البشري يقوم على الصراع بين مدينة الله ومدينة الإنسان، وإذا كانت النفس يتمثل فيها الثالوث المقدس، باعتبار القوى الثلاث؛ الحياة، الإدراك، الإرادة. فإن السعادة القصوى لن تتم إلا في الحياة الآخرة. وبقيت معالم دراسة مفهوم المواطنة في المسيحية غائبة عن البحث، حتى تصدى لها القديس توما الأكويني 1224-1274 م، الذي سعى نحو التمييز بين المسائل الفلسفية والدينية، وأن الإنسان ذو إرادة حرة ولن يبلغ سعادته القصوى إلا في العالم الآخر، لكنه أشار من جانب آخر إلى أهمية أن يتم الانسجام بين السلطتين الدنيوية والروحية من أجل إقامة المجتمع الفاضل.
في ظل تفكك الدولة لم يجد المتطلعون نحو تركيز معطى المواطنة، سبيلا سوى، مواجهة حالة التحريم التي ركزت عليها الديانة المسيحية، وحالة الهيمنة المفروضة من قبل رجال الدين المسيحي والنبلاء الإقطاعيين، فكانت المناداة بأهمية النهل من القانون الروماني بوصفه تراثا يمكن الإفادة منه. وبالقدر الذي جاءت فيه أفكار الأكويني ساعية للبحث عن الانسجام والتوافق، فإن الطروحات التي قدمها مارسيلو البادوي 1275-1343 م، الذي لم يتردد من المجاهرة بعداء الكنيسة ومهاجمة البابا نفسه، وكان تأكيده إلى أن الحل للمشكلات الدنيوية يكمن في العقل. رافضان أن يكون للكنيسة أية سلطة سياسية.
من واقع تطور الفعاليات التجارية، فإن الاتجاه برز نحو المطالبة بحرية أوسع ترتبط بتلك الفعالية، لا سيما في مناطق الشمال الإيطالي وغرب ألمانيا والشمال الفرنسي، فيما راحت المدن تشهد لحظة تنامي دور الكوميونات في معظم بلديات مدن تلك المناطق. وكان لبداية تحلل النظام الإقطاعي دوره في بروز تلك الحالة.حتى صار النشاط يتركز في مسائل الضريبة والإدارة والمحاكم. وإذا كانت فرنسا قد بقيت تدار من الكومونات حتى عهد لويس الرابع عشر، فإن الحقوق البلدية في إنكلترا كانت ترتبط بصلاحيات الملك. والذي يحصل من خلال المنح على الأموال الوفيرة من تلك البلديات. وبالقدر الذي تفاعلت فيه مجال النشاط البلدي، الذي يقترب بالتوصيف من دولة المدينة الإغريقية، فإن العضوية كانت مرتبط وإلى حد بعيد برجال النقابات والاتحادات التجارية.
كان القرن السادس عشر قد شهد تنامي دور الدولة القومية حيث تمييز ملامح الدولة القوية القادرة على المبادرة السياسية، فكانت البرتغال وأسبانيا وإنكلترا وفرنسا والسويد وبولندا، حيث السيادة التي تعود لرأس السلطة الممثل في شخص الملك. لكن المفهوم تعرض للمزيد من التعقيد والتداخل، لا سيما في مجال طبيعة المواطنة وارتباط فعالياتها الأساسية بحجم الدولة بعد أن كانت مرتبطة بالبلديات. بالإضافة إلى مسألة الولاء والتي بقيت عالقة في كيان سياسي حديث التكوين لم تتبين ملامحه بعد.فيما تبقى مسألة التداخل بين المواطنة والتبعية حاضرة وتثير الإشكال في ظل النظام الملكي المطلق.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه