quot;الذين لا يقرأون التاريخ، محكوم عليهم أن يعيدوه quot;سانتيانا

في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر 2001، دعا المفكر الإيطالي quot;امبيرتو ايكوquot; المسلمين إلى الاطلاع على تجربة الأصوليين المسيحيين في أوروبا، لأنهم لو فعلوا ذلك لاكتشفوا أن غيرهم يعتقد، وبنفس القوة، انه يمتلك الحقيقة الإلهية المطلقة، وأن عواقب هذا الاعتقاد كارثية. هكذا غدا المنظور المقارن ضروري جدا للكشف عن نسبية كل التراثات الدينية للبشرية، على الرغم من عظمتها وأهميتها. أما الاعتقاد بإمتلاك الحقيقة المطلقة دون بقية البشر فيؤدي مباشرة إلى الاستبداد والتعصب الأعمى، وتكون النتيجة هي الصدام المروع وسفك الدماء.
في هذا السياق يجب أن تؤخذ مسألة ظهور جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقطاع غزة مأخذ الجد. فقد أخذت علي عاتقها ما سمته العمل من أجل محاربة الـمفسدين في جميع مناطق قطاع غزة، واطلقت على نفسها نفس المسمى الذي يطلق على الشرطة الدينية في المملكة العربية السعودية.

وأعلنت الجماعة مسؤوليتها عن quot;ردعquot; شخصين من سكان مدينة خان يونس، وقالت في بيان وزع مؤخراً في مسجد النور بالبلدة، إنها ترى أنه لزاماً عليها محاربة كل من تسول له نفسه بالإفساد والاعتداء على حرمات الله، وخصوصاً سب الذات الإلهية والضرب بيد من حديد على الشبان الذين استعبدهم الشيطان.

وأكد المواطنون البسطاء أن اسم هذه الجماعة ظهر قبل نحو شهرين، عندما تعرض مطرب محلي للضرب بعد انتهائه من تقديم حفلة غنائية في خان يونس.
ويحتفظ لنا التاريخ بوثيقة ميلاد جماعة quot; الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر quot; في فلورنسا بإيطاليا، علي أيدي الراهب الرهيب quot; سافونا رولا quot; Savonarola (1452 ndash; 1498). و يذكرنا ظهور هذه الجماعة دائمًا بأن خصائص العصور الوسطى (كحالة عقلية وبنية ذهنية) لا تزال نابضة بالحياة، في مختلف العصور والمجتمعات الأخرى، طالما توفرت الشروط لنموها وظهورها.
كان يندد باستمرار في مواعظه بطغيان الحكام وبفساد الطبقة الحاكمة وبالاستبداد السياسي وبالمظالم الواقعة على الفقراء، فتحول من واعظ أخلاقي الى مهيج سياسي ديماجوجي يؤلب الرعاع على النظام القائم في فلورنسا باسم الديموقراطية.
وانقسم أهل فلورنسا في أمره، البسطاء آمنوا بملكاته الخارقة، والعقلاء رأوا فيه دجالاً خطيراً. لم يكن سافونارولا في حقيقته يكتفي بدور المصلح الديني الداعي الى سبيل ربه بالحكمة والموعظـة الحـسنة، وانما كان يبتغي السلطـة الدنيوية ليضع القوانين الإلهية موضع التنفيذ.
دعا في العام 1494 الى المشاركة في إعادة صوغ نظام الحكم في فلورنسا بعد رحيل بييرو دي مديتشي، وهكذا دخل عالم السياسة المليء بالأخطار والمحاذير، وكان هدفه تسخير سلطة الدولة في فرض الفضيلة.
كانت فلورنسا اعتادت لقرون خلت أن تقيم كرنفالاً سنوياً حافظ على كثير من العادات الوثنية الصارخة، وبتوجيه منه تحول الى موكب مسيحي، فتوقف الرقص في الشوارع والألعاب البهلوانية والملابس المزخرفة والأقنعة، واستغل سافونارولا حيوية صبية المدينة وشبابها وحوّلهم الى قوة أخلاقية ضاربة وسلطة مخيفة، لا سيما بعد أن رخصت لهم الحكومة مزاولة هذا الارهاب المقدس.
فسافونارولا كان من أسبق من اكتشفوا ما في الصبية والمراهقين والشباب من حيوية مدمرة وعدوانية يمكن تسخيرها في الدين والسياسة، وكان يقول إنه يبدأ بهم لأنهم quot;الجيل الجديد الذي لم يفسده بعد ضلال الآباء والأمهاتquot;.
وعلم quot;غلمان الفريرquot; كما كانوا يسمونهم في فلورنسا، أن كل مظهر من مظاهر الترف خروج على الدين، فكانوا يغزون بيوت المواطنين دورياً ويجردونها من التحف وأدوات الترف والشعر المستعار وغالي الثياب وأدوات التجميل واللوحات الفنية والمؤلفات الأدبية والفلسفية التي لم تستلهم الدين موضوعاً لها، وكانوا يجمعونها في أكوام في ميادين فلورنسا ويضرمون فيها النار.
كما كانوا يجلدون النساء المتبرجات. وبعد أن كانت نساء فلورنسا حاضرات في الحياة العامة مشاركات في الاجتماعات السياسية وفي المواكب، أمرهن سافونارولا بأن يقعدن في بيوتهن ولا يشاركن في اهتمامات الرجال لا سيما في السياسة.
وتطبيقاً لمبادئ الشريعة المسيحية حرم الربا الذي كان يرادف عنده الإقراض والإيداع بالفائدة، فقضى على النظام المصرفي، وأحل محله quot;بنك التقوىquot; الذي كان يقرض على الرهون بسعر 6 في المئة سنوياً، وكان الأصل في quot;بنك التقوىquot; ان التسليف فيه على أساس الإحسان أو القرض الحسن، بلا فوائد، والنسبة الصغيرة المذكورة للمصروفات.
وأصدر (أو صدر بوحيه)، عدداً من القوانين الأخلاقية مثل تعليق الزاني للمرة الأولى في الميادين وإحراق الزاني إذا تكررت جريمته، والأمر نفسه بالنسبة الى الشذوذ الجنسي. كذلك صدر قانون بإغلاق الحانات وتحريم الرق، وهذه القوانين كانت أقرب الى نصوص التوراة منها الى نصوص الانجيل، وربما كانت من دواعي تلقيبه بـquot;اليهوديquot;.
كانت مشكلات فلورنسا تتفاقم، أما هو فكان يفسر للناس هذه الشدائد كعادته بأنها القصاص الإلهي، لأن أهل فلورنسا لم يغيروا ما بأنفسهم وأنه لا سبيل للنجاة إلا بالتوبة. فكان ينظم التظاهرات الدينية ويفرض الفضيلة بالارهاب. لكن كل هـذا لم يحـل مشكلات فلورنسا، ولا القطاع !

أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه