الإهداء:
إلى الحرية التي تنتظر عودة فرسانها

لبس بالأمر الهين عندنا هذه الأيام أن نلاحظ هذا السواد الداكن الذي يحاصر الحياة من كل جهة وهذا الصقيع الذي يجمد الدم في العروق دون أن نكتب ونحفظ البعض من أسئلتنا من النسيان وليس بالأمر المعقول عند من تسلح بالجرأة وإرادة القوة ومورس ضده التهميش والإقصاء ألا نلطم معه الاستبداد ونصرخ مثله في وجه المفزعات السوداء. لكن ما

quot;إن الصقيع يدور بي ويدي تحترق من لفحات الجليد...لقد سادت الظلمة فلماذا قضي علي أن أكون نورا منفردا؟ بل لماذا قضي علي أن أكون متعطشا إلى الظلام...؟ يا لشقاء العقول! يا لظلمة شمسي...! ويا لشدة المجاعة في شبعي...! quot; نيتشه هكذا تكلم زاردشت

نراه هذا الوقت في كل مكان هو موت الرفض وانغلاق العالم وانتصار السائد وانحسار النقد والمعارضة وما تراه الحشود هو الجلوس على الربوة والإفطار على مائدة السلطان فنور الشمس ساطع والجميع ينعم بالدفء مجانا والحديث عن السواد والصقيع هو أضغاث أحلام بعض الهائمين على وجوههم،وهنا ينقدح فينا السؤال:أي أنفسنا اللاهثة وراء الدفء والسكينة ما هذا الظلام الذي يغطي الأفق ويحبس الأنظار؟وأي أجسادنا التائقة نحو التحرر من أسر الضرورة ما هذا الصقيع الذي يجمدك صبحا ومساء؟
السواد معروف وبديهي عند بادئ الرأي وليس بالشيء الغامض والطارئ فهو ذلك الستار الليلي الذي يحجب الرؤية وينغص على الأنفس وهو تلك الظلمة الموحشة التي تجلك تشعر بالحزن والأسى وذلك اللون القاتم الذي يرافق الفواجع والمآتم ويرمز إلى الزوابع والتوابع، أما الصقيع فهو بدوره جلي ومعتاد عند الحس الشعبي ومرتبط بالشعور بالبرد وقدوم الزمهرير ويقترن بتراكم الثلوج ذات اللون الأبيض على سفوح الجبال، غير أن ما نقصده ليس هذا ولا ذاك، فالسواد يوجد داخل كل قلب ووجدان وأصل الغفلة والجحود ومتأتي من التعتيم والتكتم والاحتكار وهو يحجب عنا نور الشمس ويغمض عين الحقيقة عن عقولنا،
في حين أن الصقيع هو القتامة والفراغ والسير نحو المجهول أين تجمد رقابة المجتمع والتقاليد وأنظمة التحليل والتحريم في الناس إرادة المعرفة والتحرر وتنمط لهم الحقائق وتختزل القيم في قوالب جاهزة وسلوكات موجهة. انه بسبب السواد والجليد يرى الحشد العالم منظما مكتملا والمجتمع متنعما بالرخاء والرفاهة والدولة محققة للعدل والمساواة وضامنة للحقوق والحريات ويعتقد أنه ليس هناك أحسن مماهو كائن وأن ما ينبغي صنعه قد صنع وأنه لا يمكن أن نفعل أي شيء أمام نهشة الواقع، لكن حقيقة ماذا عسانا أن نفعل إذا وصلنا إلي حال نكون فيه غير قادرين على فعل أي شيء؟ لماذا أصبح البشر متعطشين إلى الظلام وأضحت الأجساد لا تنتعش إلا بملامسة الصقيع؟ كيف وجهت إرادة الإنسان نحو إهانة كرامة الإنسان واستخدمت العقلانية من أجل توطيد اللاعقلانية في الحياة السياسية؟
لقد بات الإنسان المعاصر على شفا حفرة وعلى قاب قوسين أو أدنى من المنحدر الخطر واتبع مسارا تراجعيا يثير الدهشة فبعد النظر إليه بوصفه سيد المخلوقات ومركز الكون ومحور التكريم والتبجيل اعتبر الآن مجرد رقم رياضي في حسابات المعقوليات العلمية الجوفاء وانحدر أكثر إلى منزلة البضاعة التي تباع وتشترى بمقابل زهيد في بورصات الاقتصاديات التحررية الأنانية ثم تلاشى واستهلك ما تبقى من نفسه وانعدم وانتهى صفرا ضمن بقية الأصفار،فقد أعلن منذ نصف قرن عن ميلاد حقوقه فصودرت باسم كونية هذا الإعلان جميع خصوصياته وأشهرت الهيئات غير الحكومية عن عزمها الدفاع عن حرياته فكان ذلك استيلاء على نعمة الحرية من أجل توظيفها لأغراض غير حرة،على هذا النحو ألم يتحول زمن المطالبة بالديمقراطية إلى إعلان عن موت كل الديمقراطيات؟ ألم ينقلب جوهر الدولة من الإشراف على الشأن العام دون الاعتداء على الشأن الخاص إلى احتكار الشأن العام والتلاعب بالعقول وترويض الأجساد وبالتالي انتقلنا من دولة تخدم المجتمع إلى مجتمع يضحي بكل شيء من أجل أن تستمر الطبقة المهيمنة على أجهزة الدولة؟ فإلى أين يمضي يا ترى مواطن هذا الزمان؟ هل إلى غروب شمسه والغرق في الظلمة أم إلى أفوله وحتفه والتحصن بالعدم؟
من سبب هذا الانحدار القيمي الرهيب للنوع البشري هو ظلام الشمولية المخيم على الأجواء وصقيع العولمة المتوحشة التي حمل راياته كهنة السوق وسماسرة الايدولوجيا والدين الجدد، وما تخلي المرء اليوم عن قول اللا وعن التمرد والثورة والاستهجان وموت طاقته في الرفض والنقد وحالة عدم الاكتراث واللامبالاة والعزوف عن المعارضة إلا دليلا على تصحر الوجود واستحالة الحياة إلى عدم مسيج بالفقر والبطالة والجهل والمرض،هذه هي الحقيقة المأساوية التي تجزع البعض وتجعلهم يستشعرون الخطر دون أن تكون لهم جسارة الانتقال من وعي سعيد مطمئن إلى بديهياته إلى وعي شقي منزعج من ذاته وباحثا عن سبل نجاته في التاريخ، لكن هل قدر على الفرد أن يحيي الموت ويقتل الرفض؟ ألا يمكن أن يكون الرفض هو ميكانيزم انجاز الذات وديناميكا تطويرية للمجتمعات؟
هناك تصور فقهي سلطوي ينصح بطاعة أولي الأمر ويكرس الخضوع ويعطي الأولوية لمصلحة الحكام ووحدة الجماعة على حساب حقوق الناس ويتخذ شعارا له هو:quot;سلطان غشوم ولا فتنة تدومquot; ويرى أن المعارضة فتنة وخروج عن الملة طالما أن كل فتنة ضلالة وكل مضل في النار كما أن من حاد عن الحق لن يجتز الصراط يوم القيامة، هذا ما

quot;لم تبق في المجتمعات المعاصرة سوى إيديولوجيا واحدة وهي التي تقوم بتعريف ماهو كائنquot; (ادورنو)

يقوله دعاة التقليد من فقهاء السلطان وهذا ما يتحكم في سلوك الأفراد ويفعل فعله في توجيه آراء الجماهير وهو تصور مازال يعاصرنا ويبعث فينا مشاعر الدعة والخنوع والاستسلام للواقع ويجعلنا نجتنب المختلف والفريد والمميز ونميل إلى المألوف والمعتاد ونقدس الوحدة وننبذ الكثرة.والغريب أن هذا الفقه السياسي يعتبر المجتمع الذي تنتفي فيه المعارضة مجتمعا منسجما وموحدا ومنظما محصنا من التطرف والتعصب والقلاقل ويسير نحو الرخاء المادي والازدهار الاقتصادي وينعم بالأمن والسلم لأن الأجهزة الساهرة على ذلك متطورة وقد عبر هوبس عن هذه الايدولوجيا عندما قال:quot; من الواجب تفضيل الحاضر والدفاع عنه واعتباره خير ما يمكن أن يوجدquot;.
لقد وصل المجتمع إلى هذه الوضعية المزرية بعد هيمنة الوجه البشع من العولمة على مجرى الأحداث في العالم وبعد أن أغلقت السلطات الشمولية الحاكمة العالم السياسي وأصبغت البعد الواحد على الفكر والإنسان والمجتمع بقيامها بتعبئة شاملة لجميع الاتجاهات واحتوائها وتوظيفها من أجل الحفاظ على السلم وقد دجنت النقابات وتحولت إلى وكائل مطلبية تعبد الطريق أمام قطار رأس المال من أجل المزيد من الاستثمار والربح وغض الساهرون الطرف عن حيله في المضاربة والاستغلال والاحتكار ثم وقع تكييف الطبقة العاملة مع الحياة البرجوازية وتوحيدها عن طريق استهلاك نفس الصورة وشراء نفس البضاعة واستعمال نفس الآلة وتمكينها من الراحة والإحساس بالسعادة في أوقات الفراغ وبالتالي تلاعب بها الإشهار والدعاية خير تلاعب وفقدت وعيها الثوري بلا رجعة وصارت تتعرف على وضعها الاجتماعي ونفسها في البضائع التي تستهلكها وصار ينظر إلى الحاجيات الجماعية على أنها ميولات فردية والحاجيات الفردية على أنها ميولات جماعية فتحول الإنساني إلى حيواني والحيواني إلى إنساني بلغة ماركس وانتصرت نزعة امتثالية تفضيلية للحاضر عبر عنها أدرنو أحد فلاسفة مدرسة فرنكفورت بقوله:quot; لم تبق في المجتمعات المعاصرة سوى إيديولوجيا واحدة وهي التي تقوم بتعريف ماهو كائنquot;.
لكن الأمور على مستوى التاريخ وتبدل الظروف وفعل الزمن في أبنائه تكذب هذه الدعوى وتفرض على الجميع الإيمان بمنطق التغيير وهنا تظهر المعارضة كحركة تصحيح في مسار المجتمعات وفعل ثوري في جوهر التاريخ تقدم بالحضارة إلى الأمام وتحدث القطائع والانكسارات المنجبة للفيض المعرفي والإزهار الوجودي،فالمعارضة هي رسالة نبيلة وحكمة عتيقة وأسلوب حياة قبل أن تكون مجرد احتجاج ضد التسلط وقبل أن تعبر عن الطمع في الفوز بالحكم إذ ليس كل معارض هو معارض من أجل السيطرة على السلطة بل هو رافض لأن رسالته في الوجود هي النقد والمحاسبة والمراقبة والتجديد والتطوير.
لقد كان الحسين ابن علي ابن أبي طالب وأبو ذر الغفاري وسعيد ابن جبير والحلاج وحمدان قرمط والعز بن عبد السلام والشيخ ياسين وشي غيفارا ومانديلا ولينين جميعهم من كبار الثوار الذين ظلوا على يسار التاريخ زاهدين في الحكم وممارسة السلطة مفضلين الحياة على الهامش على الإقامة في القصور والجلوس على العروش.
إن مجتمع دون معارضة هو لامجتمع أي حالة يكون فيها الناس قبل الحالة الاجتماعية وهي تشبه إلى حد كبير الحالة الطبيعة التي قلما كانت حالة طيبة وسلم وعزلة بل في الغالب حالة نزاع وعنف وحرب الكل من أجل الكل والغاية هي تحقيق رغبة البقاء نتيجة الخوف من الموت العنيف والمباشر. عندئذ لا تقدم للبشرية ولا مستقبل للإنسان ولا نهوض للحضارات دون معارضة ودون رفض وثورة وأي غياب لصوت الحق وللمعارضة العلنية بالكلمة المسموعة يعني الركود والانحطاط والتخلف والرضا بالحاضر وتكرار الماضي أما حضورها فيعني ديناميكية المجتمع والتنظير للمستقبل والقيام بالفعل والحركة والشروع في التغيير والعمل المسئول الدؤوب من أجل فلاح الأجيال المقبلة وبالتالي لا يمكن أن تنجح الثورات دون أن يسبقها نقد للعقل وقطيعة في العلم وإصلاح في الدين وتجديد في الأخلاق ورفض في الواقع ودون أن يتوقف الحشود عن معارضة الحاضر بالماضي ومعارضة المستقبل بالحاضر.
إن من يدعونا إلى الرضوخ إلى الحاضر والتكيف مع السائد هو من له مصلحة في بقاء الواقع على حاله وهو المستفيد من الركود بالتكسب والارتزاق ولذلك فهو يميل إلى الخداع والرياء والتستر على نواياه الحقيقية أما من ينتظر بفارغ الصبر طلوع النهار فهو الذي مل الجدب ويئس من الموجود وعظم صبره وأنفق عمره تطلعا إلى المستقبل وتشبثا بالأمل وارتضى بالنضال في سبيل حقيقة السياسة وسياسة الحقيقة وآمن بالاستيعاب والتجاوز والهدم والبناء وفضل المبدأ على المصلحة والقيم على النجاعة والمعرفة على المنفعة.
مدار الأمر أن التخندق في صف المعارضة بالنسبة للفرد الحر لا يعني بالضرورة الانتماء إلى الأحزاب غير الحاكمة وتبني إيديولوجيات مغايرة لايدولوجيا الطبقة الحاكمة لأن معظم الأحزاب الكرتونية والإيديولوجيات الجاهزة تعبر عن جموح نحو الطغيان وتخفي رغبتها في السيطرة والهيمنة ولأن الطبقة السياسية الراهنة متعفنة وتعاني من العديد من الأمراض مثل الانتهازية والمكيافيلية والنخبوية والطوباوية، وبالتالي لم تعد تيارات اليسار ولا الوسط ولا اليمين بشقيه الديني والعلماني تعبر عن روح المعارضة بل الجميع يميل نحو الحد الأقصى، فالساحة يحتلها اليمين المتطرف والمحافظ وفلول عنيفة من اليسار الراديكالي والوسط المتقوقع على ذاته والمتأرجح بين الطرفين حسب تغير الموازين وانتقال مراكز الجذب والنبذ من جانب إلى آخر، كما أن الواقع المعاش هو عصر سقوط كل المرجعيات وإفلاس جميع البدائل، انه عصر المعارضة الزائفة التي تكذب على الناس أكثر مما تكذب السلطة الحاكمة نفسها وتقدم وعودا غير قابلة للانجاز في التجربة التاريخية،وهذا العصر كثيرا ما يعاني من تخثر الوعي وموت الرفض والنكوص نحو الماضي فظهرت دعوات سلفية وحركات ارتدادية تبشر بضرورة استعادة الإمبراطوريات والمملكات الغابرة والنزعات المذهبية والاثنية والطائفية دون أدنى احترام لمنطق التاريخ ولروح العصر.
من هذا المنطلق نخلص إلى معارضة تغييب ومنع المعارضة من التنظم والتشكل والتطور احتراما لمطلب الإصلاح السياسي في أي دولة وتقديرا لمبدأ التداول السلمي على السلطة، علاوة على ذلك نستنتج ضرورة معارضة هذه المعارضة الكرتونية المتزلفة العرجاء والعمل على بناء معارضة مدنية واصلة بين الأصالة والمعاصرة قادرة على صنع المستقبل وتشريك الطبقة الناشئة تشريكا فعليا ومحترمة للحقوق الفرد في إطار ضمان سيادة الجماعة.إن ميلاد الفرد الحر يقتضي التخلي عن ذلك السلوك الذي يطأطئ رأسه أمام سلطة الواقع الرهيبة وأن يستلهم روح الرفض من كنوز التراث ومفاخر الأبطال وأن يبحث عن جذور المعارض ة ويتمثلها في نفسه وفي مخزونه المعرفي ومقامه الوجودي.
إن المعارضة الحقيقية هي معارضة فردية حرة وتتطلب تأصيلا وتجسيدا لأفكار نخبة من الرجال الأحرار حتى تنبعث من رمادها على نمط تنوير فولتير واستنارة الأفغاني وتربية عبده وممارسة سارتر والتزام شريعتي وتحريض حنفي وإنسية أركون ونقد الجابري، ولن تقوم لها قائمة إلا بالانفتاح على التخوم وتفكيك التمركز على الذات وتجاوز وهم التأسيس الدغمائي وتخطي حالة تشتت الخطاب وفوضى المفاهيم والإنصات إلى استغاثات الناس والتعرف من قرب على مشاكلهم واحتياجاتهم والانتقال من عرض بدائل وتبليغ إيديولوجيات إلى اقتراح برامج وإبرام توافقات بين جميع الفرقاء المتزاحمين على خدمة الشأن العام وتتوقف على المطالبة بالحريات الأساسية وإذابة طبقات الجليد وإنارة مناطق الظلام وفي تلك الشروط فليتنافس المتنافسون!
كاتب فلسفي

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه