في كل منعطف تاريخي تمر به البلاد، تصر النخبة السياسية والثقافية في مصر على ارتكاب الخطيئة تلو الأخرى، لدرجة تبدو معها وكأنها ترفض التعلم من خبراتها السابقة، فقبل الانتخابات البرلمانية الأخيرة حين صرخ بعض الليبراليين مطالبين ـ على استحياء ـ برقابة دولية على أي انتخابات عامة تجرى في مصر، بادر سلفيو اليمين واليسار لاتهامهم بالاستقواء بالأجنبي، ودعوة القوى الخارجية للتدخل في الشأن الوطني، وغيرها من التهم البلهاء، بينما لم يكلف وكلاء الوطنية الحصريون أنفسهم عناء تفهم حق المظلوم الإنساني، في الجهر بشكواه أمام العالم حين يفتقد العدل في وطنه.
وإذا كانت دوافع السلطة مفهومة في قمع أي صوت معارض، فلا يمكن تفهم الموقف النخبوي المعادي لمؤتمرات أقباط المهجر، إذ انبرى كثيرون في سباق محموم لنعتها بأقبح الصفات، من العمالة إلى الخيانة مروراً بالطائفية، وصولاً للارتزاق والتحريض ضد مصر، وعادة لا يتوقف موزعو التهم الخرقاء لحظة للتفكير أو المناقشة، بل استسهلوا مداهنة الغوغاء، ولعب دور quot;الدروع البشريةquot; لأنظمة الاستبداد والفساد، واللجوء إلى الإدانة الاستباقية، حتى قبل جمع المعلومات حول المؤتمر ومنظميه وأهدافه، مع اعتبار أن مجرد انعقاده بأميركا يكفي لإدانته، بينما يحج حكام هذا البلد ونخبها لواشنطن سنوياً، ويتقاتلون للحصول على دعمها ومعوناتها.
ودعونا بداية نعترف أن هناك أزمة قبطية حقيقية غير مصطنعة، وأنها تفاقمت خلال العقدين الأخيرين على نحو أصبحت معه الاحتقانات الطائفية متكررة وتهدد السلم الاجتماعي، ويترتب على الاعتراف بالمشكلة أن نسعى لتفكيكها، بدءاً برصد كيفية تعاطي الدولة المصرية معها لنكتشف أننا أمام مهزلة.
وحتى لا يأخذنا الاستطراد بعيداً في أمثلة خطايا المعالجة الرسمية للمسألة القبطية نكتفي هنا بأمثلة شائعة كاستبعاد الأقباط من مناصب عليا كثيرة، كرئاسة الجامعات، والمؤسسة الصحفية، وترشيحات الحزب الوطني للانتخابات، وغض الطرف عن الإساءات المتكررة لمعتقداتهم، وغيرها من الوقائع التي تكتشف حقيقة مريرة، مفادها أنه حتى التوازنات البسيطة التي ظلت أنظمة الحكم المتعاقبة تحرص عليها، ولو من باب الترضية لشركائنا في الوطن من المسيحيين، لم يعد النظام الحاكم حالياً حريصاً عليها.
وبالطبع سيسوق محامو الشيطان مبررات سمجة تتحدث عن معاملة المصريين على أساس المواطنة لا الدين، وأن وجود حصة لطائفة بعينها يعني أن الأمور تعالج وفق حسابات طائفية، وهذا كلام حق يراد به باطل، فالمعروف أن الأقلية بأي مجتمع تكون أكثر حساسية تجاه السجالات السياسية والاجتماعية، وتؤثر الظل والانسحاب على الدخول في معارك خاسرة ومحسومة سلفاً، لهذا يأتي التمثيل النسبي كأحد أفضل أدوات التوازن للمجتمع والنظام كما يحدث في تمثيل المرأة، فمجتمع شرقي تحكمه رؤية سلفية رجعية، ويمعن في تعصبه يوماً بعد يوم، لن ينتخب إمرأة ولا مسيحياً، باعتبار أن الذهنية الشائعة الآن ـ وعلينا الاعتراف بذلك دون مناورات ـ تضع الانتماء الديني قبل الوطني، ومن يرى خلاف ذلك عليه أن يتوجه بسؤال لأي عابر سبيل في أي مكان بمصر: أيهما أقرب إليك المسيحي المصري أم المسلم الأفغاني؟
ولما خلصنا إلى أن هناك بالفعل مسألة قبطية تستحق المناقشة، وأن النظام ليس جاداً في معالجتها، بل يؤثر التعامل معها من منظورين: الأول سياحي عينه على quot;الخواجةquot;، والثاني ينحصر في استخدام المسكنات، ويضع ملفاً سياسياً من هذا الوزن في قبضة أجهزة الأمن التي لا تملك سوى أدواتها المهنية، دون خبرات المواءمة وتقدير المواقف، ورصد طبيعة تفاعلات القوى في المجتمع.
أما صقور المعارضة فقد آثروا استخدام سلاح الإدانة الاستباقية، وتكرار العبارات الفارغة عن رفض الإصلاح من الخارج، بينما لا نرى إصلاحاً من الداخل ولا الخارج، بل يتأكد للجميع يوماً بعد يوم، أن كل ما يقدمه النظام بيده اليمنى ينتزعه باليسرى، لنظل نراوح في ذات الدائرة المفرغة من الوعود الكاذبة، بينما ينكر مثقفونا على الجريح أن يصرخ، فيما تقود قوى الشر الشارع لمزيد من التعصب، وتتراجع قيم التسامح والتعايش ويسود مناخ الهوس، وتصبح جماعة دينية تاريخها ملطخ بالدم كالإخوان أقوى حزب معارض، وبعد كل هذا يستنكرون على الأقلية مجرد quot;الصراخ العلنيquot;، وينبغي على الأقباط الاطمئنان إلى أن quot;كله تمامquot;.
تبقى أخيراً تساؤلات مشروعة: لنفترض مثلاً أن الأقباط طلبوا عقد مؤتمرهم في مصر، فهل يتعهد أحد بأن تصرح الحكومة بذلك، وأن توفر quot;شبكة أمانquot; تكفل حمايتهم من الغوغاء وquot;المجهولينquot;، الذين خربوا عدة مؤتمرات حاول معارضون وحقوقيون عقدها؟
وهل سيبادر التلفزيون الحكومي والصحف القومية لتغطية هذا المؤتمر بشكل مهني احترافي، لا يقوم على الإدانة أو التجاهل أو الانتقائية؟
وهل تتجاوب الحكومة مع هذا المؤتمر حال انعقاده في مصر، فتوفد ممثلاً للحضور ولو بصفة مراقب، ليستمع لهؤلاء وهم بلاشك فئة محترمة من أفضل أبناء الوطن، وليسو أعداء؟
وهل لايزال يساور عاقل أدنى شكٍ، بأن نظاماً يصر على افتراض الغباء والبلاهة في مواطنيه، يمكن أن يقدم على إصلاح جاد، يدرك أن أولى ثماره هي الإطاحة به؟
وهل تتخلى النخبة السياسية والثقافية عن تراثها الشمولي فتكف عن نفاق الغوغاء، لأن مهمة النخبة في أي مجتمع هي توعيته وقيادته، لا الانسياق وراء الدهماء لانتزاع الإعجاب والتصفيق، بينما تظل كلمة الحق ثقيلة لا يجرؤ على التصدي لها إلا نفر قليل يدفعون الثمن فادحاً، لكن عزاءهم أن أجيالاً قادمة ستجني ثمار مواقفهم، كما جنينا حصاد جيل آباء النهضة مثل طه حسين وأحمد لطفي السيد ومحمد عبده وغيرهم.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية