قد يفقد شعب الثقة في نظامه السياسي، وقد يفقد معه الثقة في قدرة نظامه الاقتصادي على الوفاء بتطلعاته في حياة رغدة أو حتى ميسرة، كما قد تفتقد قواته المدافعة عنه إلى المنعة اللازمة لمواجهة ما قد يتعرض له من تهديدات خارجية، لكن مثل ذلك الشعب يظل متماسكاً مجتمعياً، على الأقل في الحدود الدنيا للتماسك المانع للانهيار، طالما بقيت منظومة القضاء والعدالة التي تحكمه وتنظم حياته متماسكة وفعالة، أو فلنقل أن العدالة القانونية هي الملاذ وحائط الصد الأخير لأي مجتمع مهدد في كيانه.
المجتمع والشعب المصري الذي يشهد التاريخ على قدرته على عبور القرون والعصور، يعاني الآن ولا ريب من اهتزاز أكثر من واحدة من مقوماته حياته الأساسية المذكورة أعلاه، لكنه لم يصل بعد إلى حافة الهاوية، بل ولا يزال قادراً على تطوير حياته ونظمه، ليحقق المزيد من مواكبة العصر، رغم ما قد يطفو على السطح بين الحين والآخر، من مؤشرات لاختلالات جوهرية، قد يسيء الكثيرون قراءة نتائجها المستقبلية، ولا يعني الثقة في قدرة الشعب المصري في الحفاظ على حياته ومقوماتها، أن نقلل من حجم المخاطر التي يتعرض لها حالياً، نتيجة لما ترتب على نشاط جماعات الإسلام السياسي، وتغلغلهم فكراً وشخوصاً في كل مؤسسات المجتمع، بما ترتب عليه ما يرصده الكثيرون من شروخ وتصدعات في العديد من أركان النظم المؤسسية، ومقومات انتظام الحياة المصرية بأنشطتها المتنوعة، فما حدث بالتحديد نتيجة لنشاط ذلك التيار التخريبي لكل المجتمعات التي تسلل إليها، وليس للمجتمع المصري فقط، هو اختلاط الدين بالسياسة بالقضاء، لتكون النتيجة ما يلخصه أولاد البلد المصريون في تعبير 'سمك. لبن. تمر هندي'، وهو مزيج لا يؤكل ولا يُشرب.
في هذه الظروف المصرية المنذرة بالخطر، تقف المنظومة القضائية المصرية شامخة، ومستعصية على نوائب الدهر، لكن هذا لا يمنع، بل يدفع إلى مناقشة ما قد تتعرض له العدالة في مصر من مخاطر وتهديدات، نرى حالياً غير القليل من ملامحها، ولأن طبيعة تلك التهديدات ليست قضائية محضة، بل هي في الحقيقة وافد غريب، ناتج عن نشاط جماعات توظف الدين للوصول إلى السلطة والثروة الدنيوية، فإن علينا كأعضاء في المجتمع المصري أن نبادر لمناقشة ما نتسبب فيه لمنظومتنا القضائية من مشاكل، وما نضعه في طريق تحقق العدالة من عقبات.
'عدالة القضاء الصارمة' التي يمثلها شخص معصوب العينين، يحمل في يده ميزاناً، هي ما نتصوره ونرجوه، نحن الجمهور الذي يمارس حياته في المجتمعات والدول الحديثة، مطمئناً إلى حاضره ومستقبله، لكن لكي يكون لهذا الاطمئنان مسبباته ومبرراته المستمدة من أرض الواقع، وليس فقط استناداً إلى صورة نمطية طوباوية، قد تتوفر مقوماتها في مكان وزمان ما، لتأتي تصاريف الأيام في حين آخر بما يبدل الأحوال، انتقاصاً من العناصر اللازم توافرها لتحقيق ما نتصوره أو نتطلع إليه.
'العدالة الصارمة' ليست مجرد صفة أخلاقية لابد أن يتحلى بها القائمون على القضاء، رغم أهمية هذا العنصر الأخلاقي في انتظام وكفاءة أي منظومة قضائية، وإلا صارت هيكلاً مُفرغ المضمون، كما لا تتحقق بمجرد إضافة عنصر استقلال القضاء، إلى مركزية طهارة القضاة ونزاهتهم، فصرامة العدالة تتحقق بدقة الالتزام بمجموعة قوانين محددة ومعلنة للكافة، ولا خلاف عليها من حيث النص أو المفهوم، وأي تعديل أو إضافة لها محكوم بقواعد قانونية ودستورية بوابتها المجلس التشريعي، والعنصر الأخير اللازم لتوفر صفة العدالة في القوانين والأحكام المترتبة عليها، أن تكون القوانين مناسبة لواقع الحال، بمعنى الصلاحية والكفاية لتنظيم حياة وأنشطة المجتمع الذي يعتمدها ويعتمد عليها، وبهذا يكون لدينا أربعة أعمدة تقوم عليها 'العدالة الصارمة': حياد ونزاهة القاضي ndash; استقلالية القضاء ndash; تحدد نصوص ومفاهيم القوانين ndash; مناسبة القوانين لواقع الحال.
هكذا وبتوافر الأركان أو الأعمدة الأربعة، ينحصر دور القائم بالقضاء في تبين معالم الحالة العملية محل البحث، لتطبيق بنود القانون المناسبة لها، بهذا تتحقق العدالة بصفتها 'تقرير لما هو مقرر'، بمعنى الحكم بما يعرفه العموم كقواعد للتصرفات القانونية، والعقوبات المقررة لمن يتجاوزها، وأقصى ما تقوم به الهيئات القضائية بكل مكوناتها، من ادعاء ودفاع وقضاء، أن تحلل الحالة محل النظر، لكشف الغموض، واستبعاد ما قد يشوب الأمر من تزييف وتضليل، لتتبلور الصورة الحقيقية، ناطقة بتطابقها أو تجاوزها للشرعية القانونية.
نزعم أن التغيرات التي حدثت في مصر في الثلاثة عقود المنصرمة سياسياً وثقافياً نتيجة تديين المجتمع، ليصبح الدين هو النافذة الوحيدة للنظر إلى سائر أمور وأنشطة الحياة، قد أخلت خللاً جسيماً بظروف أو بشروط تحقق ما نتصوره 'عدالة صارمة'، ما نرى نتائجه ومظاهره الآن في أحكام متعارضة متضاربة، وزيادة يرصدها المراقب العادي في معدل إلغاء أحكام درجات التقاضي الأدنى، بواسطة الدرجات الأعلى للتقاضي، بما يبدو تضارباً بين وجهات نظر الهيئة القضائية في تقييم الأمور، بما يسقط عن العدالة مفهومها، الذي بمقتضاه توقع العقوبة على الفرد العادي لتجاوزه ما يفترض فيه العلم به، وما لا يقبل منه ادعاء جهله، فكيف يمكن معاقبة فرد عادي على تجاوزه لحدود، يختلف فيها فقهاء القانون اختلافاً جذرياً؟!
نرصد كذلك اعتداءات لجماهير على ساحات القضاء وانتهاك لحرمتها، وانتهاك للجماهير ووسائل الإعلام لقانون وقاعدة عدم مناقشة أو حتى التعليق على أحكام القضاء، احتراماً لهيبة العدالة وقدسيتها، ورأينا مناشدات شعبية وإعلامية لرئيس الجمهورية لتجاوز أو إلغاء بعض أحكام القضاء، أو البت في قضايا معروضة على القضاء، كما نرقب في ضيق وحيرة انتقادات لدول ومنظمات عالمية، لبعض أحكام القضاء المصري، وهو ما نرفضه جملة وتفصيلاً، لكن الرفض السلبي وحده لا يكفي، ولن يؤدي بهذه الجهات للصمت في المستقبل، فهذه التدخلات غير المرغوبة والمرفوضة أحد المؤشرات لأن هناك خللاً ما في 'صرامة عدالتنا'، شجع أو دفع تلك الجهات إلى التدخل، بما يهز قدسية العدالة المصرية في عيون وأذهان الجماهير، مهما كانت قوة ردود أفعالنا الرافضة لتلك التدخلات شكلاً وموضوعاً.
لا نهدف من هذه المداخلة التعرض لما يبدو 'إشكالية العدالة في مصر' من جميع جوانبها، فقط نريد بتلك السطور أن ندفع المجتمع وأهل الاختصاص لفتح النقاش، عما ترتب على تصاعد تأثير تيار التأسلم السياسي، ورواج مقولاته عن أن الإسلام دين ودولة، وعن الحكم بالشريعة الإسلامية، وما أدخله السادات في الدستور، ما جعل الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، فهنا اختلطت السياسة بالدين بالقضاء، حدث الخلط والاختلاط ليس فقط على مستوى الفكر والثقافة السائدة، لكن أيضاً على مستوى شخوص القائمين بالقضاء، والذين ننسب إليهم أو نتوقع منهم حياداً أشبه بالحياة داخل أبراج عاجية، ليحكموا بالقانون وحده، دون تدخل أي عناصر أخرى، فحين يدخل الدين في القضاء، فإن طلب الحياد من القاضي لا يصبح فقط مستحيلاً، بل نكون قد حذفنا نهج الحياد من أساسه، فتدخل مفاهيم القاضي الدينية هنا سيكون شرعياً وقانونياً، وليس تجاوزاً لمقتضيات الواجب المهني، ويلاحظ هنا أنه رغم أن البعض يفسر المادة الثانية من الدستور، بنصها على الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع، على أنها تخص المشرعين في مجلس الشعب، ليستنوا منها القوانين، ولا تخص القضاة الذين يحكمون بالقانون، وليس مباشرة من مصدر التشريع، إلا أن تفسيرات واجتهادات وممارسات آخرين تأخذ بجواز استناد القاضي في حكمه للشريعة مباشرة، هذا عن العمود الأول الذي تستند إليه 'العدالة الصارمة'، وهو عمود حياد القاضي.
العمود الثاني وهو استقلال القضاء نتناوله في هذه السطور من وجهة واحدة، هي ما يترتب على الخلط بين الدين والقضاء، فالدين الذي هو إيمان أفراد وأمة له في مصر مؤسساته الرسمية، بمجالس البحوث ودار الإفتاء، علاوة على الاجتهادات المشروعة للأفراد المؤهلين لذلك، والذين تكتسب رؤاهم حجة شرعية، وتؤثر جذرياً في رؤى وقناعات الجماهير، لنصل لنتيجة حتمية، هي التخلي عن مفهوم استقلال القضاء!!
نأتي إلى العمود الثالث 'للعدالة الصارمة'، وهو وجود قوانين محددة ومعروفة، محددة للقاضي ليحكم بها، ومعروفة للجمهور لكي لا يتجاوزها، فيقع تحت طائلة القانون وعقوباته، فالاختلاط بين السياسة والدين والقضاء يخرج بنا عن دائرة النصوص المحددة، إلى فضاء لا نهاية له، من النصوص التاريخية التراثية، والمفاهيم المتنوعة المتعارضة، لمختلف المفسرين والشراح والفقهاء القدامى والمحدثين، وهذا العدد الذي يستعصي على الحصر يكاد لا يتفق على أي أمر، اللهم القليل من الفرائض والعبادات، وهو الوضع المقبول والطبيعي، طالما كنا في دائرة الإيمان، الذي يحاسب الله عليه الفرد يوم الحساب، وفق نيته وحدود علمه، أما إذا كنا أمام قضاة يصدرون أحكاماً دنيوية، ويقررون عقوبات فورية رادعة، فإننا نكون أمام إشكالية أقرب لأن تكون كارثة!!
الجانب الآخر من الأمر يزيد الكارثة هولاً، وهو أن قيام العدالة يتأسس على معرفة الجمهور بالقانون، وبناء على هذه المعرفة يتم معاقبة المتجاوز، فكيف يمكن توقع تحقق هذا، في مثل ما استعرضنا من تشتت وغموض وهلامية؟ ويضاعف من الأمر أنه في ظل النظم القانونية المحكمة، فإن الإلمام النظري الكامل بها لا يكاد يتوفر لأحد، حتى من رجال القانون والمشتغلين به أنفسهم، لكن عملياً يكون من السهل على غير السذج تلمس حدود التصرف القانوني وغير القانوني، وذلك بهدى من سياق الحياة ذاتها، ذلك أن القانون بالأساس من المفترض أنه تم وضعه لتنظيم ظروف حياتنا الراهنة، وبالتالي يسهل على الإنسان العادي تبين الخطأ من الصواب، بسليقته أو بالقليل من إعمال العقل في القياس، أما حين تستند أحكام القضاء إلى مفاهيم ونصوص تراثية سحيقة القدم، أنتجها فقهاء في ظروف مغايرة لظروفنا مغايرة جذرية، فإنه يكون من المستحيل على الناس العاديين، الذين تطبق عليهم العدالة وقصاصها، أن يتبينوا الخطوط الفاصلة بين الخطأ والصواب، أو بين القانوني وغير القانوني.
تقودنا النقطة السابقة إلى العمود الرابع والأخير من أعمدة 'العدالة الصارمة'، وهو مناسبة القوانين لواقع الحال، فإذا ما فارقت العدالة واقع الحال المعاش، نكون أمام إشكالية ذات وجهين، الأول هو تحول العدالة عن لوظيفتها التي ننشدها من أجلها، وهي تنظيم حياتنا بما يتيح قضاء حوائج الناس بيسر وأمان، بل سوف يكون دور ما نسميه عدالة في هذا الحال عكسياً، لأنها ستدير ظهرها للواقع، لتكرس جهودها على التطابق مع النموذج الثابت والمقدس، فالقانون هنا لن يكون وسيلة لتحقيق غاية، وإنما سيكون ذاته هو الغاية، بغض النظر عما يترتب على تطبيقه من نتائج، ليداهمنا الوجه الآخر من الأمر، وهو أن مفهوم العدالة يقوم على أن القوانين تستمد شرعيتها ليس من ذاتها أو من مصادرها القبلية، بل من حسن تحقيقها لمصالح الناس المتفق على شرعيتها في المجتمع، وإذا فقدت القوانين هذه القدرة أو الصفة انعدمت صفة العدالة عنها، مهما كانت ديموقراطية أو قانونية إجراءات سنَّها، فمثل تلك القوانين يمكن أن يطلق عليها أي كم من الصفات الحسنة أو البراقة، لكن لن يكون من بين تلك الصفات صفة 'العدالة'.
ما تقدم من سطور ليس لمتخصص قانوني، بما قد يعني احتمال تواجد ثغرات أو حتى تصدعات قانونية أو معرفية بها، لكن لأنها سطور مواطن ينشد 'العدالة الصارمة' لنفسه ولمجتمعه، فإنها جديرة بأن تولى عناية كافية من المجتمع ومن أهل الاختصاص، فتيار التأسلم السياسي يقودنا مغمضي العيون إلى متاهات ومستنقعات بلا نهاية، هم يعبثون بمصير أمة، إن لم يكونوا بإرهابهم يعبثون بمصير الحضارة الإنسانية كلها.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية