إذا كانت الدولة القومية قد حلت محل الإقطاع منذ نحو خمسة قرون،فقد حلت الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقوميات محل الدولة، والسبب في الحالتين واحد: التفوق التقني وزيادة الإنتاج والحاجة إلى أسواق أوسع. فلم تعد حدود الدول القومية هي حدود السوق الجديد بل أصبح العالم كله مجال التسويق، وأصبحت لغة السوق اليوم تتسرب بسهولة عبر كل المسام وتعصر في قسوة كل العلاقات الانسانية. ولتحقيق ذلك كانت الشركات تنشر أفكارًا تساعد على تحطيم موضوع الولاء القديم وهو الوطن والأمة وإحلال ولاءات جديدة محله وأفكار من نوع laquo;نهاية الإيديولوجياraquo; وquot;نهاية التاريخquot; وlaquo;القرية الكونيةraquo; و laquo;الاعتماد المتبادلraquo; إلي آخر هذه التيمات التي يصطلح استخدامها مع جميع الأمم.
أول من تنبه إلي ذلك كان quot;شارل فورييه quot; الذي قال عنه quot;والتر بنجامينquot;: quot;أن فورييه الذي تم تسخيف خيالاته دائما، أصبحت رؤاة اليوم معقولة بشكل مدهش، فقد كان يحلم بكواكب مستثارة، ونظام جنسي متحرر، وفردوس من الطعام. حتي أفقر الفقراء يمكن أن يتناول الطعام خمس مرات كل يوم، ويكون له حق الاختيار من اثني عشر صنفا من الحساء، واثني عشر نوعا من الخبز والنبيذ، واثني عشر طاقما من اللحوم والخضر.
وأوصي بوجود محلفين في تذوق الطعام، وكان ndash; كما أثبت كاتب سيرته ndash; يحلم بيوم quot;تستبدل فيه حروب الحضارة بما يمكن ان يبلغ مباريات مطولة في الطهيquot; ولا يوجد أحد هاجم quot;دين التجارةquot; كما هاجمه فورييه، يقول: quot;ان الحكمة والفضيلة والأخلاق قد أصبحت كلها موضات بالية، وكل شخص يتعبد الآن لمقام التجارة وقبلتها. ان عظمة الأمة الحقيقية، والشئ الذي يعتبره الاقتصاديون مجدها الحقيقي، هو ان تبيع زوجا من السراويل أكثر مما باعت الدولة المجاورة، بدل ان تشتريه منهاquot;.
غير ان التحول الحاصل في بنية الاقتصاد العالمي أدي إلى تحول جوهري في دور laquo;الدولةraquo; ومن ثم مفهومها التقليدي، إذ أن انفلات رأس المال ماديًا وأيديولوجيًا من قاعدته القومية، أفرز مؤسسات اقتصادية وحقوقية ما فوق قومية تخدم مصالح رأس المال (المالي) الدولي المنفلت من عقاله. وبدلاً من أن يؤدي ذلك إلى انحلال أو اضمحلال laquo;الدولةraquo;، وإن كانت تعيش حالة عامة من التراجع والانحسار، تبرز الدولة وأهميتها من جديد، باعتبارها ضرورة للطبقات المسيطرة (لقمع) أولئك الذين يسوء وضعهم فيتمردون على النظام الدولي الجديد في الداخل أو الخارج.
وقد كان تزايد أهمية الدور القمعي الداخلي والخارجي للدولة الرأسمالية واضحًا في ضرب الاحتجاجات المناهضة للعولمة في واشنطن وسياتل وغيرها. laquo;فإذا لم يعد بالإمكان، سياسيًا، وضع حد للضغط الفوضوي الناجم عن الأسواق المتكاملة، فإنه لابد من مكافحة النتائج بأساليب قمعية، الأمر الذي يعني أن الدولة المتسلطة ستغدو الرد المناسب على عجز laquo;السيادةraquo; عن التحكم في الاقتصادraquo;.
من هنا فإن الدولة ستنفي صفتها laquo;القوميةraquo;، لتؤكد صفتها laquo;السلطويةraquo; كدولة، من خلال ممارسة دورها الجديد. مما يعني أن الدولة القومية في ظل laquo;العولمةraquo; لن تنحل أو تضمحل، ولكنها سوف تكف عن أن تكون دولة قومية أو وطنية.
وخطورة هذا الاستنتاج يتمثل في laquo;الصدعraquo; أو laquo;الشرخraquo; الذي أحدثته العولمة في بنية مفهوم الدولة التقليدي، إذ ينبغي أن نفرق من الآن فصاعدًا بين الدولة ككيان سياسي حقوقي، وبين الأمة ككيان اجتماعي تاريخي. ولعل هذا ما يفسر لنا حالاتlaquo;الاستلابraquo; القومية quot; والأحباط quot; العام لشعوب وأمم بأكملها في صيرورة العولمة، والتي تشاهد بأم عينها laquo;الدولraquo; التي كانت تمثلها تدير ظهرها لها اليوم.
بيد ان حالة العجز عن التحكم في الاقتصاد، أوجدت بالضرورة طائفة جديدة من المنظرين والكتاب والإعلاميين يقومون بوظيفة صمام الأمان للتنفيس عن quot;النقمةquot; والاحتقان الاجتماعي والسياسي العام، بأن quot;تندسquot; داخل المعارضة وتتلبس دورها، وتتقمص ببراعة دور رجل الشارع المطحون ويكون صوتها أعلي منه أحيانا، وهذا مظهر ألفه نظام السوق منذ المرحلة الرومانسية، وهؤلاء لا يقترحون أي بديل عن النظام الذي يأويهم، فبدلا من أن يكونوا صوت الرشد المنفرد، ليسوا سوي جزء من الضوضاء المرافقة للنظام، ولكنها ضوضاء محسوبة.
لكن الذي بات واضحا للمراقب عن كثب لوضع هذه الطائفة وآليات عملها في مصر اليوم، هو فشلها الذريع إعلاميا ومهنيا، إلي درجة انها أصبحت عبءا علي النظام، تحتمي به ليصد عنها الضربات المتتالية والموجعة، الأخطر من ذلك اللجوء الي الوشاية واستعداء السلطة وتلفيق التهم الجاهزة لزملاء المهنة من المعارضين الحقيقيين.
لم ينتبه الكثيرون في قضية الصحفي إبراهيم عيسي، التي أصبحت أخيرا quot; جنحة عادية quot; وتأجلت إلي 14 نوفمبر القادم، من أن التهمة الموجهة إليه هي الإضرار بالاقتصاد القومي وانهيار البورصة وانخفاض تدفق الاستثمارات الأجنبية بنحو 350 مليون دولار، حين نشر في صحيفة الدستور التي يرأس تحريرها عن مرض الرئيس مبارك، وعلي الرغم من انه لم يكن الأول أو الوحيد، الذي تناول هذا الموضوع بل العديد من الصحف القومية والمعارضة والمستقلة ndash; حسب التصنيف المتداول اليوم ndash; فإن عيسي وهو معارض للنظام، قد نجح في سحب البساط، وبحرفية عالية، من تحت أرجل مانعي الصواعق ومنفسي النقمة الرسميين في الإعلام المصري، وأصبح قائد صمام التنفيس في الصحافة المصرية، وربما هذه هي جريمته الحقيقية.

أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية