المعروف عن الحياة السياسية الفرنسية تميزها بالضجيج الدائم، والاعتراضات، والاحتجاجات بالحق وبالباطل. إنها خصوصية فرنسية بامتياز، لها تاريخها الطويل منذ الثورة الفرنسية وسلسلة الثورات التي أعقبتها، والتحولات من يمين ليسار وبالعكس. نضيف أن من أهم خصائص الحياة السياسية الفرنسية وجود يسار جامد، متصلب، إن تولى الحكم تقوم حكومته ببعض الإجراءات التقدمية ولكنها لا تجرؤ على تنفيذ الإصلاحات العميقة المطلوبة حتى عندما تعتقد بضرورتها كموضوع التقاعد، ولكنها تعوض عن هذا العجز بجعجعة يسارية، كما كان يفعل ميتران. أما عندما يكون الاشتراكيون خارج الحكم، فإن خطهم الثابت هو المعارضة الدائمة لإجراءات الحكومة الجديدة، حتى إن كانوا على يقين من صواب بعضها؛ وثمة خاصية فرنسية أخرى هي الاعتراض النقابي الأزلي، وطرح المطالب بمناسبة وغير مناسبة، علما بأن نسبة الانتماء لنقابات العمال الفرنسية هي أدنى بكثير من عضوية النقابات في دول الشمال وبريطانيا مثلا، إن الاشتراكيين الفرنسيين لم يتطوروا كما تطور زملاؤهم في الدول الغربية الأخرى، كدول الشمال، وبريطانيا، وحتى ألمانيا زمن شرودر. إنهم لا يزالون في الدائرة المغلقة لعقيدة وجوب تدخل الدولة في كل الميادين الاقتصادية، [كنموذج التخطيط المركزي]، ويحملون كراهية للعولمة باعتبارها، كما يقولون، تعني هيمنة الولايات المتحدة، ونسف العدالة الاجتماعية لصالح الأغنياء، كما يتميزون بالحذر العدائي من المشاريع الخاصة، واعتبار اللبرالية سبة وخطيئة كبرى، حتى أننا نادرا ما نجد سياسيا فرنسيا، ومن أي لون كان، يجرؤ على وصف نفسه باللبرالي!
أما القوى والأحزاب الإصلاحية الموصوفة باليمين، فإنها هي الأخرى لا تجرؤ في الغالب، على تنفيذ الإصلاحات الكبرى، وتراعي اليسار على مرارة، وكثيرا ما كانت حكوماتها تتراجع عن إجراءات كانت تنوي اتخاذها، كما حدث مثلا لحكومة ألان جوبية الديجولي حين تراجع عن إعادة النظر في نظام التقاعد لتحقيق العدالة، فقد انحنى لعاصفة إضرابات نقابية متعاقبة فلم يقدم على تنفيذ ما أراد.
لقد وعد سركوزي خلال حملته الانتخابية بتحقيق عدد من الإصلاحات المهمة، وسبق لنا التوقف لدى هذه الوعود الكثيرة، ومنها ما يخص ساعات العمل، وخدمات الحد الأدنى عند إضرابات عمال وسائل النقل العامة، وضبط الهجرة وقواعد التحاق أفراد العائلة في الخارج برب العائلة المهاجر، وإعادة النظر في نظام التقاعد، وتحديث المؤسسات، وإصلاح النظام الجامعي، وغير ذلك.
باشر الرئيس الفرنسي منذ الأيام الأولى لرئاسته العمل لتحقيق ما وعد به، ومنه ما تحقق جزئيا، كموضوع خدمات الحد الأدنى المفروض تطبيقها في بداية العام المقبل، والإصلاح الجامعي، الذي لم يتم كما أراده نتيجة الاعتراضات الكثيرة، فجاء الإصلاح بعد التعديلات الكثيرة جزئيا. إن بعض القوانين المفروض اتخاذها، كفحص الحامض النووي عند طلب التجميع العائلي للمهاجرين، تثير الاحتجاجات الكثيرة، وتوصف عند البعض بالعنصرية، رغم أنها مطبقة في دول غربية أخرى، كالسويد وبريطانيا، ومع ذلك، فالمتوقع اتخاذ قرار بشأنها بعد التعديل بوضع ضوابط صارمة للفحص. هناك بعض الإصلاحات الأخرى التي أعطيت دراستها إلى لجان تقدم توصياتها بعد انتهاء مهماتها، كلجنة تحديث المؤسسات التي قدمت منذ أيام توصياتها.
لا يمكن لنا معالجة كل هذه الشؤون الفرنسية الحامية، خصوصا والشد والجذب، والنقاشات، والجدال متواصلة حولها.
في هذه المقالة نتوقف لدى أسخن الملفات حاليا، وهو موضوع نظام التقاعد؛ كما نتوقف لدى قضايا أخرى ذات بعد دولي بعض الشيء.
أما مشكلة التقاعد، فقد عشنا منذ أيام قليلة إضرابا كثيفا لعمال السكك وبقية وسائل النقل العامة شالا أعمال المواطنين شللا شبه تام، ومن الممكن العودة للإضراب في أسابيع تالية ما لم تتراجع الحكومة عن عزمها على تعديل القانون الخاص بالتقاعد، وإنه على مدى صلابة موقف الحكومة تجاه النقابات في هذه القضية يتوقف المدى الذي يمكن لسركوزي بلوغه، علما بأن قيادات النقابات لم تعتد أسلوب الحوار والمرونة كالنقابات الغربية الأخرى. نضيف أن عمال النقل والنقابات المهنية الأخرى اعتادوا توقيت إضراباتهم في أيام العطل الهامة، وحتى في عيد ميلاد المسيح، والعام الجديد، مما يجعل المواطنين أشباه الرهائن، وقد انتهى للتو إضراب عدة أيام للمضيفات والمضيفين في شركة أير فرنس للطيران، بدأ في يوم عطلة والمئات من الناس لديهم بطاقات السفر، وقد ظلوا خلال الإضراب أسرى المطارات، وهو ما أثار غضبهم الشديد، علما بأن الإضراب كلف الشركة خسارة ستين مليون يورو.
إن quot;النظام الخاصquot; للتقاعد يشمل نصف مليون عامل، غالبيتهم من عمال السكك، وذلك وفق قانون صدر قبل قرن تماما، حين كان القطار يسير بالفحم، وكان معدل حياة عامل السكك حوالي 53 سنة فقط. إن ذلك الوضع الخاص بهم دفع الحكومة عهد ذاك لإصدار قانون يقلل حد سن التقاعد، ويحدد الراتب التقاعدي وفق رواتب العام الأخير من الخدمة، أي بصرف النظر عن مبالغ مساهمات العامل خلال الخدمة في صندوق التقاعد. لقد تغير كل شيء بعد قرن، فالقطار يسير بالكهرباء، والخدمات الصحية والاجتماعية موضوعة في خدمة المواطنين كلهم، فلم يبق من العدالة أن يتميزوا عن بقية العمال والعاملين في مختلف القطاعات والمؤسسات الحكومية، الذين قد تكون أعمالهم بعضهم أكثر إرهاقا، والذين يتقاضى واحدهم عند التقاعد راتبا تقاعديا وفق مجموع مساهماته في صندوق التقاعد، وليس حسب راتب العام الأخير من الخدمة.
أما الملفات الأخرى التي تعنى بها هذه المقالة، فهي ملف الممرضات البلغاريات اللواتي كن سجينات في ليبيا، وملف جديد خاص بتسعة فرنسيات وفرنسيين من منظمة إنسانية هم معتقلون اليوم في تشاد؛ وثمة ملف فرنسي آخر يطرح إشكالية قد يثار ما هو قريب منها في دول أخرى، ونعني رسالة طالب فرنسي شيوعي لم يبلغ الثامنة عشرة أعدمه النازيون عام 1941 وهو يهم بالمشاركة في المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الهتلري.

ـ الممرضات البلغاريات:
إن قصتهن قديمة ومعروفة، إذ اعتقلن، وحكم عليهن بالإعدام، ثم بالسجن مع التعذيب، وبقين في السجن، مع طبيب فلسطيني، سبع سنوات، وكل ذلك بتهمة التعمد في نقل عدوى مرض الإيدز لعدد كبير من الأطفال الليبيين. لقد ثبت أن التهمة كانت باطلة، ولكن النظام الليبي استغل وفيات الأطفال للتغطية على تدني الخدمات الصحية، وقذارة بعض المستشفيات، ليوجه المسئولية إلى quot;مؤامرة خارجيةquot; مزعومة، فيظهر للشعب الليبي كأنه حامي الأطفال، والحريص على حياة المواطنين! إن القصة، كما قلنا، طويلة ومعروفة، ونعود للقصة بمناسبة ردود فعل المعارضة الاشتراكية لتدخل سركوزي وزوجته لإنقاذ الممرضات، اللواتي تحررن فعلا بفضل المبادرة الفرنسية. لقد أثار الاشتراكيون تساؤلات تشكيك عن كيفية حل المشكلة، وماذا قدم الرئيس الفرنسي من وعود والتزامات للقذافي، ومنها، كما قالوا، صفقات أسلحة ضخمة. نفى سركوزي ما أورده الاشتراكيون عن صفقات سلاح، مبينا أن الحكومة وعدت بتطوير النظام الصحي الليبي من كل الجوانب. أما الحملة الأكثر قسوة قي القضية فقد شنوها ضد زوجة سركوزي، متسائلين عن دورها وهي ليست مسئولة حكومية، وطلبوا استدعاءها للبرلمان لمسائلتها، ولكنها رفضت بقوة، ونعتقد أن الضجة قد جرحتها في الصميم، وربما كان ذلك واحدا من بين أسباب طلاق الزوجين، حيث صرحت بأنها تريد حريتها، وأن تكون في الصفوف الخلفية. المعروف أن زوجة الرئيس لعبت في ليبيا مجرد دور إنساني نبيل، ولم تتدخل في أي شأن سياسي كتقديم وعود باسم فرنسا، ولا نعتقد أن كونها غير مسئولة يمنعها من التدخل إنسانيا في قضية عادلة كتلك القضية، ونذكّر بهذا الصدد بالنشاط الإنساني المكثف لزوجة ميتران، خصوصا لصالح القضية الكردية، التي هي قضية إنسانية وسياسية معا. حينذاك رأي الاشتراكيون النشاط الإنساني للسيدة الأولى أمرا طبيعيا ومشرفا، وهو كذلك؛ فلماذا تتبدل المعايير والمواقف اليوم؟!

ـ المعتقلون الفرنسيون في تشاد:
تم منذ أيام اعتقال عدد من العاملات والعاملين في منظمة إنسانية كانت معنية بإنقاذ أطفال دارفور من جحيم حملة الإبادة السودانية، واعتقل أيضا ثلاثة صحفيون فرنسيون كانوا يرافقونهم.

إن القضية قد انفجرت عندما جمعت البعثة عددا كبيرا من الأطفال من دارفور، قيل إنهم يتامى، لإرسالهم لفرنسا، وتبنيهم في عائلات فرنسية. لقد وجه الرئيس التشادي لهؤلاء تهما شنيعة وخطيرة، كنية المتاجرة الجنسية بالأطفال، ونية استخدامهم في عمليات جراحية لاستئصال بعض أعضاء الجسد لمرضى هم بحاجة لها، وأكد أن الأطفال هم تشاديون وهم ليسوا جميعا يتامى، وجاءت تصريحاته نارية، وتحريضية لتهييج الجماهير، وكأنه يقلد موغابي رئيس زيمبابوي، الذي كان يقود بنفسه مظاهرات الشارع للهجوم على مزارع البيض المسالمين، ونهب ممتلكاتهم، والاعتداء عليهم، رغم زوال نظام الفصل العنصري، وبقاء أقلية بيضاء مسالمة.
إن نية محاكمة المعتقلين في تشاد، غير المعروفة باستقلال القضاء ولا بالديمقراطية، هي التي تثير اليوم ضجة كبيرة، وتساؤلات، وانتقادات واسعة لسلبية الحكومة تجاه المعتقلين، خصوصا وإن السفير الفرنسي في تشاد أيد محاكمتهم هناك. الاشتراكيون، وحتى بعض نواب حزب الأغلبية البرلمانية، يطالبون الحكومة بالعمل لجلب المعتقلين إلى فرنسا، والتحقيق معهم هنا، وتمحيص الاتهامات، وتقديمهم للقضاء في فرنسا ليصدر حكمه. إن المعترضين يخشون أن تتحول القضية إلى ما يشبه قضية الممرضات البلغاريات، واستخدام الرئيس التشادي لها لأغراض سياسية، ومن منطلق اعتبارات شخصية، كما فعل الرئيس الليبي، حين تحولت الممرضات إلى رهائن للمقايضة. إن المطالبة بجلب المعتقلين لفرنسا تستند إلى أن هناك معاهدة بين البلدين تبيح تبادل المعتقلين. المفارقة quot;الطريفةquot;، وهذا آخر خبر، هي تقدم القذافي بعرض وساطته!

ـ الطالب الشيوعي الشهيد غي موكه:
أشرنا للموضوع في مقال عند نجاح سركوزي في الانتخابات.
كان غي موكه شابا في السابعة عشرة عندما تطوع للالتحاق عام 1941 بحركة المقاومة ضد الغزو الهتلري لفرنسا. كان مع مجموعة من الشبان الشيوعيين هو أصغرهم سنا، وقد وشى بهم جاسوس فرنسي، فاعتقلهم الغستابو، وأعدموهم. لقد كتب موكه في عشية إعدامه رسالة مؤثرة إلى والديه مليئة بالحب للعائلة ورفاقه ولفرنسا، قائلا إنه مرتاح لكونه يخدم فرنسا، وفي احتفال برئاسة سركوزي في غابة بولونيا الباريسية بذكرى شهداء المقاومة قرأ وزير سابق رسالة موكه المؤثرة، فطلب سركوزي حالا أن تقرأ الرسالة في جميع المدارس الفرنسية يوم 21 أكتوبر من كل عام، وهو يم شهداء المقاومة.
هذا القرار، الذي ذكر موكة كمقاوم من المقاومين دون ذكر انتمائه الشيوعي، قد أثار اعتراضات شتى، ومن جهات مختلفة: فالشيوعيون اعتبروا قرار سركوزي محاولة لانتحال تضحيات الآخرين، وبعض المؤرخين اعترضوا، قائلين إن الرسالة جردت من سياقها، كما أن القرار يبرز شهيدا على حساب البقية، والبعض راح يذّكر بموقف الحزب الشيوعي من الحرب في العامين الأولين حيث اعتبرها quot;حربا استعماريةquot; بين دول استعمارية، وهو موقف لم يتغير إلا بعد الغزو النازي للاتحاد السوفيتي؛ أما قلة من المدرسين فقد انتقدوا ما اعتبروه تدخل الرئيس في مواد المناهج الدراسية، قائلين إنهم لن يطبقوا القرار، غير أنه في ذكرى الشهداء يوم 21 أكتوبر المنصرم قرئت الرسالة في أكثر من تسعين بالمائة من المدارس، بينما امتنع عدد من المدرسين كانوا أقلية.
إن هذه القضية في رأينا تطرح إشكالية تمجيد شهداء الحركات الوطنية، وممارسات أحزاب كثيرة لإبراز شهدائها على حساب شهداء آخرين، كما فعلت وتفعل الأحزاب الدينية الحاكمة، حيث راحت منذ أول يوم من سقوط صدام تطلق أسماء بعينها على الشوارع والجسور، وحتى على مدينة كمدينة الثورة، التي أسسها الشهيد عبد الكريم قاسم. إنهم لم يكتفوا بتغيير اسم المدينة، ولكنهم تجاهلوا ذكره تماما بين الشهداء، كما يتجاهلون المئات من الشهداء الآخرين.
إن سركوزي بقراره يعلن أنه لا ينبغي تجاهل تضحيات الآخرين لمجرد أن لهم انتماءا سياسيا آخر.
السؤال أخيرا هو متى ستقام احتفالات تمجيد لجميع شهدائنا، ومن كل الاتجاهات، في شوارع العراق في يوم من كل عام يكون يوم الشهيد العراقي، ومتى تقام لهم نصب تذكارية ؟

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية