أشرنا الى أن أصل نشأة المذاهب الاسلاميّة الاربعة، قد أملته الظروف السياسية في تلك المرحلة، ومتطلّبات السلطة لمواجهة مدّ المدارس الفقهيّة التي أسّسها الإمام جعفر الصادق، ومحاولة نقل الصراع الفكري والسياسي، إلى أروقة المجتمع والعامّة في تلك المواجهة، عوضا ً عن حصرها بين سلطة الخلافة والمعارضين لها.
وذكرنا كيف استخدمت السلطة الأشعري في مواجهة المعتزلة والقدريين في عصر الخليفة المستظهر. وغرضنا الإشارة الى أنّ السلطة على اختلاف المراحل، في صراعها مع التيّارات المعارضة لنهجها، كانت تلجأ الى صناعة البديل الفكري الممثل لنهجها (الأصولي - السلفي)، بطريقةٍ أو بأخرى، وتزجّه في مواجهتها، مستخدمة ً ذات الأدوات أو اللغة التي تستخدمها المعارضة، ولكن باتجاه واحد: هو تكريس السلفيّة - فكر دولة الخلافة الرسمّي -، تمهيدا ً للخطوة التالية التي ستقوم بها السلطة، والمتمثلة بإنزال عقوبة التأثيم والكفر والزندقة، بكل الاصوات الفكريّة المعرضة، التي تطالب بالاحتكام الى العقل والإصلاح وحريّة الانسان.
تلك العقوبة التاريخيّة، تجسّدت بإيجاز في حملة الإبادة الفكريّة والجسديّة المتواصلة، لأهم منجزات حركة التطوّر العقلي - التطبيقي في المجتمع العربي الإسلامي، وأصابت هذا المنهج، الذي قاد المجتمعات الاخرى الى مسارٍ فاعلٍ في حركة تطورها الطبيعي، في الإصلاح والنقد والحوار والتغيير، والانفتاح على الآخر المغاير، مشكّلين هويّة مجتمعيّة علميّة مرنة، غير صارمة الحدود، وغير عدائيّة للثقافات والحضارات الآخرى، منفتحة على المتغيرّات الفكريّة والعلمية المستقبليّة المحتملة، ضمن نفس تلك الهويّة، التي ترسّخت في تلك المجتمعات بعد أن اصبحت كيانا ً معرفيّا ً تراكميّا ً عامّا ً، وفي ذات الآن، كيانا ً معرفيّا ً ومعنويّا ً على الصعيد الشخصي والانساني، ضمن تركيبة الوعي الذاتي للفرد، والذي لا يمكن التراجع عنه.
أصابت السلطة هذا المنهج في مجتمعاتنا بكوارث ومآسٍ متلاحقة، أدخلت منظومة العقل العربية الاسلامية في سبات شبه دائم، لصالح المشهد السلفي المتوارث، والحاكم بظواهر النص الديني، والمنغلق على تفاسير ومفاهيم ضيّقة ومحدّدة، لا مساحة فيها للآخر، ونافية لمبدأ الجدل الفكري، والمشاركة الحقيقيّة في الحقوق والواجبات.
فقد ضيّقوا بذلك مفهوم التوحيد، ووسّعوا مفهوم التكفير والشرك والزندقة. تمسّكوا بحرفيّة اللفظ القرآني، وألغوا وأبادوا كل الحركات الفكريّة الاسلاميّة، المنحازة الى دور ومكانة العقل والتأويل والمجاز، في تفسير نصوص الدين، علما ً أنّهم قد فسروا التوحيد تفسيرا ً لا واقعيّا ً، وعملوا به وبدلالته، التي تشبّه الله بالأجسام والصفات التشخيصيّة، وأعتبروا المسلم ليس موحّدا ً بقوله (الشهادة وعدم الإشراك بالله) كما أشار الرسول، وكذلك ليس بكثرة تعبّده وطاعته وعمله الصالح، إنّما بإيمانه - الاعمى - بما يقولونه هم، ويفسّرونه بشروطهم.

مذاهب و خلفاء:
أسّس مالك بن أنس، مؤسّس المذهب المالكي 96 - 179 هجرية، لمبدأ الجسميّة والتشبيه، بناءا ً على ظواهر الآيات، ورمى المعترضين بالانحراف والشرك. وبنى أحمد بن حنبل، مؤسّس المذهب الحنبلي 241 هجرية، على ما أسّس له مالك، ووسع من دائرة التأثيم والتكفير للحركات الفكريّة المعارضة، لهذا النهج التصنيمي الظاهري الضيّق، ومن ثمّ بنى عليه فيما بعد ابن تيميّة الحرّاني، ليوسّع دائرة الزندقة، فشملت السابقين واللاحقين، من التيّارات العاملة بالعقل والتأمّل والاجتهاد، ليأتي لاحقا ً محمد بن عبد الوهاب، مؤسّس الحركة الوهابيّة، فيتطرّف بانحيازه الى اتّساع مساحة التكفير، وتضييق مساحة التفاسير. هذا النهج قد أغرق الاسلام والمسلمين في تفاصيل ثانويّة لا تحصى، لا همّ لها سوى التأثيم والتكفير، وأصبح هذا النهج، بحكم تكراره، والإصرار عليه، عبر مراحل التاريخ الطويلة، هو الاسلام، بعد إقصاء العمل بالآيات القرآنيّة الداعية الى الاستنارة والتحليل العقلي، والعمل الصالح وحريّة الانسان بإرادته وأفعاله.
فمؤسّس المذهب المالكي، في ردّه على الرافضين فكرة العمل بظواهر الآيات، والتشبيه والتجسيم، كما في ظاهر الآية 5 من سورة طه (الرحمن على العرش استوى)، اي انّ الله جالس على العرش، كأيّ شخص، يقول مالك : (الاستواء معلوم، والكيفيّة - اي كيفيّة الاستواء أو الجلوس - مجهولة، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة).
هذا هو التنظير الأساس لوجوب الايمان الاعمى، لا بل انّ السائل عن كيفيّة ذلك، هو ملحد ومبتدع وزنديق، وعلى المسلمين التصديق بهذا التفسير، وإبطال عمل العقل والتأويل. علما ً ان هنالك نقيض لذلك القول، بتسليمهم في موقعٍ آخر بانّ الله ليس كمثله شئ، كما ورد في الآية 11 من سورة الشورى، وبان الله لا يشبه ايّ من المخلوقات (ليسَ كمثلهِ شئٌ) التي آمن بها أصحاب التأمّل العقلي من القدريين والمعتزلة، وأبدع في استقرائها واختبارها المتصوّفة العرب المسلمون. لكن المالكيّة - حسب وجهة نظرهم - يقولون بأنّ التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنّه لاشريك له، وليس كمثله شئ، وأنّهم ليسوا مكلّفين بتفسير مثل هذه الآيات وتأويلها!!
ثمّة تناقض بيّن، بين ايمانهم بالجسميّة ونقضهم لها بأن (ليس كمثله شئ)، وهو ما يضعهم -بأيديهم - في دائرة الشرك والإلحاد، وليس الاخرين المعارضين لهذا المبدأ.
بعد مالك، ألّف أحمد بن حنبل كتابا ً لتوثيق مقولات التكفير والتأثيم والزندقة، وصاغه على انّه رسالة عنوانها (الرد على الزنادقة والجهميّة)، في د حض المعتزلة والجهمية بقولهم ان القرآن مخلوق، التي اعتمدوا فيها - كما اشرنا - على التحليل العقلي لعدد من الآيات، كما في - الزخرف : آية 3 - (إنّا جعلناه)، وفي الأنعام : آية 92 - (أَنزلناه)، وفي الآية 1 منها (الحمد لله الذي خَلَقَ)، وفي الآية 102 منها (خَلقُ)، وفي - التين : آية 4 - (خَلقنا)، وغيرها من الإشارات والافعال التي تشير الى خلق القرآن، بينما يرى ابن حنبل ان القرآن أزلي وليس مخلوق.
استند الخلفاء على مثل هذه المقولات وغيرها، في سحق المعارضين، خصوصا ً في عهد المتوكّل، في تنفيذ حملته الشرسة ضد المعتزلة، فقرّب اليه فقهاء السلفيّة، والعاملين بالنقل والروي، لا بالعقل والتحليل والتروّي، ومنحهم الجاه والنفوذ والجوائز، حتّى انتهى الزمان -كما يقول الشهرستاني في الملل والنحل ج1 ص 85 (انتهى الزمان الى عبد الله بن سعيد الكلامي، وأبي العبّاس القلانسي، والحارث المحاسبي، وهؤلاء من جملة السلف...)، وكلّهم يقولون بأن القرآن غير مخلوق وهو أزلي، وانّ الله يجلس ويقف ويضحك ويهرول، وله عينان ورجلان.. الخ، وانّ أفعال الانسان بخيرها وشرّها من الله، ومقدّرة حسب مشيئته، ثمّ أضاف ابن تيميّة الحرّاني الى كلّ ذلك، بأنّ كلام الله صفة ملازمة لذاته، وسرعان ما تنبّه الى عدم معقوليّة (انّ الله تكلّم منذ الازل)، في وقتٍ لم يُخلق فيه البشر بعد، اي انّ غالبية فقهاء (السلف الصالح) حتى أكثرهم انغلاقا ً وتعصبا ً، باتوا يبحثون على الصعيد النظري، فيما بحث فيه القدريون والمعتزلة والمتصوّفة، لكنّهم يتوقفون عند الشكل العام للنصوص الدينيّة ودلالاتها اللفظيّة، ولم يقتربوا من استخدام وسائل العقل، وتجريبيّة العلم في التحليل والتفكيك. وهذه الظاهرة، ظاهرة دينيّة مفتعلة، تجابه لكنها غير منتجة، تطلق الاحكام، لكنها لا تغني حالة الحوار، تبتكر في الممنوع، لكنّها تضيّق المسموح به، تبحث في السطح، وهي غير معنيّة بالعمق.
هذا التأسيس المتراكم الاغلاق، وصل الى الوهابيّة، التي حصرت العلم والمعرفة في الاسلام، بالنصوص اللفظيّة الحرفيّة لظواهر الكتاب والسنّة، وان خالفت العقل والمنطق، وازدادوا تعصبا ً لما يرونه صوابا ً، وما زالوا يفتون بالكفر والزندقة كلّ من يخالفهم، ويستخدمون التهديد والمال والعطايا لاتّباعهم. ولا يعلم أحد كيف اعترف جامع الأزهر بهذه الفرقة قبل عدّة أعوام؟ علما ً انّ أبرز شيوخ مصر، الشيخ محمد عبده، قد قال عنهم في كتابه (الاسلام والنصرانيّة) ص 97 : (انّ هذه الفئة أضيق عطنا ً، وأحرج صدرا ً من المقلّدين... وانّها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من اللفظ الوارد، والتقيّد به، بدون التفاتٍ الى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين). وضيق العطن هنا، تأتي بمعنى الجهل وضيق الافق، أوقلّة العلم وضعف الاطلاع كذلك.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية