لم تعد غزة تحظى بالاهتمام الأول للعرب، فقد غطت على أخبارها ومصائب أهلها أحداث العراق اليومية الدامية التي تتصاعد دون توقف، وأخبار لبنان المقلقة، الذي تتطلع إليه، وتنتظر انفراجا في احتقاناته السياسية، جميع الشعوب العربية، فاحتلت بذلك غزة المركز الثالث في ترتيب الأولويات الحالية، وربما المركز الرابع بعد الذي استجد من أحداث دموية وسياسية وأمنية في الباكستان.


غزة عبر التاريخ
يطلق عليها أيضا اسم (غزة هاشم) إذ يُقال أن جد النبي (ص) هاشم بن عبد مناف مدفون فيها. كما أنها مسقط رأس الإمام الشافعي. ويعود تاريخ غزة إلى حوالي (3500) سنة قبل الميلاد، فقد ورد اسمها في مخطوط للفرعون تحتمس الثالث، كما ورد ذكرها في ألواح تل العمارنة. وقد احتلها المصريون القدماء قرابة ثلاثمائة عام. كما خضعت لسيطرة الهكسوس الذين اتخذوها قاعدة لهم في هجومهم على مصر. وقد سيطر عليها الفلسطينيون القادمون من البحر المتوسط. واحتلها أيضا الآشوريون حتى عام (609) قبل الميلاد إلى أن أعادها إلى مصر بقوة السلاح نيخو الثاني. ثم خضعت للبابليين في عهد سرجون الأكادي وابنه كارام. احتلها فيما بعد الفرس على عهد الملك قنبيز عام (535) قبل الميلاد، إلى أن احتلها الاسكندر المقدوني عام (332) قبل الميلاد، فاستوطنها اليونانيون، ونشروا لغتهم فيها، وأصبحت اللغة الرسمية في غزة. تلاهم بعد ذلك الرومان عام (96) قبل الميلاد، حيث أنشأوا فيها مصنعا لسك النقود.
فتحها المسلون العرب عام (635) ميلادي. واحتلها الصليبيون عام (1100) للميلاد، إلى أن طردهم منها في معركة حطين صلاح الدين الأيوبي عام (1187)ميلادي، ثم غزاها المغول، وطردهم منها (بيبرس) عام (1260) ميلادي بعد معركة عين جالوت الشهيرة.
خضعت للحكم العثماني منذ العام (1516م) واحتلها نابليون عام (1799م) وعادت ودخلت تحت الحكم المصري عام (1831م) في عهد محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا، إلى أن استولت عليها بريطانيا عام (1917م) خلال الحرب العالمية الأولى، وأصبحت في فترة الاحتلال البريطاني جزءا من فلسطين. وعندما أصدرت الأمم المتحدة عام (1947م) قرارا بتقسيم فلسطين إلى دولتين، قامت مصر عام (1948) بدخول قطاع غزة، واحتفظت به بموجب اتفاقية الهدنة الموقعة مع إسرائيل في شباط (1949).
احتلتها إسرائيل لأول مرة أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام (1956) ثم ما لبثت أن انسحبت منها مع انسحاب جيوش العدواني الثلاثي من مصر. لكنها أعادت احتلالها عام (1967) وبقيت فيها إلى أن انسحبت منها عام (2005) تطبيقا لخطة شارون بالانسحاب الأحادي الجانب، وأزالت منها جميع مستوطناتها وقواعدها العسكرية. فعادت للسلطة الفلسطينية إلى أن انفردت منظمة حماس بالسيطرة عليها في حزيران (2007).
اشتهرت غزة في الماضي بزيتها وزيتونها الذي كانت تصدره بكميات كبيرة إلى البلدان المجاورة، فقد كانت حقول الزيتون تحتل مساحات شاسعة في القطاع، إلا أن الجيش التركي قطع ما يقرب من (95%) من أشجار الزيتون الغزواي لاستعماله حطبا للوقود بدلا من الفحم الحجري لتسيير القطارات، فأصبحت غزة أقل المدن إنتاجا للزيت والزيتون.
تعتبر غزة نقطة وصل بين أسيا وأفريقيا (بلاد الشام- مصر). وكانت تقع على أهم الطرق التجارية القديمة، كما كانت محطة للقوافل التجارية القادمة من الهند وحضرموت واليمن ومكة، لتنتقل تلك البضائع بعد ذلك إلى تدمر ودمشق وباقي المدن الشامية. وقد زادت أهميتها في العصر الحديث بعد إنشاء خط سكة حديد (القنطرة- حيفا) الذي يمر بغزة، ومنها إلى لبنان وسوريا وتركيا.
يبلغ عدد سكان قطاع غزة قرابة مليوني نسمة أغلبهم من لاجئي عام (1948) ويبلغ طول القطاع حوالي (40كم) وعرضه بين (5-8كم) وتحتوي غزة- عدا الكليات والمعاهد المتوسطة- على خمس جامعات هي: الجامعة الإسلامية- جامعة الأزهر- جامعة الأقصى- جامعة فلسطين الدولية- جامعة القدس المفتوحة.


غزة اليوم
ترتبط غزة والضفة الغربية من الناحية الاقتصادية والتجارية والخدمية (ماء- كهرباء- وقود- اتصالات) ارتباطا مباشرا بإسرائيل. وتعتمد الأكثرية الساحقة من أهالي غزة وباقي المدن الفلسطينية في معيشتهم على المساعدات الخارجية التي تقدم أكثرها الدول الغربية بما فيها أمريكا، وتقدم أقلها الدول العربية بما فيها الدول العربية النفطية الغنية. ومنذ أن انتصرت منظمة حماس بالانتخابات التشريعية، وفازت بالسلطة، وأعلنت برنامجها السياسي الذي يتعارض مع سياسة وتوجهات الدول المانحة، قُطعت المساعدات العربية والأجنبية عن الشعب الفلسطيني، إذ لا أحد يدفع لوجه الله تعالى، وإنما لتسويق سياساته ومصالحه.
ومنذ أن انفردت حماس بحكم غزة، أُزيح الحصار عن الضفة الغربية، واشتدت وطأته حول قطاع غزة التي تعيش هذه الآونة أياما سوداء لم تعشها من قبل ولم تخطر لها على بال، في ظل صمت عربي وإسلامي مطبق على الحال الذي وصل إليه سكان القطاع. فرواتب الموظفين مقطوعة، ومؤسسات القضاء معطلة جمعيها، فلا محاكم ولا قضاة، مما أوجد فراغا قانونيا وحالة من عدم الاطمئنان لدى المواطنين. كما أن قطاع الصحة في معاناة متزايدة يوما عن يوم نتيجة الإضرابات، وفقدان الأدوية. عدا عن أن تسريح الآلاف من عناصر الشرطة والدفاع المدني والأمن الوطني قد جعل هؤلاء بلا دخل، وأوجد حالة من الفراغ الأمني، مما زاد من عدد الناس الذين هم تحت خط الفقر. والخطوة التي اتخذها السلطة في رام الله بإعفاء المواطنين الغزاويين من دفع الضرائب ودفع فواتير الماء والكهرباء أربكت حماس وقطعت عنها بعضا من الإمدادات الهامة.
ومما زاد الطين بلة أن إسرائيل أعلنت قطاع غزة كيانا معاديا، فقطعت البنوك الإسرائيلية صلتها بالبنوك في غزة. وأغلقت المعابر إغلاقا تاما، مما منع المرضى من السفر للعلاج في الدول المجاورة، ومنع الناس من أداء العمرة وأداء فريضة الحج. كذلك فإن إغلاق المعابر أدى إلى منع تصدير آلاف الأطنان من المواد التي ينتجها القطاع، وإلى عدم وصول المواد الخام، مما تسبب في إغلاق المصانع وتسريح قرابة خمسين ألف عامل وربما أكثر، أضيفوا إلى عدد العاطلين عن العمل، وإلى عدد الواقعين تحت خط الفقر. كما أدى ذلك إلى عدم وصول المساعدات التي تقدمها بعض الجمعيات العربية والإسلامية. كذلك فإن التهديد الإسرائيلي بزيادة عدد ساعات قطع الكهرباء، والتقنين في كمية الوقود المرسلة إلى غزة، يهدد السيارات ووسائل المواصلات بالتوقف عن العمل، ويهدد الناس في تأمين وسائل التدفئة، خاصة وأننا على أبواب فصل الشتاء، بل قد دخلنا فيه. لكن الخطر الأكبر الذي يخشاه الغزاويون، ويتوقعون حدوثه، هو تهديد إسرائيل باجتياح غزة واحتلالها من جديد، في ظل ضوء أخضر أمريكي، وربما عربي.
لا شك أن حماس تدرك أن أحوال الغزاويين قد وصلت إلى الدرك الأسفل، وأن سوء حالتهم في تفاقم مستمر، وأن ذلك بسببها، وتدرك أيضا أنهم يعاقبون عربيا ودوليا انتقاما منها، ونكاية بها. وبغض النظر عن صحة أو بطلان ما يوجه إلى حماس من اتهامات، فإن الدول المانحة quot;العربية والغربيةquot; تحمل منظمة حماس مسؤولية تردي الأوضاع في قطاع غزة.
لقد أكده السيد إسماعيل هنية كل هذا، وغيره كثير، في خطابه (الأحد 4/11/2007) وأكد أيضا أن سبب الحصار هو الانتقام من حماس، ومعاقبتها، ومعاقبة الشعب الذي انتخبها. وأوضح بالأرقام المخاطر الشنيعة المحتملة من هذا الحصار الظالم، في حال استمراره. لكن أهم ما أكده السيد هنية هو قوله: (إننا لسنا طلاب سلطة). فهل يعني هذا التأكيد أن تتخلى حماس عن السلطة، محبة بالغزاويين والفلسطينيين، الذين منحوها ثقتهم وأصواتهم ومحبتهم، وكشكل من أشكال رد الجميل لهم، لدرء البؤس عنهم، خاصة وإن الافتداء شيمة أصيلة من شيم العرب؟
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية