تحدثنا في مقالتين سابقتين عن أهمية التراث ودروه في النهضة الحضارية لأية امة وقلنا أن التراث يحتاج ما بين عصر وعصر إلى المراجعة والتجديد لكي يكون قادراً على التفاعل الخلاق مع روح العصر الجديد، وقلنا إن تراثنا الإسلامي لا يخرج عن هذه القاعدة، وبينا أن دعوتنا لإعادة النظر في تراثنا الإسلامي تشمل (الأدوات المعرفية) التي

الأولى

الثانية

أنتجت هذا التراث وفي مقدمتها (علم أصول الفقه) لأن الفقه هو الذي يشكل ثقافة الأمة الإسلامية ويصوغ عقليتها وهو الذي يحكم حركاتها وسكناتها، وفندنا الاعتقاد السائد لدى علماء الأصول بأن علم أصول الفقه قد بلغ القمة ولم يعد قابلاً لأية إضافة أو تجديد، وقلنا إن هذا العلم لا يختلف عن غيره من العلوم التي تظل آخر الأمر إنتاجاً بشرياً لا يمكن أن تبلغ القمة مهما بذل فيه العلماء من جهود.
إننا بهذه الرؤية للتراث الإسلامي بعامة ولأصول الفقه بخاصة يمكن أن ننطلق في الطريق الصحيح نحو تجديد الدين الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث، غير أن الانطلاق في هذا الطريق الشائك تعترضه إشكاليتان أساسيتان ترجعان في رأينا إلى المناهج التي وضعها علماء الأصول، وهما:
(1) تقييد الأصوليين للقرآن الكريم بمصادر التشريع الأخرى: فمن المعلوم أن القرآن الكريم هو كتاب الرسالة السماوية الخاتمة التي سترافق البشرية حتى قيام الساعة، ولكي يلبي القرآن الكريم حاجة البشرية على امتداد هذا الزمن الطويل فقد أنزله الله عزَّ وجلَّ بصيغة بلاغية فريدة، وجعل نصوصه قابلة للتأويل المتجدد، حتى يكون قادراً على الاستجابة لما يطرأ على الحياة البشرية من تطورات على مرِّ العصور، وبهذا كان القرآن الكريم طليقاً عن ظروف الزمان والمكان، إلا أن تقييد الأصوليين للقرآن الكريم بمصادر التشريع الأخرى التي لا تنفكُّ عادة عن ظروف الزمان والمكان أدى إلى سلب القرآن الكثير من طلاقته التي تعدُّ من أبرز خصائصه.
(2) عدم إدراك المنهج التدريجي في التشريع: فقد أسس القرآن الكريم منهجاً تشريعياً فريداً يقوم على التدرج بالتشريع، ووضع لنا علامات على هذه الطريق، وترك لنا الباب مفتوحاً على المستقبل لكي نتابع فيه السير على ضوء المقاصد الكلية للشريعة، وذلك من أجل تلبية حاجات الناس المتجددة التي من طبيعتها التغير من زمان إلى زمان، ومن بيئة إلى بيئة، إلا أن علماء الأصول بسبب اعتقادهم بأن التدرج بالتشريع قد توقف بانقطاع الوحي وانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى خرجوا من نصوص الوحي بأحكام اعتبروها نهائية لا يصحُّ تجاوزها مهما تبدَّلت الأحوال والأزمان والبيئات، وبهذا تعطَّلت عملياً القاعدة الأصولية التي وضعها الأصوليون انفسهم والتي تقول: (لا يُنْكَرُ تغيُّر الأحكامِ بتغيُّر الأزمانِ)، ومثلها القاعدة الأخرى التي قرروها هم كذلك: (إن الحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُوداً وَعَدَماً)، فمن رحمة الله عزَّ وجلَّ بالعباد أنه جعل لكل حكم من الأحكام الشرعية علة، وجعل الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، لكن هذه القاعدة لم تأخذ حظها كذلك في اجتهادات الفقهاء الذين ركزوا في الغالب على حرفية النصوص، ولم يتوقفوا ملياً عند العلل المرتبطة بالنصوص، وهكذا ضاعت بعض القواعد الفقهية الثمينة التي كانت كفيلة بجعل التشريع الإسلامي أكثر تفاعلاً واستجابة لمقتضيات الواقع الذي من طبيعته التجدُّد والتطوُّر والتغيُّر المستمر.
وقد كان من نتيجة هاتين الإشكاليتين أن وصل علم أصول الفقه إلى لحظة الأزمة التي تمثلت بالحد من قدرة الرسالة السماوية الخاتمة على الاستجابة لمتطلبات العصور اللاحقة، وتوقف الاجتهاد عند نقطة حرجة لم يعد قادراً على تجاوزها، وبدأ عصر الجمود والتكرار والتقليد، وبدأت نصوص الفقهاء تحلُّ محلَّ نصوص السماء.
وقد انبرى في الماضي نخبة من أكابر الفقهاء وعلماء الأصول لمعالجة هذه الأزمة وطرحوا نظريات استهدفت تطوير علم الأصول، لأنهم أدركوا بعمق أن بداية العلاج يبدأ من تجديد هذا العلم، ولعلَّ أولى هذه المحاولات بدأت في القرن الرابع الهجري على يدي الإمام الباقلاني (338 ـ 403هـ) الذي رأى في زمانه استيلاء (علم الكلام (علم يقابل علم المنطق في الفلسفة ) على سائر العلوم، وعاصر الصراع الفكري الحاد الذي نشب ما بين المعتزلة والأشاعرة، فأدرك أن الأدوات المؤهلة للنظر الاجتهادي التي وضعها الإمام الشافعي باتت بحاجة للتجديد لتواكب هذه التغيرات الفكرية الطارئة، وكأن الإمام الباقلاني قد أدرك أن تجاهل الفقيه لهذه التغيرات يعدُّ رفضاً غير مباشر لتحقيق قيومية الدين على المجتمع، ولهذا جعل الباقلاني التبحُّر في علم الكلام واستخدام أدوات المنطق شرطان من شروط النظر الاجتهادي، ودعا إلى الاستغناء عن اشتراط معرفة المجتهد للمباحث الجزئية من العام والخاص والمطلق والمقيد.. الخ، والاكتفاء بمعرفة القواعد العامة من أصول الفقه، على أساس أن هذه القواعد تتضمن تلك المعارف الجزئية كلها(1).
ثم جاءت محاولة التجديد الثانية في القرن الخامس الهجري على يدي إمام الحرمين الجويني، الذي طرح نظرية كادت تشكل في حينها منعطفاً تاريخياً فعلياً في أصول الفقه(2)، وقد أقام الجويني نظريته على أساس (المقاصد الكلية للشريعة) فقد رأى الجويني أن المعرفة بالمقاصد هي العمدة في النظر الاجتهادي، ودعا إلى تنزيل هذه المقاصد تنزيلاً يراعي مقتضيات العصر ومشكلات الناس الذين هم محلُّ الحكم الشرعي، وبناء على ذلك وضع مجموعة من القواعد التي بدت في حينها أشبه بعلم جديد في الأصول، له أدلته واستقلاله عن أصول الفقه التقليدية، وعن طرائق المذاهب الفقهية المعروفة.
ومن أبرز ملامح النظرية التي طرحها الإمام الجويني أن مقاصد الشريعة تتجه إجمالاً إلى جلب المصالح ودرء المفاسد في الدنيا والآخرة، وأن المصدر النسبي والمؤقت للأحكام يعود إلى مدارك العقول، وبناء على هذين المحورين طرح الجويني ـ بجرأة غير مسبوقة ـ فرضية فحواها أنه قد يأتي على الناس زمان يخلو فيه عن أصول الشريعة جملةً (حيثُ لا يَبْعُدُ في مُطَّرد العُرْفِ انمحاقُ الشَّريعةِ أصْلاً حتى تَدْرُسَ بالكُلِّية) ليصل الجويني من هذه الفرضية المستقبلية إلى نتيجة في غاية الأهمية، وهي ضرورة تدريب العقل البشري وتأهيله لمواجهة تلك المرحلة إن وقعت (!)
ومن هنا ندرك بُعد النظرة المستقبلية التي ذهب إليها الجويني، فهي تؤكد من جهة على حق العقل البشري بممارسة الوظيفة التي أودعها الخالق فيه إلى أبعد مدى ممكن، وتؤكد من جهة أخرى على ضرورة تأهيل العقل المسلم ليصبح قادراً على السياحة في فلك المقاصد الكلية للشريعة حتى وإن غابت عنه النصوص التفصيلية.
ولم يكتف الإمام الجويني بهذه النقلة الواسعة لتطوير العقلية الأصولية، بل دعا كذلك لإعادة النظر في المؤهلات التي اشترطها الأصوليون في المجتهد، لأنها جعلت مصالح الناس رهناً بوجود فقيه قلَّما يجود الزمان به، ولهذا رأى أنه يكفي في المجتهد معرفته بالعربية دون تبحُّر، وتحصيل ما تمسُّ الحاجة إليه من أصول الفقه وقواعده، وأسقط عنه بقية الشروط بما فيها التقوى والورع لأنها لا تطعن بقدرة المجتهد على إدراك الأحكام ومآخذها.
ولا ريب بأن هذه الطروحات الجريئة من الإمام الجويني ـ سواء وافقناه أم عارضناه ـ كانت أطروحات حَرِيَّة بالاهتمام، ولو قدِّر لها من يناقشها مناقشة علمية موضوعية ويساهم بتطويرها فربما كانت النتيجة تأسيس علم أصول جديد يحلُّ الكثير من الإشكاليات التي لم يعد باستطاعة علم الأصول في العصور اللاحقة أن يحلها، إلا أن الرياح تجري غالباً بما لا تشتهي السفن كما يقولون، ولهذا انتهت محاولة هذا الإمام المجدِّد إلى أرفف التاريخ، ولم يُقَدَّر لها أن تأخذ مكانتها اللائقة في تراثنا الفقهي.
وفي القرن الثامن الهجري جاءت محاولة التجديد التالية على يدي عالم أصول مجتهد بارز آخر هو (الإمام الشاطبي) الذي لا يقلُّ عن سلفه الجويني اهتماماً بالمقاصد الكلية للشريعة، بل فاقَهُ في تأصيل (نظرية المقاصد الكلية للشريعة) وبيان دورها في تفعيل حركة الاجتهاد، وقد أقام الشاطبي نظريته على استقراء فروع الشريعة واستخلاص مقاصدها العامة التي تستهدف تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، وركَّز على جانب مهم جداً في هذا السياق، هو وجوب مراعاة عادات الواقع (إذ لا يمكنُ أنْ يكونَ المعنى إلا ما يُصَدِّقُهُ الواقِعُ ويَطَّرِدُ عليهِ)(3)، ولهذا نبَّه الشاطبي إلى ضرورة فهم الفقيه للواقع فهماً دقيقاً وعميقاً حتى يستطيع تكييف الحكم الشرعي مع الواقع، في إطار المقاصد الكلية للشريعة.
كما أكَّد الشاطبي على أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن تنزيل مقاصد الشريعة على مجاري العادات مشروط بالفهم عن الشارع الحكيم، والقدرة على تحقيق مناط الأحكام، أي القدرة على أن يكون الحكم حلاً لمشكلات الواقع، ولهذا نبَّه إلى (ضَرُورة النَّظَرِ في المَسْأَلاتِ قبلَ الجوابِ عن السؤالاتِ عندَ تحقيقِ المناطِ، إذ لا جدوى للأجوبةِ الفقهيَّةِ المُعَدَّةِ لكلِّ مناسبة)، وذلك لأن الحكم يختلف من حال إلى حال بحسب ظروف الواقع الذي يُسأل عنه.
وقد كانت هذه النظرات الأصولية العميقة التي أسسها الشاطبي، ومن قبله الجويني، كفيلة بأن تشكل قفزة مهمة في تطوير (علم أصول الفقه) وتجديده، وأن تفتح نوافذ واسعة لتحرير نصوص الوحي من قراءات الفقهاء الذين صرفوا جُلُّ اهتمامهم إلى (حَرْفِيَّة) النصوص على حساب مقاصد النصوص وعللها، إلا أن هذه النقلة التي مهَّد لها الإمامان الجويني والشاطبي لم تجد من يستكملها بالصورة المأمولة، بل تابع الاجتهاد الفقهي مسيرته الرتيبة دون التفات يذكر إلى هذه النظريات المجدِّدة.
فإذا علمنا بعد هذه المقدمات أن معظم نصوص الوحي ظنية الدلالة كما يقرر علماء اللغة ويوافقهم عليه الأصوليون وجمهور الفقهاء، فإننا ندرك طبيعة الإشكالية التي حاول الشاطبي ومن قبله الجويني تجاوزها، فإن الوقوف على المقاصد الكلية للشريعة بدل الوقوف عند حرفية النصوص، إلى جانب ما تتمتع به النصوص من ظنية في دلالاتها، يعطي الفقيه مساحة رحبة للتحرك بالنصوص، ويعين على توليد أحكام تكون أكثر مواءمة للواقع الذي من طبيعته التغير والتبدل، ولا جدال بأن هذه النقلة كانت نقلة مهمة جداً على المستوى العملي، لأن الأحكام حين تكون مراعية للواقع، ملائمة لأحوال الناس، يكون الناس أكثر التزاماً بها، ومن ثم يكونون أكثر تمسُّكاً بشريعة الله عزَّ وجلَّ.. ولا غرو بأن هذه النقلة من (حرفية النص) إلى (مقاصد النص) تعدُّ نقلة مهمة جداً في تاريخنا الفقهي.
وقد تجدَّدت محاولات تطوير علم أصول الفقه في العصور اللاحقة، وتواصلت هذه المحاولات حتى عصرنا الراهن، فقدَّم عدد غير قليل من الفقهاء المجتهدين مجموعة من الدراسات القيمة التي تضمنت اقتراحات عديدة لتحقيق هذا الهدف، إلا أن هذه الدراسات على كثرتها، وعمق معظمها، ظلت دون الحدِّ المأمول منها، ولم تستطع أن تقدم منظومة أصولية متكاملة تحل الأزمة وتعيد لحركة الاجتهاد الفقهي حيويتها الدافقة، ولعلَّ أهم ما كان ينقص هذه المحاولات في رأينا مطلبان اثنان:
bull;الأول: وضع أسس جديدة لتحرير (نصوص الوحي) من بعض القيود التي فرضتها المناهج الأصولية القديمة، وبخاصة منها القيود التي قيدت نصوص الوحي بزمن معين، أو بيئة محددة، فنزعت عنها بهذه القيود سمة الطلاقة التي هي من أبرز سماتها.
bull;الثاني: ملاحظة منهج (التدرج بالتشريع) التي أرسى القرآن الكريم مبادئها، وترك للمجتهدين في كل عصر المضي بها إلى غاياتها، لكي تساير الأحكامُ مستجدات الواقع في إطار المقاصد الكلية للشريعة.
ونعتقد أن تحقيق هذين المطلبين يمكن أن يشكل منعطفاً حقيقياً في علم أصول الفقه، وأن يبعث الحياة في حركة الاجتهاد، لأنه يعيد لنصوص الوحي قدرتها في كل حين على توليد أحكام جديدة تستجيب لتغيرات الزمان والأحوال والبيئات، وترفع الحرج عن الناس من خلال مراعاتها لأحوالهم وتلبية حاجاتهم المتجددة، ومن ثم تجعلهم أكثر استجابة لأحكام الشريعة.
إن هذه الإشكاليات التي عرضنا طرفاً منها فيما قدمناه حتى الآن هي التي تدعونا اليوم لمراجعة علم أصول الفقه الذي نرى أنه يشكل نقطة الانطلاق الحقيقية لتجديد الدين، وليس في هذه المراجعة لأصول الفقه انتقاص لجهود الأصوليين والفقهاء السابقين، وإنما هي سنة الله في خلقه، أن يؤدي كلُّ جيل ما لديه ويمضي، تاركاً الساحة مفتوحة للأجيال التالية، فليس في العلم احتكار، بل لعل من أبرز خصائص العلم أنه ينمو ويتطور بالتراكم المعرفي، فيضيف فيه اللاحق للسابق، وبهذا تتسع آفاق المعرفة البشرية، ويتحقق المزيد من مصالح العباد والبلاد.
[email protected]
هوامش:
1.انظر كتابيه: (الأصول الكبير) و (التقريب والإرشاد).
2.انظر كتابه: البرهان في أصول الفقه.
3.انظر كتابيه (الموافقات) و (المقاصد)

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية