كلما سألت الصّديق الفيلسوف عبدالرحمن بن معمّر ناشر مجلة (عالم الكتب) وصاحب (دار ثقيف للنّشر والتّأليف) عن آخر قراءته ومطالعاته صرخ قائلاً: (يا شيخنا.. الإنسان وش يقرأ وش يخلّي)! في إشارة منه إلى حيرة ألمّت به، وتوهان أصابه بالدّوار من جرّاء ما هو مطروح بين يديه!
عبارة المعمّر أعلاه توحي بالحيرة أكثر ممّا توحي بالتنوّع.. عندها استطعت أن أتوصّل لـ(نظريّة عرفجيّة) - طالما أن اختراع النّظريّات يتّسم بالفوضى بحيث أصبح هناك من يحمل لقب quot;أستاذ النّقد والنّظريّةquot; - استطعت أن أصل لنظريّة مفادها أنّ كثرة الإصدارات والمطبوعات تعيق الثّقافة، وأنّ انهمار السّماء والأرض والأسلاك بوابل المعلومات، وتنوّع مصادرها دليل على الضّياع، وعامل من عوامل الإعاقة الثّقافيّة، ومانع من موانع التّحصيل المعرفي.
ولا أُخفي القارئ أنّني فرحت باكتشاف هذه النّظريّة، وأويت إلى فراشي - كما أوى أبو دلامة - شبعان رويان دفيان، بل زدت على أبي دلامة بأنّني فرحان نشوان بما جاءني من أفضال الرّحمن!
ولكن كما يقول أهل الحجاز - عليهم وابل الرّحمة ينسكب- (يا فرحة ما تمّت)، إذ اكتشفت أنّ الحاج العبقري ابن خلدون قد سبقني لهذه النّظريّة؛ بحيث أحرقت مقدّمة ابن خلدون المعرفيّة مؤخّرة ابن عرفج الثّقافيّة. يقول شيخنا ابن خلدون تحت عنوان quot;باب في أنّ كثرة التّأليف في العلوم عائق عن التّحصيلquot;: (واعلم أنّه ممّا أضرّ بالنّاس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التّأليف، واختلاف الاصطلاحات في التّعليم، وتعدّد طرقها، ثمّ مطالبة المُتعلّم والتّلميذ باستحضار ذلك، وحينئذٍ يسلم له منصب التّحصيل، فيحتاج المُتعلّم إلى حفظها كلّها، أو أكثرها ومراعاة ظرفها، ولا يفي عمره بما كُتب في صناعة واحدة إذا تجرّد لها، فيقع القصور، ولابد، دون رتبة التّحصيل) المقدّمة ص140.
والشّاهد أنّ كثرة المؤلّفات والمصنّفات والمطولات قد أفرزت لنا العديد من المختصرات التي عمدت إلى تلخيص هذه المطولات رجاء أن تجد من يفكّ مغلاقها، ويؤنس وحشتها في الأضابير والأرفف، فصغر حجم المصنّفات الكبيرة من مختصر إلى مختصر المختصر، وصولاً بها إلى أحجام صغيرة تحمل في الجيب، وما هي بعد ذلك كلّه عاثرة على من يقرأها دون ضجر أو عزوف، في أمّة يحضّها دينها على التّعلّم والتدبّر والمعرفة!
إنّ هذا المشهد بصورته هذه يشير باتّجاه أقلام أسالت حبرها في أودية الثّرثرة، ودلقت مدادها في تيه الفراغ، مع عقول أغلقت منافذها أمام فعل القراءة، بما يحملنا إلى سؤال مهمّ وجوهري لأصحاب الأقلام: لمن تكتبون؟ فإذا كان ما تكتبونه يبقى معلّبًا ومحفوظًا حتّى تنتهي فترة صلاحيته، أو تقدمونه هدايا في معارض الخصوص والمباهاة لا أكثر، لينعم الواهمون بلقب (كاتب)، ويتفاخرون بوصف (مفكّر) ويتعاظمون بصفة (أديب)؟!
بعد كلّ هذا هل تدفّق المعلومات، وسيلان أودية المعرفة، وانتشار الإصدارات تشير إلى التفوّق والوعي ونشر الثّقافة كما يزعم الزّاعمون، أم هي عائق من عوائق التّحصيل والوعي كما يؤكّد ذلك العرفج ومن قبله العالم الجليل ابن خلدون؟
هل التنوّع وكثرة الخيارات وتعدّد الإصدارات يشجّع على العلم أم يحيّر ويُدخل المتلقّي في دائرة الصّراع الذي لا ينفع معه بنادول أو فيفادول؟
ثمّ ألم تذكر لنا كتب التّراث أنّ القنفذ يحمي نفسه لأنّه لا يملك إلا خيارًا واحدًا، بينما سقط الثّعلب وفشل لأنّه وقع في دوامة الخيارات التي جعلته يخرج من الغابة من دون أن يقبض على فريسته. فعلاً صدق أهل الخبرة عندما قالوا: (إذا أردت أن تحيّر المرء فخيّره)!

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية