إنها الجمهورية الثالثة في تونس. بدأت بالخطاب الذي ألقاه الرئيس زين العابدين بن علي في السابع من نوفمبر الجاري في مناسبة الذكرى العشرين لquot;التحولquot; أي لتوليه السلطة خلفا للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. لماذا كان الخطاب مؤشرا ألى بداية الجمهورية الثالثة؟ الجواب يعود بكل بساطة ألى أن الرئيس التونسي حدد في الخطاب الخطوط العريضة للسياسة التي ستتبعها بلاده في السنوات المقبلة وهي تتميز بمزيد من الأصلاحات على الصعيد الداخلي خصوصا في المجالين الأقتصادي والسياسي. ووضع الأصلاحات في سياق ما تحقق في السنوات العشرين الماضية أنطلاقا من المعطيات المتوافرة وذلك لتأكيد أن تطويرا للحياة السياسية في البلد سيترافق مع الأنفتاح الأقتصادي المقرر...
قبل كل شيء، لا بد من الأشارة ألى أن الخطاب ألقي في قاعة رياضية كبيرة في رادس، أحدى ضواحي العاصمة، في حضور ألاف المواطنين وكبار المسؤولين الحاليين والسابقين في الدولة بمن فيهم أولئك الين كانوا ألى جانب بن علي في السابع من نوفمبر من العام 1987 والذين لم تعد لديهم مناصب رسمية الآن. كذلك، لا مفر من الأشارة ألى أن الهتاف الذي تردد أكثر من غيره خلال ألقاء الخطاب هو quot;بن علي 2009quot; وهذا يعني أن الرئيس التونسي سيترشح لولاية جديدة عندما تنتهي ولايته الحالية بعد أقل من سنتين.
دامت الجمهورية الأولى بين العامين 1956 و1987 من القرن الماضي وهي أنتهت فعليا قبل أن يضطر بورقيبة ألى ألتخلي عن منصبه بسبب تقدمه في السن وفقدانه القدرة على ممارسة مسؤولياته. أنتهت الجمهورية الأولى عملياً مطلع الثمانينات عندما فقد الزعيم التونسي الكثير من حيويته وقدرته على التحكم بالشأن العام ألى أن جاء التغيير في نوفمبر 1987 ليضع حدا لحال من الضياع كان يمكن أن تضيع معها تونس. هذا لا يعني أن بورقيبة لم يكن زعيما تاريخيا، بل أستثنائيا ألى حد كبير واجه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بشجاعة مرحلة الشعارات القومية الفارغة. لكن أنتهاء الجمهورية الأولى، والرجل لا يزال في السلطة، كان يعني وقتذاك أن كل المكاسب التي تحققت في عهده، بما في ذلك تأسيس دولة عصرية تتبع سياسة منفتحة على الصعيد الداخلي وبعيدة كل البعد عن الغوغائية على الصعيد الخارجي كانت مرشحة للزوال وكأنها لم تكن. حصل ذلك بسبب تشبث المحيطين بالرجل الكبير به وبأبقائه في موقعه حتى لو كان ذلك على حساب الجمهورية ومؤسساتها. كان يمكن لتونس ذات الموارد المحدودة أن تتفكك لولا حركة التغيير في العام 1987 وهي حركة سمحت بأزاحة الرئيس العجوز الذي لم يعد صاحيا سوى لساعات قليلة من النهار والأتيان مكانه بشخص آخر يمتلك ميزات تسمح بالسير في طريق بناء دولة عصرية تحافظ على ما تحقق منذ الأستقلال وتطور الأسس التي قامت عليها الجمهورية الأولى. على رأس هذه الأسس قوانين عصرية تحفظ للمرأة حقوقها ودورها وبرامج تعليمية مرتبطة بالعصر ومؤسسات لدولة مدنية حقيقية.
ينقسم المتابعون للشأن التونسي فريقين في تقويم التجربة في السنوات العشرين الماضية الممتدة حتى السابع من نوفمبر 2007. وأذا كان المعترضون يأخذون على الرئيس بن علي المبالغة أحيانا في الأجراءات الأمنية التي حدت من حيوية الحياة السياسية في البلد، وقد أنسحب ذلك على طبيعة الأعلام التونسي ومستواه وتحويله ألى مجرد بوق دعاية للسلطة، فأن المدافعين عن التجربة، يرون أن لا مفر من التعاطي مع الواقع التونسي. وهذا يجرّ ألى الأعتراف بأن بن علي بدأ عهده، أي الجمهورية الثانية، بالأنفتاح على المعارضة بكل أنواعها وحتى على الأسلاميين الذي يسمون نفسهم معتدلين والذين أدخلوا السجون في السنوات الأخيرة من عهد بورقيبة. لكن هذا الأنفتاح توقف بعد أكتشاف أن هؤلاء الأسلاميين لا يمتلكون سوى هم واحد يتمثل في الأستيلاء على السلطة ولو عن طريق العنف والكلام الجميل المنمق عن حبهم للموسيقى والغناء مثلا. يختبئ الأسلاميون وراء شعارات حقوق الأنسان في معظم الأحيان. أنها شعارات تصلح لديهم لغرض واحد هو قلب النظام والعودة بالبلد سنوات ألى خلف، أي ألى حال من التخلف تسمح لهم بوضع اليد على المجتمع وتدجينه... على غرار ما حصل في بلدان عدة ليست بعيدة عن تونس على سبيل المثال حيث حللوا كل شيء بما في ذلك ذبح النساء والأطفال من أجل الوصول ألى السلطة.
ما يدافع عن الجمهورية الثانية هو الأرقام وذلك بغض النظر عن التحفظات أيا يكن مصدرها. تدل الأرقام على أن تونس حققت نموا مستمرا على الرغم من الصعوبات التي واجهتها وبعضها مرتبط بأرتفاع أسعار المحروقات والتعقيدات الأقليمية التي أرتدت طابعا في غاية الخطورة في أحيان كثيرة. ويشير الرئيس التونسي في خطابه الأخير ألى أن معدل نمو الناتج المحلي الأجمالي على مدى العشرية الأولى (بين 1987 و1997) كان في مستوى 4،3 في المئة وأرتفع في العشرية الثانية (1997 ألى 2007 ) ألى 5 في المئة. ومن المنتظر أن يسجل هذه السنة 6،3 في المئة. والأهم من الأرقام أن النمو في تونس سمح بتوسيع الطبقة المتوسطة التي صارت العمود الفقري للمجتمع التونسي. هذه الطبقة تجد نفسها مضطرة ألى الدفاع عن مكتسباتها التي لم تتحقق ألا بفضل دولة المؤسسات والأستقرار الأمني والنظام التعليمي المتطور والقوانين الحديثة التي حافظت على مكانة المرأة ودورها الحضاري في وجه قوى الظلام والتخلف والأنحطاط...
أسست الجمهورية الثانية للجمهورية الثالثة. أسست لأقتصاد أكثر أنفتاحا أنطلاقا مع تحرير جزئي للدينار التونسي والسعي ألى تنفيذ مزيد من الأصلاحات أن على الصعيد ألأقتصادي أو على الصعيد السياسي وهو ما تحدث عنه بالتفاصيل خطاب السابع من نوفمبر 2007 الذي أشار ألى سلسلة من القرارات تشمل كل القطاعات بما في ذلك قطاع الأعلام مع التشديد على أن quot;خيار التعددية لا رجعة فيه وأن الأحزاب السياسية في الحكم والمعارضة هي أطراف المعادلة الديموقراطية والتنافس النزيهquot;.
حدد الرئيس التونسي في خطابه ما الذي سيفعله في المستقبل وكيف أن تونس ستكون أكثر أنفتاحا وأكثر جذبا للأستثمارات الأجنبية. لم ينس التحديات الناجمة عن أرتفاع أسعار المحروقات مجددا ولا حتى عن التغييرات في المناخ ولم ينس خصوصا أن تونس يجب أن تكون متصالحة مع نفسها أولا في حال كانت تريد أستمرار النمو والتطور. لم يكن كافيا قوله أن quot;لا مجال للأقصاء والتهميش ولا مجال لبقاء أي كان متخلفا عن مسيرة النماء والتقدمquot;، بل أكد وجود ترابط بين كل المراحل التي مرت بها تونس تاريخيا. لم يتنكر لأي من الرجالات التاريخيين كما عادة بعض الزعماء العرب الذين يحرصون على حصر التاريخ بشخصهم. تحدث من دون عقد أو تزمت عن حنبعل (هنيبعل) والقديس سانت أوغستان والأمام سحنون والعلامة أبن خلدون والمصلح خيرالدين والزعيم الحبيب بورقيبة. كل من هؤلاء يشير ألى مرحلة من تاريخ تونس التي دخلت الجمهورية الثالثة في ظل الأستمرارية والرغبة في المزيد من التطوير لتجربة أقل ما يمكن قوله أنها أعتمدت على ثروة أسمها ثروة الأنسان أولا، الأنسان القادر على التعاطي مع العصر والتكنولوجيا الحديثة... بدل الهرب منهما في أتجاه مزيد من التخلف والكبت والأنغلاق