في فضاء الكتاب العام
يتناول الكتاب العلاقة بين الدين كمنظومة علاقة بين الانسان والله من جهة وبين الجمال كقيم ومواقف تتسم بالشفافية والروحانية المتعالية على قيم المادة المتسافلة من جهة أخرى، منتهيا إلى طرح فهم إيجابي للدين، يحول دون استغلاله لأغراض شخصية وحزبية، تنحرف في النتيجة عن الغاية القصوى للدين، التي هي بث روح العزيمة الطيبة في ضمير الانسان، على طريق التحرر الوجداني والانبعاث نحو الخير المطلق.
الكاتب يركز على نقطة جوهرية، مفادها، إن فهم الدين ينبغي أن يكون من داخل الدين نفسه، وليس على ضوء معايير أخرى، أي قراءة الدين يجب أن تكون (جوّانية) وليست (برانيّة)، ففي هذه الطريقة نستطيع أن نظفر بالمعاني السامية للدين، ويمكن أن نستلهمه في حياتنا باتجاه تحرير الإنسان، حتى إذا كان هناك تصادم بين الدين ومبدأ عدم التناقض، باعتبار إن هذا المبدا هو ركيزة الفكر الانساني أساسا، وبدونه لا تقوم معرفة على الاطلاق كما يذهب المنطق االا رسطي والكثير من مدارس الفكر.
يقرر الكاتب من البداية (أن الدين حاجة إنسانية، وإن التدين أواليّة سيكولوجية من أشد الإواليّات قابلية للتكيّف، وهي المفتاح إلى إقناع الناس بعامة عندنا، إن للآية الدينية مفعول السحر الخارق في أقناع الناس بوجوب اتخاذ موقف ما دون الآخر ...) ص 18.
يقوم الدين على الإيمان، وهي قضية دينية في الاساس، والايمان قوام التدين والإلحاد على حد سواء، ذلك إن (الايمان تصديق بمقولة معينة مع غياب البرهان) ص 25. وعليه لا نستبعد أن يسمي بعضهم الماركسية الملحدة مثلا دينا، لأنها تقوم على مشروع إيماني واضح، تحاول الماركسية أن تجعله طريقا للهدى، الهدى الخاص بها بطبيعة الحال.
لقد كتب كثيرون عن الدين أو عن البعد الإنساني والاخلاقي في عالم الدين، لكن الدين (أوسع نم أن يكون قاعدة إخلاقية فقط) ص 159، وهو يقول ذلك ليخلص إلى أن للدين علاقة جوهرية بمجالات الفنون المتوّعة، بل الدين ترك أثاره العميقة على هذه المجالات.
الكاتب يركز على النقطة الجوهرية في الدين، التي هي التسامي بالذات الإنسانية، وبذلك يقول(عندما تصبح أحكام الفضيلة الدينية قاطبة في قلب الإنسان كما يقول الصوفية تتحول نفسه إلى جوهرة مقدسة مشعة، وعند ذلك لا يعود مهما كيف يتصرف، لأن تصرفات صاحب النيّة الخالصة المنتصرة للفضيلة هي التي تزيد في رفعة البشر وسعادتهم) ص 40.

هو... الله
ليس الله ملك أحد من البشر، وليس هو حقيقة مجرّدة لدى جميع الديانات، بل هو (واقع حي، وإرادة مبدعة، ووجود ما بعده وجود، ولا يحتاج الله تبارك وتعالى إلى برهان، لأن الذين تعبوا وجاهدوا للبرهنة على وجود عليه، كانوا ينطلقون من هواجس فلسفية لا من هواجس دينية، ففي الدين إيمان كامل بوجود الله) ص 42.
الصلة بين الله والانسان لا تحتاج إلى وسائط، و(أعتماد وجود وسيط يصل بين العابد والمعبود من شأنه، في معظم الاحيان أن يباعد بين الانسان وربه، لان الصلة بين الله والانسان تفترض منطقيا وفكرة أن تتم بشكل مباشر، لا يحتاج مطلقا إلى وسيط، وكلما إزداد عدد الوسطاء الدينين لدين من الإديان كلما إزدادت الحواجز المعيقة من الله...) ص 47.
بناء على هذا التصور يرى أن المؤسسة الدينية بمثابة جهاز ايتزاز أو هيئة جمارك، فان (المرور إلى الله يتم عادة من خلال المؤسسات الدينية، وههذ المؤسسة الدينية تلزم المتدين ماديا ومعنويا) ص 47. ومن هنا يدعو الكا تب إلى الله بدون وسائط، ويشن حملة قوية على من يجعلون الله (ذريعة لإلغاء الآخر)، فهي جريمة ما بعدها جريمة، بديل قوله تعالى (ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة).
الدين والفن

الدين والجمال / بحث فلسفي في إلغاء الطائفية السياسية
تأليف: الدكتور أنور فؤاد أبي خزام، استاذ فلسفة في الجامعة اللبنانية
طبع: دار الفارابي سنة 2005.

صاحب الفن الدين منذ بواكير التاريخ الإنساني، ولعل شاهد ذلك المعابد الدينية التي تميزّت بدقة فنية ماهرة، وانطوت على أفكار هندسية في غاية البراعة وا لجمال.
يرى المؤلف (لقد كان الدين من أ هم المحركات النظرية التي تؤدي إلى قيام الفن الجميل، لا ن قيمته الوجدانية أعظم بكثير من قيمته العقلية، فضلا عن طبيعته الرومانسية التي تجعله أقرب إلى الإنسان بكثير من القوالب الموضوعية الباردة للفكر الوضعي التي تجعله معكوسا وخاليا من العاطفة والحب) ص 55. فالكاتب إنما يركن إلى طبيعة الدين ليقرر هذه العلاقة الجدلية بين الدين والفن، والحق إن الدين يفقد الكثير من رونقه وروحانيته وشفافيته عندما يتحول إلى أقيونات سياسية ومعادلات اقتصادية، وهو الامر الذي يتسبب به الإسلام السياسي اليوم.
لكل دين رموزه واشكاله واصواته، وهذا الاحجام والاشكال والاصوات في كل هي مخزونه الحضاري الدائم المشرق، وهي لغة فنية بالدرجة الاولى.
لقد أختزنت فكرة الالوهية خاصية جمالية راقية بل قمة الجمال، جمالية لا متناهية، وبإمكاننا أن نستخلص صورة الخا لق العظيم من مايكل انجلو كشيخ وقور، ومن التجريد الخطي العربي الخالص، ففي المثال الاول نستخلص الوجود الالهي، ومن الثانية نستخلص التنزيه! ص 57 . ويبدو لي أن مثل هذا التصور يعتمد على حاسة تأويلية نافذة وحادة للغاية.
يربط المؤلف بشكل محكم بين الفن أو الجمال وبين الدين من خلال مقولة جوهرية في الدين، حيث يرى الدين أن مصدر الشر (نابعا من مكان أخر لا يقع تحت سلطان الله بل تحت سلطان إله أآخر)، وبهذا لا يمكن أن يأتي يوم يحل فيه الخير المطلق، ومن هنا سوف يبقى الانسان يجاهد من اجل الخير والجمال، وهذا من صميم الجمال كما يوحي الكاتب من خلال طرحه لهذه الفكرة.
يتحدث الكاتب عن نشوء الاشكال الفنية السامية الذوق والموضوع ليقررر نتيجة في غاية الخطورة فيقول إن (تاريخ الفنون يعلمنا أن الذي تبقى وخلد في تاريخ الفن، تشكيليا أم كان موسيقيا، كان نتيجة منطق متعال ورؤية ميتافيزية للطبيعة ومكوناتها) ص 90.
الطبيعة هي مصدر إلهام الفنان، والطبيعة جميلة، وجمال الطبيعة تحصيل حاصل، والطبيعة غائية، وكل فن مستمد في النتيجة من الطبيعة فلابد أن يحمل في داخله نزعة غائية، وبدون ذلك يضمحل ويموت، ومن هنا يسخر بقسوة من الاعمال الفنية التي توصف بالمتمردة على الطبيعة والتاريخ وقوانين الحياة، ويحسبها خدعة مؤقتة، فسرعان ما تصرع نفسها!
لا يغفل الكاتب دور التقنية الاكاديمية في صقل العمل الفني، بل يجعلها شرطا قبْليا كما هي مبادي العقل الاولى في منطق ارسطو، ولكن يشترط الحنان الى
الطبيعة واللصوق بها كي ننتج فنا حقيقيا، وهذا بدوره يؤكد دور الدين في الجمال الفني، لان الدين يمهر حكمة مقصودة في صميم الطبيعة ص 95.

قضية الموت
بعد حديث شيق عن العلاقة بين الوجود وا لمنطق، حيث يرفض الكاتب أن يكون الوجود حالة منطقية بسبب ضرورته ينتقل بنا إلى العلاقة بين الموت والجمال في سياق ا لقرار الديني أو فلسفة الدين ومواقفه ومراسيمه، فالموت في الدين أتخذ طابع من القداسة و الهيبة والرهبة والاحترام ما يفوق التصور في كثير من الاحيان، وقد اجترح الدين الاشكال والصور والتراتيل والمواقف التي من شأنها التعبير عن الموت كحالة مؤقتة وليس نهاية أزلية، ومثل هذا التفسير للموت حيث يصبح وفاة وليس نهاية وجود نلج طريق الجمال اللامحدود، فإن استمرار الحياة بعد هذه النهاية المأساوية يساوق الجمال أو هو من الجمال بشكل من الأشكال.
لقد أبدع الخيال الديني الاهرامات وتاج محل والدهاليز الممتعة لعلاقة ذلك بعقيدة الخلود، وليس من شك أن مثل الابداعات هي مُنجَز فني راق، عجزت الكثير من الاذواق الفنية على مضاهاتها ومسابقتها . لا ننسى أ ن الترا تيل الدينية وأشكال الجنائز وسياقات التواصل الاجتماعي والعزائي في قضية الموت هي أشكال تتبدى فيها الهيبة واللامنظور المختفي وراء هذه المحسوسات، ممّا يولد في النفس الإنسانية حالة من الهيبة الر وحية ا لها ئلة ذات المخزون الجمالي الوقور.
لقد تفاوت الموقف من الموت بين الفن الاسلامي والفن المسيحي، فقد اخذ الموت في الفن الا سلامي (طابعا أقل رعبا من الفن الأوربي)، وما ذلك إلا ّ لأن الفن الاسلامي عانق التجريد ومضى في دروبه اللاهوتية الرفيعة الشفافة التي تتهدد مصيرها أقل إنعطافة نحو التجسيد، فيما الفن الأوربي نحى نحوا تشخيصيا متجسد بالكلاسيكية الواقعية، مما يجعله أ كثر إيحاء في أ عطاء (مناسبة للموت) ص 123.
لقد حلّق الفنانون المتدينون أفاقا رحبة من الإ نجاز الفني استيحاء من الموت كنهاية مؤقتة، ربطهم با لخلود، فكان ذلك جمالا بحد ذاته، وا لخلود يوحي وينشي ويؤثر، بل ويخلق في الذا ت قدرة هائلةعلى الإبداع.
يرفض الكاتب ضمنا إعتبار بعض مظاهر العزاء الديني مظاهر منفرة للذوق أو سلبية، بل يعدها من جماليات الإبداع البشري، ويدرجها في قائمة جماليات الفن، فليس كل جميل فني ينطوي على حالة مؤنسة ومفرحة بطبيعة الحال، وإلا كيف نفسر مثلا لوحات الفنانين التي تكشف عن بشائع الحرب والاقتتال والتخلف والظلم و الاضطهاد؟
وفي ختام فصل يتحدث فيه عن (الكهنوت) يقول (وعلى اية حال، نحن نجد أن الفنانين اغدقوا التصاميم الجمالية الرفيعة على كل شيئ يختص بالدين، بدءا بالملابس إلى الأ دوات، إلى الآلات الموسيقية، إلى الصروح والمباني الدينية والهياكل، وإلى المقابر، فكل شي ديني أو تصرف ديني أو سلوك ديني له حصّته من الجمال الفني) ص 133.

حق الإلحاد في الحضور
رغم نفور الكاتب من الالحاد باعتباره كما يرى حالة عدمية، ولكنّه يقر بحق بالحضور بل يرى الكاتب إن ذلك من ضرورات الدين! أو بتعبير أدق من ضرورات الحفاظ على الدين كقوة حية ايجابية موحية مؤثرة (بل يجب أن يفسح المجال للالحاد بإعطائه حق الترويج لأفكاره ومعتقداته أيضا، لأن الوسيط الديني لا يسلم بترك الدين للافراد من تلقاء نفسه، لأن ملك متوّج مطلق الصلاحيات، بأعتبار نفسه، بل يحتاج الأمر الى تهديد معرفي يمكن للمؤمنين من رؤية وتمييز الدين من أكثر من جانب، وهذا لا يتم إلاّ بحضور الفلسفة كما لاحظ فلاسفة العرب الأقدمين، وعلى ر أسهم أبو العلاء المعري وابن رشد وا لفارابي) ص 143. ولكن لا أدري صراحة لماذا لا ينطلق الكاتب في تقريره هذا من إقرار حرية الفكر، فإنها أولى في إمضاء هذا الحق؟

والخاتمة
بعد أن يمر على إشكالية بعض التحريمات الدينية مما له صلة بعالم الجماليات، يعرج بحديث عميق عن علاقة الفلسفة الاسلامية با لجمال، خاصة في فلسفة ابن سينا وهو يتحدث عن واهب الصور، مما يعرف عندهم بالعقل العاشر، ويتناول مسالة ا لدمى في الفقه الاسلامي، ويفند بشكل طيب كل المواقف السلبية لبعض الفقهاء لهذه المنتجات الفنية، ينتقل إ لى تشخيص بعض عبقريات الفنانين المسلمين بقوله (تبقى الحاجة إلى ذكر العبقرية الخلاقة التي تمتع بها الفنانون العظام، والمواهب الشخصية الفنية والحساسية المفرطة، فهي التي قادتهم إلى الابداع داخل الاطر التشريعية والدينية الملزمة، وخلق الاشكال والالوان والتوزيعات الجديدة الكلية والأصلية التي لم يسبق لها مثيل، أو هي التي أقتضت منهم كسرا كا ملا لجمالية محكاكاة الطبيعة... تلك الفكرة التي أنكب عليها الغربيون ومارسوها إلى أ قصى حدودها بداية مع عصر النهضة، ثم تخلوا عنها نتيجة للفهم الجمالي الجديد في عا لمنا المعاصر) ص 156.
يقول في النهاية (الدين والجمال.. وجهان لعملة و احدة، وفي جوهرهما يكمن السبيل إلى السعادة المرجوة في عالم المستقبل الاتي) ص 159.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية