الضمير والقانون (2)

الضمير والقانون(1)

جاء فى مدونة جستنيان ( 530م ) ndash; التى نقلها إلى اللغة العربية عبد العزيز فهمى ( باشا ) : ( لكى ما تـُحكم الدولة حكما صالحا فى وقت السلم وفى وقت الحرب فإنه لا يجد بدا من الاعتماد على أمرين : الأسلحة والقوانين. بالأسلحة يستمر قهر كل عدو من الخارج يقصد الدولة بسوء، وبالقوانين يُقطع دابر المظالم التى يبّيتها بعض الأهالى لبعض. وبهذا يكون ( جستنيان ) جديرا باللقبين معا، لقب نصير العدل، ولقب المظفـّر المنصور.
والعدالة، بالمعنى الذى يفهمه القانون، هو توازن بين الحقوق تـُحمل النفس عليه وتقوم به دوما. فهى توازن بين الحقوق وليست توازنا بين النفوس. وهى أمر تـُحمل النفس عليه، بالترهيب والترغيب، وليست منهاجا تسير عليه النفوس. وهى تقتضى استمرار التزامها، لأنها لا تصْدر عن تلقائية طبيعية ولا عفوية بصيرة وهذا المفهوم للعدالة ndash; التى تركن إلى النصوص لا إلى النفوس ndash; هو المفهوم الذى تقوم عليه عدالة القوانين طوال التاريخ، وحتى وقتنا الحاضر. هذه العدالة قاصرة غير شاملة، جزئية غير عامة، محددة غير منتشرة. فهى تتعلق بالحقوق القانونية الظاهرة، وتتناول ما يجوز للقانون أن يتناوله، فلا تشمل ما وراء الظاهر وما خلف النص، ولا يمكن أن تنظم الدوافع أو تسيطر على البواعث أو تصوغ النوايا. وهى بذلك لا تعمل، ولا يمكن أن تعمل. على إنماء ( أو تنمية ) الذات من الداخل، وإنما تقف عند اكراه الشخص بالترهيب أو إغرائه بالترغيب. إنها عدالة تضع الحدود بين الناس، لكن لا تـُوجد الحالة الروحية والوجدانية والعقلية التى تتلاحم فيها النفوس وتتوافق فيها المشاعر وتتكامل بها الضمائر. فهى بذلك عدالة سلبية، حدودها المنع من الخطأ وليست عدالة ايجابية قوامها الدفع إلى الصواب. لكل ذلك انفصل المبدأ الأخلاقى عن العدالة، فأصبحت العدالة قواعد تـُكرّر ونصوصا تـُقرر، وهى تستهدف تطويع المجتمع لسلامة الحكم أساسا، مما يُبعد القانون عن أى فكرة أخلاقية.
انتقل المبدأ الأخلاقى من ثم إلى أفكار الفلاسفة وآراء المفكرين وأحلام الجماهير. بل وجاء فى مدونة جستنيان ما يعزّزه، فقد ورد فيها ndash; مما يدخل فى الجانب الأخلاقى :-
-كل امرء وعمله.
-لا يحسب أحد أن له إتيان ما يخل بالواجب أو ينافى مقتضى العقل أو يزرى بفضيلة الحياء، وبالجملة اتيان أى فعل تأباه مكارم الأخلاق.
-لا شىء أجدر بكرامة العقل الانسانى من حفظ العهود.
-أولى الواجبات كف الأذى عن الناس.
-لا ضرر ولا ضرار.
-الناس سواء أمام القوانين.
-ليس للنساء ولاية الأعمال العامة.
-خطأ الأخ لا يلحق أخاه.
-كل عُرف قديم شرع مُطاع.
-أيها الحد المقدس!؟ ما أحرانا بالتغنى بفضلك! لولاك لكان كل عقل مثارا للنزاع والخصام.
-من لم يأخذ فقد أعْطـَى.
-اكثروا من اصطناع المعروف وأقلـّوا من الأحقاد.
-مهمتنا غرس أصول الخير والعدالة، والتمييز بين الحق والباطل، والمباح والمحظور.
وهكذا، تضمنت المدونة إلى جانب النصوص القانونية مبادىء أخلاقية، ثم انتهت إلى ما يفيد ضرورة التربية الصحية والتنمية البشرية حتى تغرس فى النفوس أصول الخير والعدالة، والتمييز بين الحق والباطل، والمباح والمحظور. وهذا مما لا يكون إلا بحكم الضمائر وسيادة القلوب النقية والسليمة.
فى معنى غلبة الضمير والقلب على القانون قال شيشرون ( 106 ndash; 43 ق.م ) إن الناس جميعا اخوة، وخليق بنا أن نـُعدّ العالم كله مدينة مشتركة، وأسمى المبادىء الخلقية هى الولاء لهذا الكل، ولأن يكون الحافز له هو الضمير. وكان رأى أغسطس القيصر الرومانى ( 30 ق.م ndash; 4م ) هو رأى هوراس شاعر اللاتينية الكبير ndash; من أن القوانين عبث لا طائل وراءه إذا لم تتغير القلوب. وقال ماركوس أورليوس ( الأمراطور من 160 ndash; 180 م ) : علينا أن نحاول أن نستشف ما وراء جسم العالم من تماثل، وأن نتعاون معه طائعين مختارين. ومتى أدرك الانسان هذه الفكرة أدرك أن العدل هو فى كل ما يحدث، لأنه يحدث وفقا لمنهج الطبيعة. وكل شىء طبيعى جميل فى نظر من يفهم، وكل شىء يقرره العقل الكونى العام أى المنطق الكامن فى جميع الأشياء. وعلى كل جزء أن يرحب فى رضاء وابتهاج بنصيبه المتواضع وبمصيره. والاتزان هو أن يقبل الانسان مختارا كل ما تحدده طبيعة المجموع كله. ثم يضيف : الناس كلهم إخوة، أخيارا كانوا أم أشرار، وكلهم أبناء الله ينتسبون إليه. وأنا ( الامبراطور ) تكون روما وطنى، وبوصفى إنسانا يكون وطنى هو العالم كله.
وهكذا، وعلى الرغم من رقىّ الفنّ القانونى فى الامبراطورية الرومانية، فإن البعض، منهم أباطرة، أدركوا أن لا قيمة للقانون ما لم يقم على قلوب سليمة وضمائر مستقيمة.
عندما وصل نابليون بونابرت إلى السلطة فى فرنسا طلب من مشرّعيه وضع ما أصبح يسمى بقانون نابليون ( Code napoleon )، فلجأوا إلى القانون الرومانى ونهلوا منه ما يعْنيهم من قواعده، ثم أضافوا إليها كل ما أُدخل عليها من تعديلات بعد ذلك، وقنـّنوها فيما بات يُعرف بقانون نابليون.
وعندما أرادت مصر تحديث القضاء الوطنى، وامتنع رجال الفقه الاسلامى، عن تقنين الفقه ( والذى اختلط بلفظ الشريعة ) حتى يبقى حكرا عليهم ولا يعرفه المدنيون من المواطنين، لجأ المشرع المصرى عام 1883م إلى ترجمة مجموعة نابليون، واعتبرها قانونا نافذا فى مصر. ولما ألغيت الامتيازات الاجنبية بمقتضى معاهدة مونترو عام 1937م، عادت سلطة قانون العقوبات ( الجزاءات ) إلى الشعب المصرى، فصار يُطبـَّق على جميع المقيمين على أرض مصر، من مواطنين أو أجانب. ثم الغيت المحاكم المختلطة تماما فى 15 أكتوبر 1949م، وأصبح القانون المدنى المصرى يطبق على الجميع.
وفى القانون المدنى الجديد، والنافذ حالا ( حاليا ) تنص المادة الأولى على أنه ( إذا لم يوجد نص تشريعى يمكن تطبيقه حكم القاضى بمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادىء الشريعة الاسلامية، فإذا لم توجد فبمقتضى القانون الطبيعى وقواعد العدالة ). ومن هذا النص يظهر أمران بجلاء ووضوح (1) أن المشرع عبّر عن مبادىء الضمير بما سمّاه القانون الطبيعى وقواعد العدالة، تماما كما جرى القانون الرومانى على استعمال تعبير القانون الطبيعى بنفس المعنى، وباعتباره يجانب القانون الموضوع. (2) أن مبادىء الشريعة الاسلامية جاءت كمصدر ثالث فى التعامل.
وقد ورد فى الأعمال التحضيرية للقانون المدنى تعليقا على تعبير quot; مبادى الشريعة الاسلامية quot; أنه القواعد المشتركة بين قواعد الفقه الاسلامى. وجاء فى كتاب الدكتور السنهورى، الوسيط فى شرح القانون المدنى (... كل من الفقيه والقاضى أصبح الآن مطالباً أن يستكمل أحكام القانون المدنى، فيما لم يرد فيه نص ولم يقطع فيه عرف، بالرجوع إلى الفقه الاسلامى ) صفحة 46.
وعندما وُضـع دستور 1971م النافذ حالا ( حاليا ) بعد ادخال تعديلات كثيرة عليه، نصّت المادة الثانية منه على أن ( مبادىء الشريعة الاسلامية مصدر رئيسى للتشريع ) ثم عُدّل النص عام 1981م لظروف سياسية لتصبح المادة (مبادىء الشريعة الاسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع ) وإذ كانَ الدستور المذكور بلا مذكرة إيضاحية تبين المقصود من تعبير quot;مبادىء الشريعة الاسلاميةquot; فقد تعين الرجوع إلى القانون المدنى الذى أخذ الدستور هذا التعبير منه. وفى هذا القانون يظهر بسفور من مجموعة الأعمال التحضيرية ومن كتاب الدكتور السنهورى ( مقرر الحكومة فى وضع هذا القانون ) أن المعنىّ بالتعبير هو الفقه، وبتحديد أدق ( المبادىء المشتركة بين مذاهب الفقه المختلفة ).
نص كهذا لا يحوّل دولة مدنية إلى دولة كهنوتية، ذلك لأنه جاء أصلا فى بيان مصادر القانون، ولأن تعبير ( مبادىء الشريعة الاسلامية ) ورد فى القانون المدنى كمصدر ثالث للأحكام، فكيف يصبح نصا هذا شأنه وتاريخه ووضعه، أساسا لتغيير نظام الدولة لتتحول إلى دولة كهنوتية؟ وما هو الأساس الذى يتعلق به من يحوّل معنى النص ndash; كمن يحول مجرى النهر ndash; إلى مفهوم مغاير ومخالف تماما، فيجعل من الفقه، المتعددة آراؤه والمختلفة اتجاهاته، لفظا يفيد الشريعة ويعنى الاسلام.
إن نظام الحكم فى مصر، وفى كل البلاد العربية عدا القليل منها، نظام مدنى يقوم على المساواة بين المواطنين جميعا، بغير تفرقة على أساس العقيدة أو الجنس أو اللغة أو اللون أو أى شىء آخر، فالكل مواطنون، وهم أمام القانون والدستور سواء، ولا يمكن أن يتغير كل ذلك بتحريف لفظ أو برفع شعار أو بادعاء ما لا ينبغى أن يكون، من قسمة المصريين إلى مسلمين واسلاميين وأقباط.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية