شهدت العقود الماضية منذ ثورة أكتوبر البلشفية سلسلة من الثورات التي قادتها أحزاب وتنظيمات ذات أيديولوجيات مغلقة تدعي احتكار الحقيقة، وترفض الآخر. كانت قيادات هذه الثورات ما بين حملة أيديولوجية قومية، أو ماركسية ستالينية، أو أيديولوجية الإسلام السياسي.
إن القيادات المؤدلجة في العصر الحديث تستخدم، وكقاعدة عامة، سبيل العنف المسلح لتحقيق الثورة، سواء كان انتفاضة شعبية مسلحة، أو حرب أنصار، أو استخدام الجيش للانقلاب الثوري، أو باستخدام مجموع هذه الأشكال من النضال المسلح، ولعل الاستثناء ثورة خميني الإسلامية المذهبية، التي لم تؤسس بعد نجاحها غير دولة القهر، وحكم الفقيه الأعلى. ونظرا لهذه الحقيقة، أي اللجوء للسلاح، فلابد من وقفة سريعة عند مخاطر نجاح العمل المسلح في تغيير النظام الاجتماعي ndash; الاقتصادي، والسياسي، وعواقبه البعيدة الأمد.
إن الحديث هنا مقتصر على الثورات الحديثة لإسقاط الأنظمة المحلية، كما لا نعالج هنا المقاومة المسلحة لغزو أجنبي، ولا حروب التحرير الخارجية التي تنقذ الشعوب من الأنظمة الفاشية والدكتاتوريات الدموية، ومنها تحرير الحلفاء في الحرب الدولية الثانية للشعوب الخاضعة للغزو النازي، وأيضا حرب تحرير العراق بإسقاط نظام صدام، وتجربة فيدرالية كردستان التي أمكن قيامها بفضل الدعم الغربي القوي بعد حرب تحرير الكويت، [نقطة ضوء: نستدرك للتمييز بين تحرير أوروبا الغربية وتحرير أوروبا الشرقية، فالأولى نهضت بسرعة بفضل مشروع مارشال، وعادت للحياة الديمقراطية البرلمانية، بينما الثانية تحولت لدول شمولية لأن منقذها كان الاتحاد السوفيتي].
إن العنف المسلح، ومهما كانت شرعيته، وعدالة أهدافه، يولّد معه نزعات وهوس العنف في المجتمع والحياة السياسية، ولنا في تجربة ثورة 14 تموز مثال للتدليل.
إن ثورة 14 تموز، التي تحققت بانقلاب عسكري وطني، كانت ثورة لصالح الشعب لتحقيق التغييرات الضرورية في مجالات الحياتين الاجتماعية والاقتصادية، ومن أجل استكمال السيادة الوطنية. كانت ثورة فرضها انغلاق منافذ العمل السلمي منذ منتصف 1954، بعد حصول درجة من الانفراج والحريات في عهدي فاضل الجمالي وأرشد العمري. لقد حققت الثورة كثيرا للفلاحين والطبقات المسحوقة، وكان من حسن الحظ أن يقودها زعيم وطني مخلص، نزيه، مجرد من كل العقد الدينية، والمذهبية، والعرقية؛ زعيم يعشق شعبه، ويريد له الخير. إن تلك الثورة العظيمة فجرت منذ الأيام الأولى، ومن حيث لا يريد قائدها، موجة من نزعات العنف، والعنف المتبادل، وأشعلت صراعات دامية بين القوى السياسية، خصوصا بين القوميين واليساريين، مما أحرج عبد الكريم، وأعاق خطواته، وهو ما خلق ظروف الانقضاض على الثورة، واغتيال الزعيم بمنتهى الجبن والفظاعة، ونحن لا نزال نعاني من آثار تلك السنوات، ولاسيما تجربة انقلاب 8 شباط الفاشي، آثار هوس العنف، ورفض الاختلاف.
إننا نتساءل ألم يكن الأصلح للعراق وشعبه لو أمكن ممارسة أشكال النضال السلمي والإصلاحي لكي يبني العراق تدريجيا نظاما ديمقراطيا وتعدديا راسخا في نهاية المطاف؟ إلا أن الظروف والأوضاع فرضت شيئا آخر مع الأسف. لم يكن زعيم الثورة مؤدلجا، بل كان ذا ولاء متناه للعراق وشعبه ورمزا للتسامح، ونحن نؤكد على هذه الحقيقة لنقول إن ثورة تموز تتميز عن الانقلابين المصري والليبي، اللذين كانا يحملان الأيديولوجية القومية، التي تريد تحقيق الوحدة العربية بأي ثمن، و قد أقاما حكم الفرد، والتنظيم الواحد، المشابه للنظام التوتوليتاري.
لقد نجحت في عصرنا ثورات مسلحة عديدة لا أعتقد أن بينها ثورة بنت دولة ديمقراطية منفتحة على خارجها.
إن الثورة البلشفية لعام 1917 انتهت بديكتاتورية ستالين الشمولية الدموية، ونظام الحزب الواحد، والقائد الفرد؛ ثورة راح ضحاياها ملايين من السوفيت، لاسيما بين المزارعين، وأكلت تدريجيا حتى زعماءها في محاكمات صورية، وباعترافات مفروضة تحت الضغط والتعذيب.
الثورة الصينية جاءت أيضا بعبادة الفرد، وحكم الحزب الواحد، وراحت، وخاصة في منتصف الستينات، وباسم الثورة الثقافية، تلتهم عددا من كبار قادة الحزب، والمئات من المثقفين، والأساتذة، والفنانين، الذين كانوا يعاملون على أيدي الحرس الماوي من الشباب النزق بصنوف بشعة من الإذلال، كالزحف كالكلاب تحت أقواس، وأمام جماهير متحمسة كثيرة العدد، وقد روى بعض ضحايا السجون عهد ذاك كيف أن المرضى أيضا كانوا يحرمون من المعالجة الطبية، والمصابون بالسل يتركون للموت البطيء ما لم يوقعوا على صكوك الولاء المطلق، وعلى اعترافات مزورة بكونهم من أعداء الثورة، وعملاء للأجنبي.
في كمبوديا، بعد استيلاء 'الخمير الحمر' على العاصمة، قتلوا مليونين من السكان، ونشروا الرعب، وحاربوا الدين، والثقافة، وضيقوا على النساء؛ أما كاسترو، فلم يقم غير نظام الحزب الواحد والقائد الواحد، وانتهت أوضاع كوبا إلى موجات من الهجرة بعد انتشار الفقرن وفقدان الحرية.
إن ثورة خميني من جانبها، والتي نجحت بأساليب سلمية في الغالب، وبفضل تخلي الغرب عن الشاه، قد أقامت مهرجانات الإعدام، وضربت من ساندوها، وانقضت على الشعب الكردي، وورثت في الوقت نفسه كل الميراث التوسعي الشاهنشاهي؛ وحدث ذلك أيضا في أفغانستان بعد انتصار الطالبان، وفي السودان بعد تسلم الإسلاميين للسلطة.
إن مثل ما حدث مع حكم الإسلام السياسي خارج العراق يحدث اليوم أمام أنظارنا في العراق، منذ هيمنة الأحزاب الدينية المذهبية على مقاليد السلطة، بالسير المتواصل نحو دولة طالبانية شيعية، سبق أن حذرنا من قيامها في مقالاتنا منذ الأسابيع الأولى بعد سقوط صدام. إن الحديث عن العراق بهذا الصدد يستوجب وقفة قادمة لنرى كيف يحارب الإسلاميون ومليشياتهم الأقليات غير المسلمة، وكيف تسيطر المليشيات على الجامعات، وكيف يعتدون على الأساتذة، ويطاردون المرأة، ويحرّمون الفنون، ألخ!؛ وبهذا الشأن نلفت النظر لمقال مثير جدا نشر في العاشر من الشهر عن أسلمة الدولة العراقية بقلم ناظم عودة، بعنوان 'دولة دينية بسراويل ديمقراطية'. إنه مقال يقدم، بالوقائع والمعلومات الميدانية، لوحة واقعية، وتفصيلية عن محنة الثقافة والتعليم في العراق بعد أن سيطرت الأحزاب الشيعية على مقاليد السلطة.
إن العمل السلمي والإصلاحي هو أصعب من الثورة لأنه يتطلب النفس الطويل، والصبر، واستثمار كل الفرص، والإمكانيات، وإقامة التحالفات الضرورية، والتنازلات المتبادلة، للانتقال تدريجيا، وعلى مراحل، إلى نظام ديمقراطي، برلماني، تعددي. إن الدرس الروسي بهذا الشأن مفيد، فقد انفتحت أمام حزب البلاشفة الروس، بعد ثورة شباط الديمقراطية عام 1917، فرص وإمكانات هائلة للعمل السلمي، والبرلماني، لفرض قفزات إصلاحية سلمية، متصلة، لتحقيق ما لم تنجزه ثورة شباط، ولكن لينين أصر على الانتفاضة المسلحة، خلافا لرأي أكثرية اللجنة المركزية، ووضع هدفا تحقيق الاشتراكية دفعة واحدة وذلك في بلد متخلف اقتصاديا، وبشعب أكثريته أمية. صحيح إن الثورة قد حققت كثيرا من الإصلاحات الاجتماعية، وبنت صناعة حديثة متطورة، وزراعة ممكننة، وذلك بثمن موت الملايين، ولكن عوامل الانهيار ظلت كامنة حتى انهار الاتحاد السوفيتي أخيرا، وتفكك.
إن الثورة الشمولية لابد وأن تمارس العنف تجاه المعارضين، وحتى تجاه المخالفين في موقف ما بين الثوار، فيصبح ضحايا أمس جلادين، وتتشوه صفحات نضالهم المجيد بصفحات السلطة الاستبدادية التي يقيمونها، وإنني كثيرا ما أشعر بالراحة لفشل حزب القيادة المركزية في أخذ السلطة بخطته عن الكفاح المسلح المتعدد الأشكال، والتي كانت بعيدة عن تقييم صحيح للأوضاع، وموازين القوى، ومغالية جدا في تقدير الإمكانات الذاتية؛ أقول أشعر بالراحة ليقيني اليوم بأننا، لو نجحنا، لكنا سنقيم حكم الاستبداد الشمولي تحت شعار 'لا حرية لأعداء الشعب'.
ثمة حقيقة أخرى، هي أنه عندما تقود حركات الكفاح المسلح تنظيمات متطرفة، فإن معظم المعليات المسلحة تنزلق للإرهاب، الذي يذهب المدنيون ضحاياها، ولعل من هذا الصنف اليوم أكثر عمليات حزب العمال الكردستاني التركي، الذي يحمل أيديولوجية هي مزيج من التطرف القومي، والتطرف اليساري.
لقد عبرت عن هذه القناعات في العديد من مؤلفاتي ومقالاتي، وأذكر مقالا كتبته عام 1997 في صحيفة الحياة اللبنانية، [الأول من نوفمبر 1997]، بمناسبة ذكرى البطل والرمز الشهيد تشي غيفارا. لقد مجدت نضاله البطولي وتضحياته، وفي الوقت نفسه كتبت:
'إن ثورات العصر المؤدلجة [يسارا] تظل تحفز الخيال، وتستثير الإعجاب ما دامت في موقع المعارضة، والنضال، وإن من يتساقطون في الطريق يعتبرون أبطالا وشهداء، ولا يذكر الناس إلا ذلك الجانب وحسب، فلا تثيرهم، [لو عرفوا]، التفاصيل الصغيرة عما يجري في دهاليز العمل السري من تصرفات قد يشبه بعضها تصرفات الحاكم المستبد، الذي يتصدى الثائرون لإسقاطه. إن التشكيك، والتخوين، والتخويف، وقطع الأرزاق، والمراقبة الجاسوسية، والتزلف، والتصيد، هي من بين ظواهر سلبية أفرزتها كثرة من الحركات 'الثورية' المؤدلجة. لذلك فإذا نجح الثائرون في أخذ السلطة، فإن تلك الظواهر تتخذ لها مسارب وأشكالا أكثر حدة، وسعة، وجموحا، ليصبح الصراع على السلطة، والتشبث بها، والمزايدة الشعبوية، تيارا لا يؤدي فقط إلى الاستبداد ' الثوري' في التعامل مع القوى السياسية الأخرى، وحريات الشعب، وإنما أيضا إلى تصفية القادة الثائرين بعضهم بعضا'. في نهاية المقال كتبت:
'لا أدري لماذا أشعر أن وفاة تشي غيفارا المأساوية كانت أفضل له على أي حال، وأن من حسن حظه أن ثورته لم تنتصر. من يدري!''

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية