... عبر إذاعة صوت لبنان كان التصريح الحصري والأخير الذي تسلّمته quot; وردة الزاملquot; للراحل غازي كنعان، ومن خلال شاشة الجزيرة كان السبق الصحفي في نقل الخبر العاجل عن وكالة quot;سانا quot; مفاده أنّ:// وزير الداخلية السورية قضى منتحرا برصاصة في الحلق داخل مكتبه//، في تلك الأثناء شاشة الquot;نيو تي في quot; قدّمت العرض الموثّق للنشرة الإخبارية بتقرير مفصّل عن دور الراحل في تأسيس الجهاز الأمني في لبنان لعقدين متتالين من الزمن والاختلاسات، منير الحافي استعرض الخبر بدوره شارحا ومستفسرا تكهنات الحدث مع مراسل تلفزيون المستقبل من دمشق، شاشة العربية أيضا سارعت بتغطية الخبر ومناقشته مع بعض المحللين والمراسلين، وامتد تقاذف النبأ العاجل بيوم ماراتوني طويل من شاشة إلى أخرى وصولا إلى quot;مارسيل غانم quot; وضيفيه في الاستوديو السيد إيلي الفرزلي الذي قدّم وجهات نظره عن الراحل دون مواربة أو تحييد لتاريخ من اللقاءات والمُشاورات والمصالح، رافقتها تعليقات أقلّ حدّة من المُعتاد مع الدكتور فارس اسعيد الذي غاب مؤخرا عن الضوء، بالوقت نفسه الإعلامي quot;علي حماده quot; بهدوئه واتّزانه تجاذب كل الاحتمالات مع ضيفه جورج ناصيف الذي قدّم قراءة معمّقة من زوايا مختلفة ومسؤولة. وبين هذا وذاك كانت بعض أصوات الناطقين المحللين والمُنظرين الرسميين من سوريا تُساهم في تعزيز إطالة الجدل مع القنوات المذكورة التي أخذت على عاتقها ساعتئذٍ مهمّة تداول الخبر وتعميمه وقولبته بتكريس كل ما يُمكن أن يترتّب عليه من هوامش وخطوط عريضة وعناوين لافتة ودلالات بدأت مع quot;غسان بن جدوquot; الحاضر دائما لمواكبة أيّ طارىء وأيّ جديد، لا زلت أذكر جيدا الدوامة الشرسة التي عصفت بالمُشاهد السوري تحديدا، و ما ترتّب عن هذه الدوامة من ذهول وأسف وخجل ونقمة وغضب واحتقان وخرس تجاه ما يُرتكب من تجاوزات وأخطاء وفساد وتلاعب وتداعيات مشؤومة صارت من أولويات الرصد لدى النخب الثقافية والإعلام المجتهد.

... خبر عاجل آخر سطّرته قناة الجزيرة: تحليق إسرائيلي يخترق الأجواء السورية حتى عمق العاصمة وصولا إلى منطقة quot;التلّ quot; وإسقاط بعض القذائف على منطقة مدنية مأهولة بالسكان، الذعر كان أكبر من الصدمة، والصدمة أكبر من التصديق، والخبر تمّ إخماده بتصريح موجز ومقتضب ومبهم للغاية: quot; نحن نعرف متى نرد..... quot;، عممته كافة محطات التلفزة واكتفت الفضائية السورية بتجاهل كافة إشارات الاستفهام والتعجب بمواصلة برامجها كالمعتاد.

...الحديث الإعلامي الطويل يدور مؤخرا عن استعداد إسرائيلي وتدعيم مواقع حول مرتفعات الجولان في كلا الجهتين، والمواطن السوري آخر من يعلم من إعلامه شيئا، إذ تكتفي الشاشة السورية الصغيرة بفتح نطاقها الحيوي إلى كافة الأصوات اللبنانية الباهتة الباحثة عن أي بصيص إعلامي يُذكر، نظير تشدّق المحللين السياسيين السوريين عبر الشاشات الأخرى.
...ليلة استشهاد رئيس الحكومة اللبنانية المغفور له quot; رفيق الحريري quot; كانت أصالة نصري في بثّ حيّ ومباشر على الفضائية السورية وجمهور كبير غارق في نشوة الصوت واللامبالاة.
...أثناء حرب تموز على لبنان الصيف المنصرم وضمن الأوقات النادرة التي كنا نحظى بها بقليل من الكهرباء والأخبار المتفرقة نتعقّبها بما تبقى لدينا من أعصاب بين غارة شرسة وغارة أشرس كان يستفزني البث الحيادي على الفضائية السورية، ولدى كل اتصال يردني من أنحاء سورية والدول المجاورة من أصدقاء ومثقفين كنت أتلو عليهم خطاباتٍ ضارية توضّح غضبتي جملةً وتفصيلا بضرورة إيصال الصوت إلى المعنيين، مما يضطّرهم إلى إنهاء المكالمة على عجل خوفا من فداحة التنصت والحبر الأسود المعتمد في كتابة التقارير.
أحداث كثيرة كالمرصودة أعلاه تتسارع في تاريخ البلدين اللبناني والسوري وصولا إلى كافة المستجدات التي تداهمنا بما يفوق القدرة على الاستيعاب وأسئلة كثيرة تتراكم وفي مقدمها: أين هو دور الإعلام السوري الفعلي في خضمّ التحديات الموجعة؟
متى سيخرج الإعلام السوري من غيبوبته وغيابه المستفحل؟
لماذا وزارة الإعلام والمُتعاقبين على التوزير؟
لماذا طواقم التوظيف المُتفاقمة ضمن تراتُبيّة بيروقراطيّة تكبّد خزينة المال العام المهدور أصلا مبالغ طائلة تحت بنود خفيّة، ونفقات جانبيّة، وحوافز متعاقبة، ورواتب مستحقّة، وميزانيّة ضخمة وعالية الكلفة لجهاز تلفزيوني وحيد ينوب عن 18 مليون مواطن سوري لم نسمع على لسان واحد منهم يوما شكوى تذكر، و3 ملايين وافد عراقي تنعدم الصورة تماما من مشاهد أوضاعهم المأساوية، جهاز بهذا الحجم لم ترتقِ فاعليته يوما لتقديم خبر بوزنه الفعلي إلى المُشاهد العربي عموما، والسوري خصوصا في غمرة ازدحام المعلقين، وعجقة المحللين، وضجيج الصدى الصاعق، عبر فضائيات عديدة، وكأنّ التلفزيون السوري لم يكن يوما معنيّا بشيء، حتى بدت شاشته بمنتهى السذاجة وهي تحرص على متابعة برامج الأطفال في كل حدث يجتاح سورية أو توأمها اللدود لبنان، وكان آخرها ضرب المواقع العسكرية في الشمال السوري باختراق إسرائيلي وليس من السهل دائما المراهنة على قطع البثّ الخلّبي، لظهور أيّ إعلامي مخضرم لديه الحدّ الأدنى من الحنكة والمهنيّة الإعلاميّة لتناول الحدث، طازجا، ساخنا، حيّا، دون تأجيل ومماطلة ولفلفة وفبركة ممجوجة ببثّ مباشر ومفصّل على غرار الإعلام الحديث.
وإذا لم تكن مهمة البثّ المرئي السوري توضيح الحدث الطارىء وملابساته، فليكن على الأقل من باب التشويش، وقطع شهوة quot;التشهير quot; التي تتفاقم عبر القنوات الأخرى.
المُثير للجدل أنه في حال كانت السياسة السورية الحكيمة والمتحكمة تقتضي ضرورة التكتّم وعدم الإثارة ولفلفة الأحداث حسب العادة، تفاديا لأقل صدى ممكن، فلماذا تمّ تسريب خبر الانتحار وقتها إلى وكالة سانا تحديدا، ولماذا إلى قنوات فضائية أخرى؟ ولماذا يتزايد بين حدث وآخر عدد الناطقين الرسميين السوريين المُتقافزين من شاشة إلى شاشة؟ تُمّ هل ثمّة قطيعة بين التلفزيون السوري ووكالة الأنباء سانا؟، إذ أنه كيف يُمكن القفز من دائرة حكوميّة عن دائرة حكومية بتلك البساطة حينها؟.
أذكر أنّ مجمل التصريحات الرسمية السورية قد أقرّت بالضرر النفسي الفادح الذي لحق بالراحل كنعان من جرّاء الإعلام اللبناني quot;تحديدا quot; الذي قدح وذمّ وشهّر ولم يكن أول أو آخر مسؤول رسمي رفيع المستوى بقدر اللواء كنعان الذي طاله الأذى المعنوي وقاده إلى أسوأ الخيارات، ومن يعلم إلى أين سيقود غيره وإلى أيّ المصائر المجهولة؟!!
فلماذا لم يفتح التلفزيون السوري دائرة الضوء إلى أقصاها ليصبح مجالا حيويّا دائما ومستمرّا للدفاع عن النفس والشخص والكرامة والمواقف والوطن بموضوعية ومنطق بعيدين عن الرد الغوغائي الدارج؟ نظير اهتمامه البالغ في كل ما يتعلق في الشأن اللبناني؟؟؟
وجميعنا على ثقة أنّ لفتة من هذا النوع ستكون مدعاة لجذب المُشاهد من كلّ حدب وصوب، هل يُدرك الإعلام السوري هنا حقّا أيةّ حكمة يعتمد؟
وهل حقّا الشارع السوري على هذا القدر من اللامُبالاة، وعدم الاكتراث، والتبلّد، وquot;التطنيشquot; السافر، مع أنه أثبت بجدارة ما إن يُقال له هُبّ حتى يهبّ على الفور دون قيد أو شرط؟
هل حقّا ينتظر المُشاهد السوري من شاشته الصغيرة الرسميّة الوحيدة هذه الوفرة من التحايُلات والالتفافات على الحقائق ببرامج بديلة عامرة بالأفراح والبدع المُفتعلة؟! أو الإسراف الممل في تحليل ونقاش واستعراض الشأن اللبناني الداخلي على مدار البثّ والساعة، حتى ليُظنّ أن التلفزيون السوري تحوّل إلى محطة لبنانية بامتياز لوفرة المتحدثين اللبنانيين على الشاشة السورية!
وآخر ما يُمكن أن يتبادر إلى الذهن تُرى هل يتعمّد الإعلام السوري خسارة مُشاهديه؟
هل يحثّهم إلى قنوات فضائيّة أكثر نضجا وحضورا وحياديّة وموضوعية ومواكبة؟
هل يتقصّد إفهام العالم والرأي العام أنّ المُواطن السوري لم يبلغ بعد سنّ الرشد لحمل مسؤولية الحدث والتفاعل معه؟
هل يقتصر بثّ التلفزيون السوري على فئة عمريّة معينة؟
هل يرمي إلى quot;تحجيم quot; كافة أعمار مشاهديه؟
أيّا تكن الاحتمالات، فالإعلام السوري وشاشته التي تنوب عن كامل الغموض لما يجري في الكواليس والأروقة والغرف والتقارير والحراك المُعارض، هو أوّل المُطالبين بالإصلاح والتغيير والجدوى؟.
ولا بدّ أن تمحى من عُرفه وقواميسه مفاهيم الطمأنينة التي خبرناها جيدا مع وزير الإعلام العراقي quot;محمّد الصحّاف quot; حين كان يبثّها عبر التلفزيون quot;البعثي quot;الوقور، ويحذّر quot;العلوج quot; من سوء المصير الذي تربّص فقط بالنصب العملاق، ليرتفع فوقه العلم الأمريكي ونعال العراقيين!
نجّانا الله من طمأنينة الإعلام الساكن والساكت والحريص والمتغافل عن دوره وحضوره، والنائب بقوّة لدعم دور وحضور الأصوات اللبنانية المتعالية.
رحل من رحل إذن.. وغاب من غاب لتظلّ الحقيقة في ذمّة الجميع، وحدها الشاشة السورية الصغيرة دخلت اللعبة الصعبة لتتصدّر بامتياز التراشق الإعلامي والمهاترات الدرامية المملّة جدّا جدّا جدّا.

www.geocities.com/ghada_samman
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية