عادة ً، لا تنفصل سيرة العقيدة، في مراحل تطوّرها، عن سيرة التاريخ نفسه، بما فيه من أحداث وأخبار، ومواضع ضعف وقوّة. وفي إحالة سيرة العقائد على معطياتها التاريخيّة، الاجتماعيّة منها، والسياسيّة والمعرفيّة، حاولنا تلمّس نقاط القطع في منحنى النشاط العلمي والعقلي، في الفكر العربي الاسلامي، وما آلت اليه من نتائج كارثيّة، أفقدت مجتمعاتنا، منذ قرونٍ طويلةٍ، مساهمتها المحتملة الممكنة، في مسيرة الحضارة الانسانيّة. بل جعلتها خارج حركة التاريخ، وجعلت من شعوبها، مثالا ً نادرا ً، لفلكلور الشعوب الناطقة الحيّة، لا غير.
نعني أنّ ما حدث في واقع تاريخنا السالف، فيما يخصّ القضايا الإشكاليّة الكبرى، لم تكن خاضعة ً للجدل الفكري، ولم يُسمح لها بالمساحة الكافية، من النقاش والحوار والمناظرة، حتى أصبح الممنوع هو القاعدة، وأصبحت العقيدة المفرّغة، من نقاط زخمها الفكري والعلمي والتنويري، هي الهويّة التعصّبيّة الجافة، التي تميّزنا من بين المجتمعات.
وبات الخوض في التفاصيل الفرعيّة الثانويّة للعقيدة، وكأنّها هي التاريخ ذاته، وباتت مسألة تأثيم الاخرين، وتكفيرهم، الشاغل الأهم للسنّة والشيعة معا ً، وأصبحت دائرة الزندقة، أوسع بكثير ممّا كانت عليه، إمعانا ً بتأجيل نهضة العقل العربي، وإيغالا ً في القراءة الأحاديّة الرسميّة السلفيّة للتاريخ وللوقائع.
وعوضا ً عن محاولة إعادة الاعتبار، لكبار العلماء وأصحاب النظر العقلي والفلاسفة والمتصوّفة، ممّن اُبيدوا وشطبوا فكريّا ً وجسديّا ً، أصبح علماء وشيوخ اليوم، ينالون (شهاداتهم العليا) في التخصّص بأمور الطهارة والنجاسة في الاسلام، وفي المغالاة والمبالغة في الانغلاق والتكفير والتعصّب.
فالوهابيّة، التي هي من نتاج ونتائج ذلك التاريخ الأحادي مثلا ً، والمدعومة ماليّا ً ومعنويّا ً منذ نشأتها، لم تجد من مادةٍ تشغل بها المسلمين، سوى مسألة تكفير الشيعة، اضافة ً الى مهمّة تنميط التاريخ وشخوصه، بما استندت اليه من مرتكزاتٍ سلفيّةٍ، في هذا السياق، ومنه حرَّمت مناقشة أو دراسة سيرة الخلفاء، وبعض الصحابة والتابعين والرواة، وجعلتهم - اي الخلفاء، دون التركيز على رابعهم - من أركان الاسلام، في ذات الوقت الذي تشخصن به الله (الذي ليس كمثله شئ)، وتقرنه بصفات البشر! وتقول عن يزيد بن معاوية، قاتل الحسين بن علي وأهله، والذي أجمعت المصادر والوثائق، على سوء سيرته الشخصيّة والتاريخيّة، وهو من هدم الكعبة، وخرّب المدينة، تقول عنه: (رضوان الله عليه)، وكذلك عن أبيه معاوية بن أبي سفيان، مؤسّس الحكم الوراثي، والمستبدّ والقاتل الأوضح في التاريخ، تقول عنهما بأنّهما قد إجتهدا وأخطئا وحسب، أي أنّ لهما أجر من ذلك الاجتهاد على ايّة حال، وليس أجران..!

طموحات و أديان وصدامات

براءة السؤال هنا، لاتخفي المعلوم، بمقدار استهجان الاصرار عليه: فعلى أيّ المرتكزات والوثائق والأخبار التاريخيّة، أستند هؤلاء السلفيّون الجدد - وهم سليلو الذهنيّة السلفيّة الرسميّة في التاريخ -، في قيادة الذاكرة الإسلاميّة، الى أدنى مستوياتها في الخلافات الهامشيّة، وبأعلى مايمكن من العصبويّة والانعزاليّة، تحت وطأة وهم التصوّرات الضيّقة، بالرفعة والتميّز، بعد أن أزاحت من دائرة الجدل المفترض، الطروحات العلميّة الاسلاميّة، والتي كان بالامكان إعادة إثارة علامات الاستفهام التي طرحتها مسبقا ً، ويُصار الى دراسة جدواها، ومواقعها وشروطها التاريخيّة والعلميّة والاجتماعيّة، وتأسيس قاعدة مشتركة، لوجهات النظر المختلفة، تناقش القضايا الفقهيّة والكلاميّة، لتنشيط المجتمع الاسلامي، باتجاه العلميّة والموضوعيّة والبحث.
لكنّ ذلك لم يحدث حتى اليوم، وكانت وما زالت الطموحات السياسيّة على الدوام، هي التي تجعل السلطة، تجابه الفكر بالسيف وبالقمع والإبادة والتحريم. ويُغرِق فقهاء السلطة، المجتمع العربي - الاسلامي، بالمزيد من فتاوى التضليل والتأثيم والتكفير، وسرعان ما تدّعي ارتباط هذا النهج بأصول الاسلام، بينما هي في حقيقة الأمر، قد أدخلت المجتمع في موجات تاريخيّة من العتمة والسطحيّة والتخلّف، ومنعته من امتلاك هويته الاسلاميّة، العلميّة الانسانيّة المرنة المفترضة. ولأسبابٍ سياسيّةٍ ايضا ً، حوّلت هذه القوى السلفيّة، المذاهب الاسلاميّة الى أديان منفصلة، داخل الدين الواحد.
وأمعنت في إضعاف وشتات وضياع مجتمعاتنا، من أجل أن يسود مذهب الخلافة أو السلطة عبر مراحل التاريخ. ومن أجل هذه السيادة، لاسبيل سوى تأثيم وزندقة كل المذاهب والتيّارات المخالفة الاخرى، والتي كان يمكن لها ان تعمل وتنشط، في مساحة من التنوّع، والاختلاف الفكري والفقهي والثقافي. لكنّ السلطة لم تسمح بذلك، وأغرقت الأمّة في منطق التكفير والاستعداء. وأكثرت من نقاط القطع، والقمع والاستبداد والخوف في المجتمع، وحرمته من فرصة التواصل مع محيطه الانساني والحضاري العالمي. وبات التنظير لمذهب صاحب المال والقرار، عقائديّا ً وفقهيّا ً، هو الفعل التاريخي المهيمن على الاحداث، وغُيبت كلّ التيّارات والوقائع، والحركات والانتفاضات الاجتماعيّة والسياسيّة، من مراحل التاريخ السالف الذكر، وأصبحنا لانملك سوى ثقافة الممنوع والمعتم والباطل والآثم، وركام هائل من الخلافات الثانويّة، وبات هذا ما يشكّل هويتنا الاسلاميّة المعاصرة، والعمق الإنساني المضطرب لجموع المسلمين في الارض.
في هذا السياق، الطويل الأمد، أشرنا الى بعض تلك المرتكزات الوثائقيّة التاريخيّة، التي مهّدت ويسّرت لهذا الفكر الانعزالي الرسمي الوراثي، الذي سلّمه الاوّل للثاني، واستند اليه، وهكذا بتتابع الاجيال وتتاليها، وصل بنا الأمر اليوم، الى أعدادٍ ومجاميع لاتحصى من المشايخ، والمعاهد والمدارس، العامّة والخاصّة، يطلقون الفتاوى حسب الحاجة والطلب والمقاس، وبذات الآن، يتراجعون عنها وعن غيرها، متى ما أمرت سلطة الحاكم بذلك، ويسمّون أنفسهم بالعلماء، ولا يدري أحد بأيّ علمٍ ينطقون، وكيف غزوا فضاء الأثير بفضائياتهم الهزيلة، ومَن أسّس ودفع لهم، ليمعنوا في نشر مأساتنا الفكريّة، الى أبعد نقطة في بقاع الارض؟؟

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية