بات من المسلّمات أن كتابة التاريخ تتعرض لكثير من الإ رتباكات والمشاكل سواء على صعيد المنهج أو النتائج بسبب ما يحمل المؤرخ من مسبقات قد أستقرت في عالمه اللاشعوري، حيث تحولت إلى جزء من تفكيره وآليات تحليله، سواء يشعر بذلك أ م لا يشعر. فالتاريخ ليس بعيدا عن سطوة الاديولوجيا، وليس بريئا بشكل كامل كما يحلو لبعض من الكتاب الذين يصفون أنفسهم بالموضوعية. التاريخ جزء من صيرورة المؤرخ في كثير من أهدافه ومنهجيته وخلاصاته واستنتاجاته، جزء من تاريخه هو، وجزء من إنتمائه الديني والفلسفي والمذهبي والقومي والكثير من المتقربات التي ترسّخت في قاعنا النفسي، وثوت هناك تتلاعب بالكثير من أفكارنا وعملنا وتوجهاتنا ومواقفنا، وما على الكاتب المنصف سوى مجاهدة نفسه قدر المستطاع للوصول إلى نتائج هي أ قرب للموضوعية منها للذاتية.
لقد قرات الكثير من صفحات التاريخ الإ سلامي والاوربي والاغريقي وقد تلمّست بيدي مواطن كثيرة تؤكد إنحياز المؤرخ من حيث يشعر أو لا يشعر، وهذا كما قلت أمر بدهي، وتصافقت عليه قراءات تولت البحث في طبيعة المعرفة وتاريخ العلم، والسيرة النبوية هي كغيرها عندما يتناولها مؤرخون وكتّاب سير وتراجم مسلمون، لابد أن يتأثروا بمجموعة من االمسبقات التي ستترك ضلالها بشكلِ ما على سردهم وإيرادهم للخبر وصياغتهم للخبر والموقف.
لقد قرات سيرة ا بن هشام والواقدي وبن سعد وقرات مراراً الطبري / شيخ المؤرخين العرب كما يقولون / ودلائل النبوة للبيهقي وابن خلدون واليعقوبي والمسعودي وغيرهم من المؤرخين والمترجمين ومصنفي السير فشاهدت أن هناك أكثر من مسبق يتحكم بكتابتهم لهذه السيرة الطيبة.
هنا أحاول جهد إ مكاني ان اتناول بعض هذه المسبقات، غير أبه بما يشنعه علي هذا وذاك من عبدة السلف والمأثور، كما أني سأ همل اي نقد لا يفرق بين الوثيقة التاريخية و الكتاب التاريخي، ولا يميز بين الدليل المؤسِّس والدليل المعزِّز، ولا يستحي من إدراج نص ليستدل به وهو جزء من نص أكبر لم يثبت تاريخيا، ويتغافل مشكلة الاستشهاد بالشعر فيما يحمل من أخذ ورد من سجالات أصحاب المناهج بشكل عام والتاريخية منها بشكل خاص.

سابقة الصحّاح
إمضاء صحّة كل ما جاء في الصحاح الستة من المسبقات التي تحكم كتابة التاريخ وفهمه والعمل بموجبه، فإن هذا الامضاء يحرم علينا مهمة النقد، ويعاقب عليها باشد العقوبات الدينية ثم يؤدي إلى نتائج قهرية، أو نتائج أنت مرَغم عليها، أقصد بطبيعة الحال الروايات التي تاتي في سياق السيرة النبوية هنا. والغريب إن كثيرا من روايات الصحاح في هذا المجال مرتبكة الإداء ولكن رغم ذلك تؤخد مسلّمات يجب مراعاتها في تقرير أي نتيجة تاريخية تتصل بها من قريب أو بعيد. لقد استشهد عبد الله بن عمر على حرق نخل بني النضير بأية قرآنية لا تشير إلى هذا الحرق بل تشير إلى القطع، وهو الامر الذي يكشف عن عدم التطابق بين الشاهد والمشهود له، الامر الذي يدعو إلى نبذ خبر عبد الله بن عمر، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن خبر عبد بن عمر ظني لانه خبر أحاد فيما القران وثيقة تاريخية حسية تماما. ومن هذا القبيل كثير وكثير.
إن أسبقية الصحاح تجمّد البحث التاريخي، وتحكم الباحث حكما قدريا لازبا، وتغيِّب الحاسة النقدية، وتحولنا إلى مستسلمين، وتقتل فينا روح الا بداع والخلق والتشوف الفاعل إلى الحقيقة، وليس من شك إن هذا الامضاء القهري سوف يقودنا إلى التلاعب بالتاريخ وليس كتابته، التلاعب بالتاريخ عبث في صميم الكتابة، وليس كتابة. أنت مضطر إلى محاكمة ألكثير من النصوص والحوادث والوقائع على ضوء مسبق حكما بعصمته، وبالتالي، أنت مقيّد بقيود صارمة، من هنا تتأتى عمليات التكذيب القسرية والتأويلات البعيدة وخلق النظائر والمضادات كي تتوازن مسيرة التاريخ طبقا للإمضاء الاديولجي السابق. لا يعني ها إهمال الصحاح، بل يجب عدم إهمال كل خبر يتصل بالقضية التي هي محل بحث تاريخي، ولكن ينبغي أن لا نتعامل مع النصوص الباقية والحادث التاريخي بحد ذاته على ضوء مسبقات غنمت بحظ الإمضاء العقدي مما يجعلها سطوة غاشمة.

المعجزة
تحتل المعاجز مساحة كبيرة من صفحات السيرة النبوية، خاصّة في ما يسمى بالغزوات وعلى وجه أ خص الغزوات الكبرى التي كان لها دور تفصيلي ومركز وجوهري في مسيرة تاريخ المسلمين زمن النبوة الكريمة. والمعجزة حدث غير زماني، كما هو معلوم، ومن غير الصحيح إدخاله في صلب قراءتنا للتاريخ، فإن التعليل التاريخي زمني، وتزداد أهمية هذا الإبعاد فيما أخذنا ببعض المدارس التي ترى أن قراءة التاريخ للعبرة والاستفادة في صناعة المستقبل، فإن دخول المعجزة على هذا الخط يقلّص من مجال هذا الهدف أو الغاية القصوى، إذ ولّى عصر المعجزات، والان عصر السببية / بالنسبة لمن يؤمن بها / وعصر تراكم المعلومات. أن المعجزة لا تصلح مفتاحا ولا آلية لتحليل الحدث التاريخي، رغم إيماننا بها فيما أذا صحت وثبتت، ولكن الكتابة التاريخية شي والايمان الغيبي شي آخر، فإذا ما أدخلنا المعجزة في تفسير التاريخ نكون قد حجبنا إلى حد كبير إرادة التاريخ، وتدنينا بمستوى المنهج، وخرجنا عن مملكة النقد بدرجة وأخرى. إن تعليق ا لنتائج الزمنية على حدث غير زمني يخرب التاريخ، ويطرده من حومة القراءة المنطقية، فإن الإعجازي لا يخضع لقياسات المنطق ولا لقياسات البحث الزمني، فضلا عن سلبيات تتسافل بالارادة الإنسانية وتزج الزمن الأرضي بزمن سماوي، ممّا لا يساعد على اكتشاف حركة التاريخ وقوانين الزمن التاريخي. إن الموقف من المعجزات بالنسبة للمؤرخ وكاتب التاريخ هو إبعادها من مسار خلق التاريخ، وتركها للإيمان من دون أن نحولها إلى بوصلة تعيين واستنتاج وتشخيص وتلقي.
لقد ترك لنا ابن هشام وغيره الكثير من السرد التاريخي المعلّق على مسبق طاغ في الذهن، تحول الى لاحق متحكّم النتيجة ّ! المسبق هو الايمان بالمعجزة من حيث المبدأ، واللاحق هو هذا المسبق على شكل عينات مشخّصة استحقت بجدارة لاهوتية أن تتحكم بمسار العمل التاريخي!!
إننا نكتب تاريخ محمّد صلى الله عليه وسلم وليس تاريخ النبوة، نتكلم عن محمّد الشخص بل وحتى محمد النبي لكن بثوبه الارضي، أما الرداء السماوي فله مجال آخر، على أن هذا لا يمنع من تفنيد بعض المعجزاتالتي لم تقع تاريخيا، فذلك من صلب العمل التاريخي في جسد السيرة المباركة.

عدالة الصحابة
عدالة الصحابي هي الأخرى مسبق حاكم على منهج كتّاب الكثير من السيرة بل وحتى كتاب اليوم، وعدالة الصحابي تضطرنا إلى تبرير التاريخ لا إلى اكتشاف التاريخ، تقودنا إلى البحث غيبيا وليس إلى البحث واقعيا، بل ربما ساهم هذه المسبق في تغييب الكثير من الحقائق وطمس الكثير من القضايا الجوهرية في حياة النبي والصحابة وعموم الحياة في زمن النبوة. ولا أغالي أن أقول إن مبدأ عدالة الصحابي جرّدت تاريخ النبي الكريم من آلية النقد، والتفحص والتمحيص والتقليب والنظر، هناك تحريم خفي، قمع سرّي، هناك مانع مخيف، فإن عدالة الصحابي تستوجب التأويل خارج حدوده الطبيعية، وتجرنا إلى تجيير الواقع لمبادئ هي فوق الواقع، تزييف المادة المحسوسة لفائدة المادة غير المحسوسة.
التاريخ علم الماضي كما يقولون، فهل تحكيم عدالة الصحابي تؤدي إلى كشف الماضي حقا؟ وهل قاد ذلك إلى تحرير الواقعة التاريخية من سطوة الاديولجيا وزحمتها المحتشدة بكم هائل من التاويلات والمماحكاة الكلامية وربما حتى الفلسفية!
لقد تعرّضت الصناعة التاريخية لدى العرب إلى تصدع، تصدع خفي، هناك الواقع قد تلوّن بمسبق مطروح في لوح المعتقد الجازم، الجاسي على هواجسنا سواء علمنا أن لم نعلم، وعليه يمارس التاريخ هنا دورا اديولجيا، ولنجازف ونقول الاديولجيا هي الاخرى تمارس دورا تاريخيا، لا بمعنى صناعة التاريخ بل بمعنى تزييف التاريخ، تدوين تاريخ مزيّف.
لا يمكن أن ننكر أن التاريخ صناعة عربية إسلامية حقا، وعندما يقول مرغوليث للمسلمين أن يفتخروا بعلم حديثهم، إنما يعبر عن وا قع قائم لا شك فيه، وإن كان ذلك لا يكسي علم الحديث رداء الوثوقية المتعالية زمنيا، ولكن يجب أن لا ننسى أن التاريخ من صنع البشر، والبشر من لحم ودم.

الزمن الإلهي
من القضايا التي تستلفت النظر حقا في تضاعيف الكتابة التاريخية في مصادر السيرة النبوية محاولة خفية لتأسيس زمن إلهي، زمن إسلامي إلهي، التقليل او التحجيم من دور الانسان، أو درج الإرادة الإنسانية في سياق قرار إلهي، إمضاء فوقي، مجرّد، مفارق.
نقرا في كتب السيرة المصدرية أن المسلمين وفي كثير من المواقف تملكّهم الخوف من المغامرة، خافوا قريش في البداية، تسري بينهم الإشاعة الشيطانية بشكل سريع ومذهل، تسري كما تسري النار في الهشيم، يتغلب الخوف البشري على الإيمان، يتراجع الايمان ويحل محله الخوف، الهيبة، بل يستولي التشكيك على قلوب المؤمنين، فقد شككوا كثيرا في جدوى ونتائج حرب الخندق ، فالجموع القرشية كانت مهيبة، تمتلك مظهرا مفزعا، كذلك قرأنا هذا في موضوعة إجلاء بني النضير، كذلك في غزوة دومة الجندل. ولكن هذا الواقع المزري، الواقع الانهزامي ينقذه الله، في لحظة مشرقة، لحظة سريعة خاطفة يتبدل كل شي، الخوف إلى شجاعة، وا لتردد إلى إقدام، والخور إلى عزيمة.
هذا الحالة متكررة، كان كاتب السيرة يلح عليها ، يغرسها في الذهن غرسا، يبدأنا بيأس المؤمنين ثم يتوسَّطنا بانقلاب ترددهم إلى إقدا م، لينتهي بنا الى إنتصارهم إنتصارا مؤزرا ، وذلك كله برعاية الله عزّ وجل، يستثني من ذلك النبي الكريم وبعض رجالاته الذين كا نت لهم حظوة حكم فيما بعد، أو حظوة منزلة في وسط الناس!!
هناك عمل جاد لتأسيس زمن إلهي إسلامي، تاسيس تاريخ يخص ملّة دينية، ولكن في تصوري في هذه المحاولة ضيّعوا علينا الكثير من الحقائق، جيّروا الشهادة للغيب، ا لشهادة المحسوسة للغيب الذي ربما كان أقوى في أذهاننا وأرسى في قاع نفوسنا لو أنهم صادقوا عليه بقوة المحسوس.

مكر اليهود
أواليّة أخرى وجهّت الحس الكتابي لدى كتّاب السيرة والتراجم ـ وأنا أتكلم هنا عن التراجم التي لها علاقة بالسيرة حصرا ــ ذلك هو مكر اليهود! لقد سيطرت إلى حد كبير هذه الاوالية على السرد التاريخي في هذا المجال، لقد كان اليهودي محرِّكا داخليا للحدث في زمن النبوة، كان ( جنيِّاَ ) مستترا، يحوك المؤامرات ويوجه التاريخ بذكائه وعلمه السابق واطلاعه على اسرار الزمن، هذه هي صورة اليهودي في الجزيرة العربية، وقد سيطرت بحدود معقولة وواضحة على تصميم السرد التاريخي لدى كتّاب السيرة والتراجم، كانوا دعاة المكر. ويبدو أن هناك جملة أسباب وراء تثبيت هذه الاوالية، منها ما جاء في القرآن اللكريم من ذم وتقريع بحقهم، ومنها لانهم كانوا أهل كتاب، ولانهم كا نوا أهل تجارة خبرة في بعض الصناعات والمهن.
لا يعني هذا أن يهود الجزيرة كانوا سذجا، ومستسلمين، ولكن أن يكونوا هم المحرك للتاريخ في تلك الفترة شي يحتاج إ لى نظر وتامل، لقد صورّ لن السرد التاريخي لتلك المرحلة أن أبا سفيان مثلا ليس سوى لعبة بيد الزعامات اليهودية، يحركونه كما تشتهي خططهم وأهدافهم، وهم وراء سعة كبيرة من فتن الحرب والأقتتال ضد النبي الكريم.
لا يمكن أن نقول أ ن دور اليهود كان باردا آنذاك، جامدا، ميتا، بل هو دور له حجمه وسعته من الفاعلية وا لتأثير والتوجيه، ولكن ليس من المعقول أن يتحول هذا الدور إلى مؤسس جوهري، وكأن عرب الجزيرة العربية بقبائلها وزعاماتها ورجالاتها أحجار شطرنج، وهي القبائل التي تملك الحدس والتجربة والجغرافية والعلاقات بالعالم.
أن الكتابة التاريخية الواعية وا لتي تتمتع بعمق المسؤولية الجادة ينبغي أن تتحرر جهد الامكان من أواليِّات مسبقة، وليس من شك أ ن ما ذكرته يشكل أواليّأت مؤثرة في صبغ الكتابة التارخية بطابع لا يسعفنا بالتعامل مع التاريخ بشي من الحيادية والموضوعية، ويزجنا في مملكة مضلة من المعلومات والتصورات، من شأنها تنعكس على كيفية تعاملنا مع الحياة، فإن كتابة التاريخ كا نت وما زا لت من أصعب الكتابات في مسيرة الفكر الانساني.


أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية