يمكننا باطمئنان أن نعزو فشل شعوب الشرق الكبير في التعامل والتوافق مع العصر الراهن إلى الفشل في قراءة التاريخ واتخاذ الموقف المناسب منه، ولا يعني هذا أننا نسند مشاكل الحاضر إلى تراث ومدونات وروايات لأحداث تاريخية، فالتاريخ ليس 'الماضي'، إذا كان تصورنا لمفهوم 'ماض' وفقاً لدلالته المعجمية، على أنه ذهب ولم يعد حاضراً في اللحظة الراهنة، فإذا كنا نعني بالتاريخ مجرد الأحداث، فإنها قد مضت فعلاً، أما إذا كنا نعني به أيضاً الثقافة والعلاقات التي كانت سائدة في زمن ما، وترتب عليها وقوع تلك الأحداث، كذا ما نتج عن تلك الأحداث من أفكار وعلاقات عدت جديدة في حينها، فإن التاريخ لا يكون بالكامل قصة مفارقة للحاضر، فجزء مما نتصوره تاريخاً حاضر معنا، في ثقافتنا ونظرتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، كما أن الحديث عن الأجداد وخريطتهم الجينية ليس حديثاً مفارقاً لواقع ومواصفات الأحفاد الساعين في الأرض الآن، ونفس هذا ينطبق على التاريخ الثقافي والاجتماعي، وإن بدرجة أكبر من المرونة والقابلية للتغير، عبر إسقاط بعضاً مما نحمل، وإبداع جديد نورثه للغد، وهو ما لا يتوفر بذات الدرجة والمعدل في التطور البيولوجي.
الحديث عن قراءة التاريخ إذن ليس قضية ثقافية ترفيهية، إنما هو استغراق في هموم الحاضر، المرتبط عضوياً بما نسميه التاريخ، ويكون تنقيبنا في التاريخ وموقفنا منه هو في أغلبه تفتيش في دواخلنا، وموقف من واقعنا الراهن، والقراءة أو الموقف من التاريخ التي نقصدها ليست فقط ما يقوم به المؤرخون والمثقفون والمطالعون لإنتاجهم التأريخي، إنما يشمل أيضاً موقف الإنسان البسيط الأمي، الذي يحمل التاريخ في العادات والتقاليد، وفي التراث الشفاهي المتمثل في السير والأمثال الشعبية التي يرددها ويسترشد بها في حياته، فالصيرورة الزمنية لا تعرف في الحقيقة تصورنا الزائف عن تقسيم ماض ndash; حاضر ndash; مستقبل، وكأنه تقسيم يفصل بين ما لم يعد له وجود وبين الموجود الآن وبين ما سوف يوجد غداً، ذلك التصور الذي كشف جاك دريدا عن تهافته في كتابه 'الكلام والظواهر Speech and Phenomena' الصادر عام 1967، من خلال تناوله لنظرية هوسرل عن الرموز signs ووصفه للزمن، ثم عام 1972 في كتابه'حواشي الفلسفة' حين تناول بحث هايدجر عن ميتافيزيقا الحضور metaphysics of presence، فالماضي كان حاضراً والحاضر موجود الآن، والمستقبل حضور متوقع، وتحديد طبيعة الموجود الحاضر الآن لا يتحقق إلا عبر ارتباطه ومقارنته بحضوره السابق (الماضي) وحضوره المتوقع (المستقبل)، كما لا نستطيع اكتشاف حالة سهم ينطلق من خلال تحديد موقعه في لحظة محددة راهنة، لأن أهم ما يميز حالة السهم وهي الحركة لن يتيسر لها الظهور في هذه اللقطة الإستاتيكية، لكن يمكن اكتشاف الحركة وتسجيلها بمقارنة اللحظة الراهنة بلحظة سابقة ولحظة تالية متوقعة نستطيع استنتاجها، بما يعني أن حقيقة الحاضر تتضمن كل من الماضي والمستقبل، وهو ما علينا أن نجهد أنفسنا لاكتشافه، إذا أردنا فهماً حقيقياً للواقع، وإلا سنكون كمن يلتقط صورة ساكنة لا تعني أي شيء، وتحتمل كل تفسير أو تخمين.(انظر 'البنيوية وما بعدها' - عالم المعرفة- العدد 206)، ولا يعني هذا بالطبع تجاهلنا للتطور، أو وقوعنا في شرك نظرية العود الأبدي وإعادة التاريخ لنفسه، لكننا نقول أن ما نعتبره جديداً أو تقدماً هو وليد الجدل بين مكونات كانت حاضرة في زمن ما، والولادة هنا ليست صارمة الالتزام كما في العالم الفيزيائي والكيميائي، ففي مجال الفكر والعلاقات الإنسانية يكون للوليد أحياناً جدة مطلقة، لا نكاد نلحظ فيها ملامح من المكونات الأصلية.
يمكننا أن نرصد عدة مناهج أو مواقف من التاريخ، سواء الجزء الذي مضى وانقطع منه، أو الجزء الحال والفاعل فينا الآن:
bull; منهج تقديس التاريخ: تتم المقاربة فيه على أساس تصور أن الماضي هو الأصل، وأن مفهوم 'الأصالة authenticity' يعني أن مقياس الأصالة هو مدى الاقتراب أو التطابق مع الأصل القابع هناك في مكان ما مختار من الماضي، وقد يستند التقديس للماضي على أسس عرقية، بالانتساب والانتماء للأجداد العظام، أو أسس رومانسية قائمة على الحنين nostalgia، والعودة إلى ما يسمى بالعصر الذهبي وأزمنة الماضي السعيد أو الزمن الجميل، والذي نعني به دائماً فترة منتقاة تعسفياً من التاريخ، قد يذهب البعض بعيداً للبحث عنها مثل جان جاك روسو، الذي راح يتغزل في البدائي الطيب والسعيد بحريته، وقد يستند تقديس الماضي إلى منظور ديني، ويتجه إلى فترة فجر الدعوة الدينية المعنية، باعتبارها فترة أصالة الحقيقة الإلهية المعلنة من السماء، والتي لابد وأن يكون روادها الأوائل هم الأكثر وعياً والتزاماً بها، مما يستدعي وجوب السير على آثار أقدامهم خطوة بخطوة.
bull; منهج الفرار من الماضي: وهو معاكس تماماً للاتجاه السابق، ونعني به التصور النظري لإمكانية الفرار من الماضي، كما يفر الإنسان من موقع موبوء أو تشتعل فيه النيران، ونستخدم هنا تعبير 'تصور نظري' لأن التاريخ كما قلنا موجود في داخلنا، ولو بصورة جزئية ومحورة ومتحولة، وبالتالي فهو في فرارنا منه يفر معنا، ويبقى هذا الاتجاه مجرد أمل إنساني جدير وطوباوي في التحليق إلى المستقبل، ويشبه محاولات الإنسان الأولى للطيران، دون أن يتدبر كيف يحقق ذلك عبر آليات وآلات، كان عليه أن ينتظر طويلاً حتى يمتلكها.
bull; منهج النفي الجدلي للتاريخ negation: وفيه نتخذ موقفاً نقدياً من التاريخ، بغية التخلص منه وصولاً إلى غد أفضل ومختلف، لكن ليس باستئصاله أو شطبه، ولكن باستحضار عناصره التي كانت حاضرة، وفرز واستبعاد ما يغيب منها عن حاضرنا، ثم إضافة ما أتى به الحاضر ليضاف إلى عناصر الموضوع، ليتم استنباط علاقات جديدة من مجموعة العناصر الداخلة في الجدل الجديد، وبهذا نكتشف إمكانيات جديدة ماثلة، قابلة بدورها للتطور في سلاسل الجدل dialectic التي لا تنتهي ما بقيت حضارة الإنسان في تطورها المطرد، هذه العملية بالطبع تتم تلقائياً من خلال صيرورة الحياة، لكن الوعي بها إن لم يساعد على تسريع معدلها، فإنه ضروري لإزالة ما قد يعترضها من عقبات يختلقها أصحاب المناهج الأخرى لمقاربة التاريخ، والذين قد يثمر مسعاهم ما يمكن اعتباره إيقاف لعجلة الزمن، كما نشاهد في أفغانستان وسائر منطقة الشرق الكبير، وإن بدرجات تتفاوت بتفاوت الظروف واختلاف الشعوب.
bull; منهج تقييم التاريخ: أصحاب هذا المنهج هم من يحاولون إصدار أحكام قيمة على حوادث التاريخ وشخصياته، ويندرج ضمنه هؤلاء أصحاب منهج تقديس الماضي، والذين ينكبون على نظم قصائد التمجيد في أحداث الماضي وشخصياته، الذين يكاد يتم تصويرهم على أنهم ملائكة وقديسون أو أبطال صناديد لن يجود الزمان ثانية بأمثالهم، ويتم تجنب أو الاستعماء عن أخطائهم وخطاياهم، والأقل فجاجة بين مثل هؤلاء المقيِّمين من يتناولون تلك الأخطاء بغرض التبرير والتزيين، ولو بإجهاد النفس والنصوص، ولي عنق الحقائق والمنطق معاً، ليصل هؤلاء في النهاية إلى ذات النتيجة التي وصلها مباشرة رفقاؤهم، أي التمجيد والتقديس لأحداث الماضي المختار وشخصياته، ويقفز إلى الذهن هنا اسم المفكر الراحل/ عباس محمود العقاد، الذي كان يتحجج ومن هم على نهجه بمقولات مثل إبراز قدوة حسنة للشباب، وتدعيم اعتزاز الشعب بهويته وتاريخه، رغم أن الأغراض الحسنة لا تبرر اللاموضوعية التي تصل إلى حد التزييف، كما أن التأريخ الزائف رغم جماله يكون أشبه بتمثال من الشمع مفتقداً للحياة والتأثير الحقيقي، بل وإن كان لهذا المنهج من مردود فهو سلبي، حين يحرض البعض على القفز على حقائق الواقع الراهن، والتطلع إلى استعادة الماضي بكل تفاصيله، وليس فقط القواعد العامة التي يمكن أن يكون لها نصيباً من الصلاحية والاستمرارية.
البعض الآخر ممن يقرأون التاريخ محاولين إصدار أحكام قيمة على أحداثه وشخصياته ينهجون نهجاً مضاداً لما سبق، فيقومون بتقييم الماضي على ضوء مفاهيم الحاضر وقيمه، متجاهلين السياق الذي أنتج تلك الأحداث ووجه الشخصيات، ليخرجوا بتجريم وإدانة كل ما كان، وهو منهج مبتور يقف على ساق واحدة، إذ يمكن أن يكون إيجابياً إذا كان الهدف منه ليس تقييم التاريخ في ذاته، وإنما استطلاع ما حدث للبشرية من تطور في المفاهيم وفي سياق الحياة، بغرض تحقيق المزيد من مفارقة قيم الماضي التي فقدت صلاحيتها في عصرنا، وتلك المرشحة لفقد صلاحيتها في المستقبل، مثل تطور تطبيق مفهوم القصاص، الذي بدأ بعقوبات بدنية تتمثل في القتل والتمثيل بالجثة، ليتحول عبر الزمن إلى أشكال أخرى، ومازال مرشحاً للمزيد من التطور، رغم بقاء مفهوم القصاص في حد ذاته.
دراسة التاريخ جديرة أيضاً بالكشف عن الآليات التي انتقلت بالشعوب من حالات التردي إلى النهضة، كما تساعدنا على تنقية الحاضر وشفائه من الأدواء والسقطات التي مازالت تلتصق بحضارتنا الراهنة، كل ذلك عبر النفي الجدلي الدائم للماضي، أما التقييم للشخصيات والأحداث التاريخية ذاتها ولذاتها، فينبغي أن يكون على أساس سياق ومفاهيم زمانها، فبهذا لا نظلم الماضي، ولا نظلم أيضاً أنفسنا وحاضرنا، بتجاهل المسافة بيننا الآن وبين التاريخ، تلك المسافة التي يجب أن نسعى باستمرار لتعظيمها، باتجاه المزيد من الرقي للإنسان والإنسانية.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية