هذه الانطباعات من لقاء أناپوليس
قد حضرتني على حين غرّة قبل أن أحضره. ولمّا كان الكلام متعلّقًا باحتضار عمليّة السّلام، رأيت أن أشارك القرّاء بَوْحًا بها قبل حصول اللّقاء، والتئام كلّ من هبّ ودبّ، وَخبّ وسبّ، وَصبّ زيتًا على نار جراح الأنام. وهكذا رأيت أصحاب الفخامة والسموّ من الأجانب والأعارب مجتمعين لالتقاط الصّور التّذكاريّة في ثكنة للبحريّة الأميركيّة في حاضرة أناپوليس من أعمال مريلاند المحروسة في بلاد العمّ سام.
لقد تقاطر جميع هؤلاء النّفر من البشر من بلاد حام ويافت وغيرها من الأصقاع ممّا وراء الأفق، بعضهم من أصحاب الفخامة والسّموّ، وبعضهم من أصحاب ربطات العنق. بينما أصرّ البعض على اعتمار الحطّة والعقال رمزًا وطنيًّا له - علمًا أنّه لا يصنع هذا الرّمز أصلاً بل هو من صنع ماركات غربيّة ماهرة في التّصنيع والتّسويق في آن معًا. وممّا لا شكّ فيه أنّهم سيتصافحون، وربّما يكون عناق هنا وعناق هناك على مدارج الثّكنة، الّتي لا شكّ أيضًا أنّ جنود البحريّة سيعملون على تلميعها مسبقًا لاستقبال هذه النّخبة من رجالات العالم.

وعلى فكرة،
هل تلاحظون الفرق بين رجال ورجالات؟ فكلاهما جمع رجل، غير أنّ رجالات تُستعمل للتّفخيم بما يليق بمكانة هؤلاء الرّجال. ولكن ماذا بخصوص النّساء؟ وأيّ جمع سيشير إلى تفخيمهمنّ دون سواهنّ من النّساء؟ فهل نقول مثلاً، نساوات؟ لا أدري، فكلمة نساوين صادرتها اللّهجة العاميّة لأغراض أخرى. ولكن، وعلى كلّ حال، فإنّ ما يُثير فرحي، في سرّائي وضرّائي، هو هذه الحقيقة اللّغويّة العربيّة: فمن أجل رفع مكانة الرّجال وتفخيم مكانتهم نستخدم في لغتنا العصريّة مصطلح quot;رجالاتquot; وهي صيغة جمع المؤنّث السّالم.
إذن، فبشراكنّ أيّها النّساء العربيّات بتفخيمكنّ الرّجال حتّى أضحوا رجالات!

لكن، ومهما يكن من أمر،
فقد حضر جميع هؤلاء المؤنّثين والمؤنّثات، بعد حصولهم على التّصاريح، في فرصة لالتقاط الصّور وإطلاق التّصريحات، من صنف تلك الّتي شبع منها الفلسطينيّون والفلسطينيّات والإسرائيليّون والإسرائيليّات، الأوروپيّون والأوروپيّات والأميركيّون والأميركيّات، فما بالكم، إذن، بالياپانيّين والياپانيّات والصّينيّن والصّينيّات!
غير أنّه من الواضح أنّ الأمر الّذي شاب هذا اللّقاء هو امتلاء الصّينيّات بكلّ ما لذّ وطاب من أطعمة الـ quot;كوشرquot; من جهة أبناء العمّ، وأطعمة الـquot;حلالquot; من الجهة الأخرى، جهة quot;أبناء الهمّquot;. وذلك، سيرًا على نهج الپروتوكولات في مثل هذه اللّقاءات في الأوقات العصيبات.
وقد يقول قائل، ربّما تناول هؤلاء الأسماك، وما أدراكَ ما أسماكُ الله الحسنى! وأقول إنّهم قد تلذّذوا أيضًا باللّحوم وأفصحوا عن الهموم، ثمّ تلمّظوا بأحاديث ذات شجون عن الحلم المكنون بدفع quot;عربة السّلامquot;، كما يقولون. وبين هذا وذاك، وتبديل مسواك بمسواك، ظلّوا ينتظرون، وعلى أحرّ من الجمر المكنون، أن يأتي النّادلون والنّادلات بأطايب الحلويات المُعجّنات ليختموا بها درّة الوجبات اللّذيذات.

ثمّ انتقل بعد ذاك، أصحاب الفخامة والسُّموّ،
كُلٌّ منهم أخذ مكانَه ومقامَه في بهو فخم أو رحبة وسيعة، كما تقتضيه حالة الطّقس في هذه الطّبيعة البديعة، وذلك بانتظار ما هو آت من بيانات تُتلى على الأسماع وأمام الكاميرات الملتمعات الّتي جاءت من كلّ حدب وصوب قبل شدّ الرّحال في رحلة الأوب بخفّي حنين إلى أصقاع مختلفة من الشّرق والغرب.
ولا خشية من تعثّر في المراسيم فهي معدّة مسبقًا بحذافيرها، أين يقف من يقف وأين يجلس من يجلس، من الواقفين والواقفات والجالسين والجالسات. من يبدأ الكلام ومن يُجملُ الخطاب بمعسول السّلام على المؤتمرين والمؤتمرات، هذا إن لم نقل المتأمركين والمتأمركات المتآمرين والمتآمرات. وقبل ذلك، وكما هو مرسوم سيأخذ بلا شكّ quot;الباب العاليquot; موقعه، ويأخذ quot;الباب الواطيquot; موضعه. فكلّ على قدر المقام، فواحد في منزلة رفيعة وواحد في منزلة وضيعة. وبين هذا الباب وذاك الباب احتفى أصحاب الفخامة والسموّ بوقف الاقتتال والسّباب، وفتح مصراعي الباب للمفاوضات الجديدة القديمة، وتناول الأسماك الحسنى واللّحوم الدّخينة وارتشاف القهوة بالفناجين الصّينيّة المُتقنة الصّناعة، وكلّ ذلك ابتغاء quot;دفع عربة المفاوضاتquot; الحثيثة، من أجل الوصول إلى غاية سامية هي تحقيق السّلام المنشود في البلاد الدّامية، بلاد السّمن والعسل وانعدام الأمل الّتي ينخر نفسيّات قاطنيها الدّود، أكان قاطنوها من العرب أم كانوا من اليهود.
وفي غمرة التّصفيق للكلام المعسول، الّذي لا يحول ولا يزول، شعر أصحاب الفخامة والسموّ بنشوة غريبة، ورويدًا رويدًا غطّوا في سبات عميق وأيّ سبات، بعد أن أتخمت بطونهم وعقولهم تلك الوجبات، وتدلّت الجفون على العيون السّاهمات. وما إن دقّت ساعة الرّحيل حتّى اصطفّ من اصطفّ من هذا القبيل، أو من ذاك القبيل، أمام عدسة قد تحمله إلى شاشة هنا، وهناك شاشة، وقد ارتسمت على وجهه مسحة من بشاشة غبيّة - لعلّها بتأثير البوشاشة الرّئاسيّة الأميركيّة - فرطن هؤلاء بلغة عربيّة أو عبريّة أو بلغة إنكليزيّة، حتّى اختلط الحابل بالنّابل فلا تملك أن تُفرّق بين غباء وغباء، بين ما يثير الضّحك أو ما يدعو للبكاء.
كذا كان وكذا يكون مرّة تلو مرّة، وعلى الأرض quot;الخصامquot; وفي النّاس quot;المَشَرَّةquot;.

ومسك الختام،
وكما تَعلّمنا كابرًا عن كابرٍ، يكون بحسن التّخلُّص من مثل هذه المقالات إلى ما هو آت. فلنختتم مقالتنا هذه، إذن، بهذه الأبيات البيّنات:

لَوْ أنَّ لِي حَجَرًا مَا كُنْتُ أَقْذِفُهُ - فِي بِرْكَةٍ طَفَحَتْ مِنْ دَمْعِ تِمْسَاحِ
إنّ الدُّمُوعَ إذَا حَرَّكْتَهَا انْتَثَرَتْ - وَاغْرَوْرَقَتْ مِنْ حَرِّهَا ذِي النَّفْسُ، يَا صَاحِ
يَا مَنْ تَرَاكَضَ خَلْفَ العَقْلِ يَطْلُبُهُ - لا الصُّبْحُ جَاءَ، وَعَافَ الزَّيْتَ مِصْبَاحِي
دَعْ ذَا عَدَمْتُكَ وَاعْزِفْ عَنْ مُغَامَرَةٍ - إنَّ التَّفَكُّرَ مَسْكُونٌ بِأَشْبَاحِ
فَابْعَثْ سَلامَكَ للنُّدْمانِ حَيْثُ مَضَوْا - وَارْحَلْ إلَى بَلَدٍ فِي الكَاسِ مُرْتَاحِ
وَادْفِنْ هُمُومَكَ فِي خَمْرٍ لَهَا خَفَرٌ - لا تَبْتَئِسْ فَخَلاصُ الرُّوحِ فِي الرّاحِ
فِي رُوحِهَا أَثَرٌ مِنْ وَصْلِ عَاشِقِهَا - إنْ لامَسَتْ رُوحَهُ أَمْسَتْ بِأَرْوَاحِ

***
والعَقْلُ وَليُّ الفَلاحِ!

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية