منذ فترة من الزمن، وأنا أفكر في كتابة بحث سياسي تاريخي وعلمي عن quot;مستقبل الهاشميين في الأردنquot; ولكن الأحداث العربية المتلاحقة الساخنة لم تتح لي الفرصة للقيام بذلك. واهتمامي بهذا الموضوع لم يتأتَ من كوني أردني المولد والنشأة والجنسية، ولكنه متأتٍ من كون الهاشميين في العالم العربي ظاهرة سياسية مميزة، ولها خصوصيتها، التي لا تتوفر في معظم الأنظمة العربية من ملكية وجمهورية. ومن مظاهر هذه الخصوصية:
1-أن

الشريف حسين

الهاشميين منذ أن كانوا في منطقة الحجاز في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كانوا أكثر الأنظمة العربية التصاقاً بالغرب، وقرباً من روحه السياسية، رغم كل ما يقال عن نسبهم إلى آل بيت الرسول عليه السلام. فرغم هذا النسب الديني والتاريخي، فإنهم لم يدّعوا الخلافة الإسلامية، كما حاول أن يفعل ذلك الملك فؤاد الأول، والملك فاروق من بعده، بعد سقوط الخلافة في تركيا 1924، لولا أن وقف في وجههم رجال الدين المتنورين كعلي عبد الرازق في كتابه الراد والصاد (الإسلام وأصول الحكم ndash; 1925) وكذلك بعض المثقفين العلمانيين والليبراليين من جيل طه حسين، وسياسي حزب الأحرار الدستوريين.
2- أن الهاشميين بالرغم من الصبغة والهالة الدينية التاريخية التي يتمتعون بها عند رجال المؤسسة الدينية الرسمية خاصة، ولدى الإخوان المسلمين، كانوا حكاماً علمانيين، فصلوا ndash; إلى حد كبير - بين السياسة والدين، وإن كانوا في بعض الأحيان قد استعملوا الدين ndash; كما هي عادة معظم الحكام العرب في الماضي والحاضر- كمظلة للشرعية ولتمرير الكثير من الخطط والقرارات السياسية. فحكم الهاشميين في العراق ابتداءً من فيصل الأول وانتهاءً بفيصل الثاني، وحكمهم في الأردن ابتداء

الملك عبد الله الأول

من عبد الله الأول وانتهاءً بعبد الله الثاني، يترك للباحث حقيقة لا مجال للشك فيها، وهي أن الهاشميين لم يسعوا يوماً إلى إقامة دولة دينية بالمعنى السلفي، أو خلافة إسلامية بمنطق حركة الإخوان المسلمين، رغم أن بريطانيا كانت تغريهم بتولي هذه الخلافة كرشوة لهم وكوسيلة تخدير سياسي. فقد كتب مكماهون (المندوب الانجليزي في مصر) رسالة إلى الشريف حسين في مكة المكرمة، من ضمن رسائل (مكماهون ndash; الحسين) يقول له في ختامها: quot;إن جلالة ملكة بريطانيا العظمى، ترغب باسترداد الخلافة، على يد عربي حميم، من فرع تلك الدوحة النبوية المباركةquot;. ثم يختم مكماهون خطابه بالتاريخ الهجري! وفي واقع الأمر، فإن بريطانيا العلمانية، لم تكن راغبة في استعادة الخلافة الإسلامية. وكان وعد بريطانيا للشريف حسين بأن يكون ملكاً للعربndash; كما كان يرغب الشريف حسين نفسه - وليس خليفة للمسلمين، فيما لو انتصرت بريطانيا على تركيا في الحرب العالمية الأولى. كذلك فقد سعى الهاشميون بدءاً من عبد الله الأول وفيصل الأول، إلى إبعاد الدين عن السياسة، وصد رجال الدين عن التدخل في السياسة، رغم ما يجده بعض الباحثين في علاقة الدين بالسياسة الهاشمية للكيد فقط، وذلك من خلال ما تمَّ من علاقة مباشرة بين الهاشميين والإخوان المسلمين منذ سنة 1945، ومنذ أن دعى الملك عبد الله الأول، مؤسس المملكة الأردنية، في العشرينيات من القرن الماضي عبد الحكيم عابدين (1914- 1975) السكرتير العام للإخوان المسلمين حتى عام 1948، وصهر المؤسس حسن البنا إلى تولي الوزارة الأردنية كيداً بالملك فؤاد، ولكن عابدين اعتذر عن ذلك.
وعبر التاريخ، ظلتهذه العلاقة مميزة بين العرش الهاشمي الأردني والإخوان، لا حباً في الأخوان ولكن كيداً بالحكم الملكي العلوي في مصر ممثلاً بالملك فاروق، الذي كان الهاشميون يكرهونه ومختلفين معه وكان فاروق في صراع مكشوف مع الإخوان، خصوصا بعد حرب 48. كذلك فإن احتضان الملك حسين للإخوان المسلمين في الأردن بعد عام 1955 وإفراغ الساحة السياسية لهم وحلِّ الأحزاب العلمانية ومنعها من القيام
بنشاطاتها، كان كيداً بعبد الناصر والناصريين الأردنيين ومن ولاهم، وليس حباً في الإخوان المسلمين وخطابهم الديني/ السياسي المطالبين حتى اليوم بإقامة خلافة إسلامية، والتي هي غير واردة في التفكير والتطبيق السياسي للهاشميين، الذين كانوا سواء في العراق أو الأردن يسعون إلى إقامة حكم ملكي علماني فيه quot;رشات عطرquot; من ديمقراطية الغرب، وذلك بحسب ما يسمح به التركيب العشائري والاجتماعي والسياسي والثقافي العربي العسير.

3- يلاحظ تاريخياً، أن

الملك حسين

الهاشميين في العراق والأردن، قد سبقوا الشعب العراقي وسبقوا الشعب الأردني في خطوات الحداثة والمعاصرة السياسية والثقافية والاجتماعية. وأنهم في بعض الأحيان كادوا أن يتعثروا نتيجة لسرعة الخطوات الحداثية التي اتخذوها، دون أن يستطيع شعبا هذين القطرين من اللحاق بهما. ولعل الأزمات السياسية التي ظهرت بجلاء في عهد الملك الراحل الحسين وخصوصاً بعد 1956، حيث أطلقت الحريات في عهد حكومة سليمان النابلسي الإئتلافية 1957 زعيم quot;الحزب الوطني الاشتراكيquot; الذي تأسس 1954 (حزب الأكثرية بـ 14 مقعداً في برلمان 1956. وهذه أول وآخر مرة في تاريخ الأردن، يكون فيها رئيس الحكومة هو زعيم حزب الأكثرية في البرلمان، وذلك على الطريقة الديمقراطية الغربية)، ولكن هذه الخطوة السياسية المتقدمة انتكست بشكل كبير، لعدم وجود كوادر سياسية تتحمل مسؤوليتها باعتراف رئيس الحكومة سليمان النابلسي، الذي قال في ذلك الحين: quot; للإنصاف نقول، بأننا لم نكن في مستوى الأحداث، فحكومتنا شعبية، لكنها لم

البرلمان الأردني

تكن متمرسة بالمشاكل. كانت الأحداث أكبر منا.quot; (رجال في ذاكرة الوطن- رابطة علماء بلاد الشام). وقد لمّح الملك الحسين الراحل في كتاب سيرته الذاتية (مهمتي كملك) إلى هذا الانفصام بين الأمل وبين الواقع.
4- كان الهاشميون في العراق والأردن من أكثر الأنظمة العربية رحمة ورأفة بمعارضيهم. وما فعله نوري السعيد والوصي عبد الإله من تنكيل بالمعارضة العراقية، كان ضد رغبة الملك القاصر فيصل الثاني كما يؤكد بعض المؤرخين المنصفين. كذلك فإن الأردن لم يشهد تنكيلاً أو إعداماً لزعماء المعارضة الأردنية كما حصل في عهد عبد الناصر وحافظ الأسد وصدام حسين، وكما يحصل اليوم في عهد بشار الأسد. بل إن الملك الراحل الحسين أبدى تعاطفاً ودلالاً لزعماء المعارضة إلى حد الانتقاد ورميه بالتزلف للمعارضة، كأن ينقل بعض زعماء المعارضة بسيارته الخاصة التي كان يقودها بنفسه من السجن إلى منازلهم (هذا مع حدث مع ليث الشبيلات أحد زعماء المعارضة الإسلاموية).
وهناك مظاهر كثيرة أخرى لا يتسع هذا المجال لذكرها، ولعلنا نتطرق إليها في مقال آخر.

المراهنة على سقوط الهاشميين
لقد راهن كثيرون من المراقبين في الشرق والغرب في عهد الملك الراحل الحسين على سقوط الهاشميين في الأردن، وخاصة في فترة الفوران الناصري (1955-1960)، ومحاولات الانقلاب العسكري الناصري، بقيادة الضابطين الناصريين علي أبو نوار وعلي الحياري. ولكن هذه الرهانات فشلت، وبقي الهاشميون
يحكمون الأردن رغم ذلك، ورغم الانقلاب الدموي كذلك الذي تم في العراق ضدهم عام 1956. فما الذي يضمن للهاشميين استمرار الحكم في

اللواء علي الحياري

الأردن بحيث نشهد بعد مائة عام أو أكثر، حكم عبد الله التاسع عشر، أو من هو قبله، أو من هو بعده؟
هناك عدة عوامل يمكن أن تضمن ذلك:
1-إدراك الهاشميين الأكيد وإيمانهم العميق الظاهر والباطن، بأن المستقبل في الأردن والعالم العربي هو للحداثة والعلمانية. فهذا هي حركة التاريخ الصحيحة، وهذا هو اتجاه رياح التغيير في التاريخ، وطريق مسيرة البشرية، بعد أن جرّبت كوارث الحكم الديني في الشرق والغرب. وأدرك ذلك الغرب قبلنا بسنوات طويلة، رغم كل ما يسمعه الهاشميون من المؤسسات الدينية المختلفة من تحذير، وتهديد، ووعيد مزيف.
2-صحيح أن الهاشميين في بداية حكمهم في الأردن والعراق، اكتسبوا شرعيتهم السياسية من كونهم من آل البيت. ولكن هذه الشرعية لم تعد كذلك. فأصبحت شرعيتهم في الأردن مثلاً مُكتسبة بما قاموا به من بناء البلد وتنميته، ووضعه على الخارطة السياسية لدول المنطقة والعالم، بعد أن كان في العشرينات نسياً منسياً، ويشار إليه بأنه quot;إمارة شرق نهر الأردنquot; TransJordan. ولعل المزيد من هذه الشرعية سوف تُكتسب مستقبلاً لصالح الهاشميين، إن هم ساروا بجد وشفافية في بناء المزيد وتنمية المزيد في الأردن، والتفتوا إلى البناء الداخلي أكثر من التفاتهم إلى السياسة الخارجية التي تأخذ معظم وقتهم الآن، نتيجة لظروف المنطقة السياسية الملتهبة، التي تحيط بهم.
3-زيادة هامش الحرية التدريجي. وعدم التوقف عن زيادة هذا الهامش في أية فترة تاريخية مهما كانت الأسباب، ومهما حصلت من انتكاسات. فعلاج كوارث الحرية والديمقراطية الناجع، هو بمزيد من حُقن الحرية والديمقراطية.
4-السماح للإخوان المسلمين لكي يحكموا، ويتولوا رئاسة الوزارة (ولمَ لا وقد تولّى الوزارة من قبلهم quot;الحزب الوطني الاشتراكيquot;، 1957 وفشل) ولو لمدة قصيرة، حتى ينكشف فشلهم كما انكشف فشل حماس في فلسطين، وانحصارهم في غزة فقط، التي أصبحت ndash; ربما ndash; أكثر مناطق العالم نكبة بالجوع والفقر والبطالة والفوضى، نتيجة للحكم الديني المتشدد. فالشارع الأردني لن يتخلى عن حركة الإخوان المسلمين ما دام الإخوان المسلمون لم يتسلموا الحكم. كما لم يتخلَّ الفلسطينيون عن حماس إلا عندما جربوا حكم حماس خلال 2006/2007 الذي أعاد القضية الفلسطينية إلى المربع الأول بعد نصف قرن من الصراع العربي ndash; الإسرائيلي، وبعد أن تحول هذا الصراع ndash; بفضل حماس ndash; من صراع سياسي إلى صراع ديني، كما هو الحال الآن.
5-وأخيراً، الانكباب على كتابة دستور جديد للأردن بدل الدستور الحالي الموضوع قبل أكثر من نصف قرن (8/1/ 1952). فرغم بعض التعديلات التي أدخلت على هذا الدستور فهو لا يزال بحاجة إلى تغيير كلي يتماشى وحال الأردن والأردنيين الآن. ذلك أن الدستور ليس كتاباً مقدساً لا يُمسُّ ولا يُجسُّ، ولكنه من صنع البشر الذين كانوا قبل أكثر من نصف قرن محكومين لظروف وشروط سياسية واجتماعية واقتصادية معينة، تغيرت الآن تغيراً كلياً. فالدستور الجديد بحاجة إلى تقليص صلاحيات الملك وتوسيع صلاحيات رئيس الوزراء الذي يجب أن يكون منتخباً من الشعب، كما يجب أن يكون مجلس الأعيان (مجلس الشيوخ) منتخباً كذلك، بعد أن أمضى الأردن ستين عاماً في ممارسة الحياة الانتخابية منذ عام 1947. وبهذا يتحمل الشعب أوزار رئيس وزرائه المنتخب، ولا يتحملها الملك الذي يُعيّن الآن رئيس الوزراء ويقيله.
وبهذا وبغيره من وسائل الإصلاح السياسي يضمن الهاشميون حكمهم للأردن، ويشهد أحفادنا مستقبلاً حكم عبد الله التاسع عشر.
السلام عليكم.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية