اشتعلت مؤخرا اضطرابات شديدة العنف في ضاحية quot;فيليه لو بيلquot; الفرنسية، المزدحمة بأبناء الهجرة المغاربية والأفريقية، وذلك على أثر اصطدام سيارة بوليس مسرعة بدراجة بخارية عليها صبيان، مغربي وسنغالي، وقد توفيا في الحادث.
لا شك أن وفاة الصبيين المراهقين كانت مأساة حقيقية، ونكبة للعائلتين؛ أما ردود الفعل، فبدلا من انتظار التحقيق في الحادث، فقد اتهم السكان البوليس فورا، وخرجت مظاهرات الغوغاء ومشعلي العنف، ليحرقوا سيارات المواطنين، ويهاجموا المخازن، والمكتبات، وروضة للأطفال. إن الأدهى والأشد خطورة ضرب رجال البوليس بالرصاص الحي، دون أن يردوا بالمثل، والانهيال على ضابط بوليس بالقضبان الحديدية، ليسقط في حالة خطرة. لقد استمرت أعمال العنف يومين، وثار الأهالي، دون أن يدين أحدهم استخدام الرصاص من محترفي الجريمة، وربما بتحريض من مهربي المخدرات، وبعض أئمة الجوامع.
أجل، كان مقتل الصبيين مأساة موجعة، ولكن هل كانت ردود الفعل مبررة؟ لماذا لم يطالب المتظاهرون بالتحقيق القضائي ليعرفوا حقيقة ما جرى، فإذا كان للبوليس من مسئولية، عوقبوا؟؟ أما الاشتراكيون، فقد سارعوا لاتهام الحكومة بالعجز عن ضبط الأمن، وسارعت السيدة رويال لإرسال محام من حاشيتها ليكون محامي الحق المدني، واتهموا الحكومة بالعجز عن ضبط الأمن.
إن كل أنواع الجرائم موجودة في فرنسا، والدول الغربية الأخرى، كالاغتيالات، واغتصاب الأطفال والنساء، وعنف الأزواج، وعصابات استيراد الفتيات والنساء سرا لتوظيفهن عاهرات، ومعاملتهن بقسوة متناهية، وكتهريب المخدرات، ألخ. هذه الجرائم لا يقتصر مقترفوها على جنسية بعينها، وكثير منها يقترفها مجرمون من السكان الأصليين. إن هذا النوع من العنف ليس هو مدار هذا المقال، بل موضوعه هو العنف الجماعي في الضواحي الفرنسية.
إن أعمال العنف في الضواحي الفرنسية ليست ظاهرة جديدة، فقد اندلعت قبل عامين اضطرابات كبرى استمرت أياما، وقبل ذلك أيضا في عهد رئيس الوزراء الاشتراكي روكار، حيث وقعت الحوادث في نفس الضاحية فيليه.
لقد توقفنا عدة مرات عند هذه الظاهرة، وتصرفات أقلية من شبان الهجرة وصبيانها، وصمت الأكثرية، والسياسات الفرنسية في موضوع الهجرة؛ وقد عالجنا الموضوع خاصة في حلقات استعراضنا لكتاب quot;حرب الشوارعquot; الصادر عام 1999، وكتاب quot;الإسلاميون هم فعلا هناquot;، وعند وقوع أحداث 2005.
إن بعض الكاتبات والكتاب العرب لا يزالون ينسبون هذا العنف المتكرر إلى وجود quot;تمييز عنصريquot; ضد أبناء الهجرة، واعتبارهم أجانب، وإلى انتشار البطالة، والتهميش الاجتماعي، وهذا التحليل قريب من تحليل الحزب الاشتراكي الفرنسي، منذ تسلمه الحكم عام 1981، حيث ظل فيها عشرين عاما، ومواقفه لم تتغير لحد يومنا هذا. إن البوليس هو المتهم عندهم دوما، وأعمال العنف الجماعية،[حتى الضرب بالرصاص؟؟!]، نتيجة الوضع الاجتماعي، وأزمة المجتمع، وكون فرنسا quot;لا تحترم التعدديةquot;، ألخ.. ألخ.
لا شك في وجود تيار عنصري فرنسي ضد المهاجرين، ولكن الدولة والقوانين تحاربه بكل صرامة، ومن المؤسف أن أعمال العنف تغذي هذا التيار وتشجعه، وقد جدنا تأثير ذلك في صعود أسهم لوبين في انتخابات الرئاسة لعام 2002، إذ كان الفرنسيون قلقين جدا لتضاعف أعمال العنف بمختلف أشكاله، دون أن يعتبر الاشتراكيون ذلك مشكلة كبيرة لا بد من معالجتها بحزم.
إن هؤلاء لا يذكرون ضحايا العنف، وما يعيشونه من جو القلق اليومي، وما يخسرونه بسبب حرق السيارات، والمخازن، والمكتبات، وضرب رياض الأطفال. إن دافع الضريبة الفرنسي لابد وأن تتأثر مشاعره تدريجيا تجاه الهجرة، فأعمال العنف تسئ لصورة العرب والأفارقة، مثلما تفعل عمليات الإرهاب الإسلامية، التي ألحقت ضررا كبيرا بسمعة المسلمين في الغرب والعالم. نضيف أن للعنصرية وجهين، فهناك عنصرية اليمين الفرنسي المتطرف والمتأثرين به، وهناك، بالمقابل، عنصرية ضد فرنسا والمجتمع الفرنسي، حين يريد الإسلاميون، ومروجو الشغب والعنف، فرض ممارساتهم، وتقاليدهم، وقيمهم، وقوانينهم على المجتمع الفرنسي، وقد مرت سنوات طويلة كان البوليس فيها لا يجرؤ على دخول أحياء وضواحي بعينها، وذلك بأوامر من أعلى، وباسم quot;السلام الأهليquot;، وكانت النتيجة أن انفردت في تلك المناطق عصابات المخدرات، وبائعي السلاح في السوق السوداء، وكل محترفي الجريمة، واشتعال حرب العصابات بين بعض. أجل، ماذا يكون شعور الفرنسي عندما يقوم الشبان الفرنسيون من أصول جرائرية ومغربية بالصفير عند عزف النشيد الوطني الفرنسي في مباريات كرة القدم؟!
إن الهجرة الواسعة، خصوصا من بلدان المغرب، بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، وبدعوة من الحكومة ورجال الأعمال الفرنسيين، وقد قدم المهاجرون خدمات كبرى لفرنسا، التي كانت بعد الحرب في حاجة لإعادة التعمير. لقد كان الاتفاق مع المهاجرين، وبعلم دول الأصل، هو أن quot;تعالوا، واعملوا، وخذوا أجوركم، ثم عودواquot;، وقد بقي قسم كبير منهم في فرنسا، ونالوا جنسيتها، وأتقنوا بشكل لا بأس به اللغة الفرنسية، ولكن المشكلة تعقدت عندما أصدر الرئيس الأسبق ديستان قانون quot;تجميع العائلاتquot;، مما فتح الباب لأنواع من التحايل، والهجرة غير الشرعية، وتفاقمت المشكلة أكثر عندما منح الاشتراكيون سبعين ألف مهاجر غير شرعي هويات الإقامة، وهذا شجع لدرجة أكبر الهجرة غير الشرعية، وما لها من نتائج في مجالات السكن، والعمل، والاندماج بالمجتمع، ولا يزال في فرنسا عشرات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين، وهو ما حدا بسركوزي لأن يضع ضمن برنامجه الانتخابي هدف ضبط الهجرة، الذي أثار ثائرة اليسار، وجمعيات حقوق الإنسان، وأبناء الهجرة، متهمين سركوزي بالتمييز العنصري، وشنوا حملات واسعة ضد انتخابه، وعند نجاحه قامت أعمال شغب وعنف، علما بأن موضوع الهجرة وضبطها قد تحول لمشكلة كبرى وملحة في الاتحاد الأوروبي كله، [ إضافة: في منتصف التسعينات أراد الوزير الاشتراكي شوفنمان اتخاذ بعض الإجراءات المالية تجاه العائلات التي يكرر أبناؤها الجنح، ولكن حزبه ثار عليه، واتهمه كل اليسار بquot; الانزلاق نحو الفاشية!]
إننا نسأل: هل البطالة تبرر العنف لحد استخدام السلاح؟ وهل البطالة موجودة بين أبناء الهجرة وحدهم؟، ولماذا تأتي أكثرية أعمال العنف والشغب الجماعية من الضواحي والأحياء ذات الغالبية من أبناء الهجرة المغاربية والأفريقية، وليس من الشرائح الأخرى من المهاجرين والمقيمين، من صينيين، وأسبان، وأمريكيين لاتينيين، أو عرب المشرق؟ وما علاقة البطالة بالهجوم على روضة أطفال هي مفتوحة للجميع؟
أجل، هناك بطالة، وهناك غيتوات نشأت بسبب أخطاء الحكومات الفرنسية المتعاقبة، والهجرة غير المنضبطة، وهناك أخطاء أخرى، حيث لم تكن القوانين تحرم تعدد الزوجات، وقبل أعوام قليلة فقط صار من شروط منح الجنسية التعهد بعدم تعدد الزوجات، الذي يؤدي لإنجاب عدد كبير من الأطفال، فيتركون غالبا للشارع دون أن تراقبهم العائلات،
إن الخطيئة الفرنسية ليست في رفض التعددية الثقافية، بل، على العكس، في تطبيقها بما لا يساعد على الاندماج، وعلى إتقان اللغة الفرنسية، بل يساعد على العزلة، ولا نزال نذكر التجربة الفرنسية في السبعينات والثمانينات بإدخال لغات المهاجرين لغة ثانية في المدارس، ومنها العربية. ماذا كانت الحصيلة؟ كانت عدم إتقان الطالب للفرنسية، التي هي مع الخبر المهنية، سبيل الصعود الاجتماعي، وأيضا عدم إتقان العربية الفصحى في الوقت نفسه، وقد سبق أن تطرقنا لتجربة أمريكية مماثلة في فيلادلفيا وولايات أخرى، عندما طالبت عائلات المكسيكيين، والأسبان، والصينيين، والقادمين من بورتاريكا، ألخ. بجعل لغاتهم لغة ثانية في المدارس، ولكن نفس العائلات وجدت أن التجربة ضارة بأبنائها لأنها لا تساعد على إتقان الإنجليزية، وفي استفتاء شعبي بينهم أعلنوا بنسبة 90 بالمائة وجوب التراجع عن التجربة.
إن فرنسا تحترم التعددية الثقافية، ولكنها، كما ذكرنا، فهمتها وطبقتها بالمعكوس، أي بطريقة أدت لنتائج سلبية، كتشجيع العزلة الفئوية، والتقوقع، وبعض الممارسات المخالفة لقانون العلمانية، وللقانون المدني الفرنسي، فمثلا عقدت حكومة ميتران عام 1981 اتفاقية مع المغرب، وأخرى مع مصر عام 1982، تقضيان باستثناء بعض معاملات الأحوال الشخصية من القانون المدني لصالح بعض أحكام الشريعة في مسائل الزواج، وحق الرجل في الطلاق، وحدث أن فرنسيا مغربيا متزوجا من فرنسية أصيب بمرض لا شفاء منه، فأوصى بحرق جثته بعد الموت، ولكن القنصل المغربي تدخل لمنع تنفيذ الوصية بحجة مخالفة تعاليم الإسلام. أما سركوزي، الذي يتعرض لحملات تشهير مستمرة، بما في ذلك التعريض بيهودية أحد أجداده، كما فعل وزير جزائري مبجل منذ أيام، فإنه، عندما كان وزير الداخلية، أقام علاقات وثيقة مع التنظيمات الفرنسية الإسلامية، وعمل على تشكيل مجلسها الأعلى، وذهب لحد المطالبة بتعديل قانون العلمانية ليرضي الإسلاميين، [ تراجع فيما بعد عن هذا الموقف]. نضيف أيضا أن عددا من رؤساء البلدية يصرفون من المال العام لبناء المساجد، وذالك خلافا لقانون العلمانية، الذي يحظر صرف أموال من الدولة على مؤسسات دينية.
أجل، هناك مشاكل كبيرة في الضواحي، فالبطالة واسعة، وثمة مباني سكنية تستوجب التجديد، وهناك عدد كبير من الطلبة، الذين، إما يتركون الدراسة أو يتخلفون، ناهيكم عن المشكلة الأمنية المتفاقمة، وخلال سنوات، ومع حكومات عديدة، اهتمت الدولة بالأحياء المعتبرة quot;حساسةquot;، وعملت على تحسين الوضع، ولكن النتائج الإيجابية جزئية.
لقد نشرت صحيفة quot;لو فيجاروquot; في عدد 28 نوفمبر المنصرم تقريرا يرد فيه أنه منذ 2003 صرفت المليارات لتحسين الأوضاع، وقد أطلق بالرو، وزير التضامن الاجتماعي السابق، خطة كبرى، خصص لها 42 مليار يورو لتحسين الأوضاع في 751 من الأحياء quot;الحساسةquot;، ولا شك أنه سيبقى الكثير جدا للوصول للهدف المرسوم، وخاصة لتحسين أوضاع الشباب.
إن الأوضاع الصعبة في العديد من الضواحي والأحياء ليست نتيجة حكم سركوزي لستة شهور، بل هي نتاج سياسات عدة عقود من السنين، والتخبط في رسم الخطط الواقعية.
إن ردود فعل الجاليات الفرنسية من أصول الهجرة لا ينبغي أن تكون العنف أو تشجيعه، بل أن يعمل العقلاء والمثقفون منهم للتعاون مع السلطات، والدخول في حوار مستمر معها، ومكافحة العنف والجريمة ونبذ دعاتهما، وممارسيهما؛ كما لا بد من اليقظة تجاه أئمة العديد من المساجد، الذين ينشرون الكراهية، ويعملون على عزل أبناء الهجرة عن الحضارة الحديثة، بل ويجندون إرهابيين لإرسالهم لأفغانستان والعراق، وسبق لنا ذكر أنه يوجد ما لا يقل عن 32 مسجدا أصوليا في منطقة باريس وحدها، وهو ما كشفت عنه التقارير الأمنية الفرنسية السرية، وأشير لها في كتاب quot;الإسلاميون هم فعلا هناquot;.
على صعيد آخر، نذكر أن حكم الاشتراكيين نشر خلال عشرين سنة ثقافة التساهل والتبرير في معالجة الجنح والجريمة، لاسيما عندما يكون الجانح أو المجرم من أصول الهجرة، وقد تبني كثيرون من القضاة هذه الثقافة، لتكون النتيجة تزايد العنف، مما أدى لخسارة الاشتراكيين في انتخابات 2002 كما مر.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية