كثيرة هي أمراض الحساسية التي يعاني منها مثقفونا الأشاوس، يرجع بعضها إلى فقدان الثقة في الذات، ويرجع البعض لحساسية مصطنعة، لزوم التهليل والتهريج والتهييج، والبعض نتيجة التهاب مزمن في الغدد الثقافية، التي تهاجمها منذ قرون فيروسات التعصب والتوجس والكراهية؛ فهناك الحساسية من استلاب الهوية، نتيجة المؤامرات التي تحيكها العديد من الشعوب 'لهويتنا الثمينة النادرة'، سواء لخوفهم وارتعابهم منها، أو لحسدهم لنا لأن هوياتهم 'أي كلام'، ونحن هويتنا 'ميت فل وعشرة'، وهناك حساسية الغزو الثقافي خوفاً على 'المحروسة ثقافتنا' من غزو الأمم ذات 'الثقافة المنحطة'، والذين عجزت جيوشهم عن اختراق حصون جيوشنا الباسلة، فلجأوا إلى حيلة الغزو الثقافي الدنيئة، لكن أعظم وأعز أعراض الحساسية لدى أبطال الميكروفونات والفضائيات والسيارات والأحزمة المفخخة هي الحساسية ضد 'التطبيع مع العدو الصهيوني'.
ولأن 'التطبيع' لغوياً يعني 'إعادة الأمور إلى طبيعتها'، كما يعني سياسياً 'إقامة علاقات سلمية وطبيعية' مع شعب يعيش في وسط منطقتنا هو الشعب الإسرائيلي، فإن خونة 'ثوابت الأمة' وعملاء الاستعمار يعتبرون أن 'التطبيع' هدف يجب أن تسعى إليه جميع الشعوب، وأن الحروب والصراعات بين جميع أمم الأرض لابد أن يكون لها نهاية، هي دائماً العودة إلى السلام وسيادة الأوضاع الطبيعية، أي سيادة 'التطبيع'، أما أشاوس ومجاهدو العروبة والتأسلم السياسي فهم لا يرفضون السلام والتطبيع من حيث المبدأ أو الجوهر، وإنما يشترطون له الحفاظ على 'ثوابت أمتنا'.
ورغم أن 'ثوابت أمتنا' ظريفة ولطيفة، ولا تقتضي أكثر من 'تدمير الكيان الصهيوني الغاصب'، وتحويل إسرائيل ndash; بعودة جميع اللاجئين إليها ndash; إلى جماهيرية فلسطينية ديموقراطية إسلامية عظمى، رغم هذا المحتوى العادل والحق التاريخي 'لثوابت أمتنا'، إلا أن الصهيونية العالمية المتحالفة مع الإمبريالية الأمريكية تأبى إلا أن تستدرج بعض ضعاف النفوس منَّا، بتحريضهم على الخروج على 'ثوابت أمتنا العتيدة المجيدة'، وعلى ممارسة التطبيع المتوازي مع إجراء مفاوضات تقوم على أساس تقديم تنازلات متبادلة، والبحث عن حلول للإشكاليات القائمة منذ ستة عقود، والمؤسف أن هذا البعض ndash; عن سذاجة أو عمالة ndash; ينساق إلى ما يحاك لأمتنا من مؤامرات، فيتخلون عن قول كلمة 'لا' إلى الأبد.. لا صلح ولا اعتراف ولا تفريط، وإن قبلنا الصلح والاعتراف تكتيكياً ومظهرياً، فالبركة في الثالثة 'لا تفريط' في الثوابت.
فإذا أراد العدو الصهيوني ومن يسانده السلام فلا داع لمفاوضات ومؤتمرات الهدف منها التركيع والانبطاح، وعليهم أن يقبلوا صاغرين 'بثوابت أمتنا'، وليعيدوا لنا الأرض المحتلة بعد عام 1967، ويسمحوا بدخول خمسة ملايين لاجئ فلسطيني إلى الأرض المحتلة عام 1948.. عندها فقط يمكن أن ننظر في مسألة التطبيع معهم، خاصة مع الوعود الكريمة التي تفضلت بها جماعة الإخوان المسلمين المصرية، بأنها ستسمح لليهود المهاجرين بالعودة من حيث أتوا، دون أن تذبحهم ذبح النعاج، ورغم أنهم بالأساس أحفاد قردة وخنازير، إلا أن اليهود الذين كانوا موجودين بفلسطين من الأساس سوف ينعمون بالمعاملة الإنسانية الرائعة، التي تتمتع بها الأقليات في سائر الأقطار العربية!!
إذا تركنا الأشاوس والصناديد والمجاهدين جانباً، وتأملنا خطاب الهمام أمين عام جامعتنا العربية المجيدة، لوجدناه يقول: 'لا للتطبيع المجاني'، هي العقلية السياسية الدبلوماسية إذن، التي تتمسك بما في يديها من أوراق لتلعب بها على المائدة، وتحصل في مقابلها على أقصى ما تستطيع أو - طبقاً لعقليتنا - على كل ما نريد، ولا نعطيها للخصم هبة مجانية، فلا يتبقى لنا بعدها إلا التوسل، ومبدئياً هذا تكتيك رائع ولا غبار عليه، وينم عن موقف قومي مجيد، وعن عبقرية سياسية لا نظير لها، لكن عند التطبيق العملي تظهر مشكلتان، أولهما أن هذه هي الورقة الوحيدة بيد صاحبنا الهمام حبيب المطرب المعجزة شعبان عبد الرحيم، بعد أن تسببت ورقة العنف والاستشهاديين ذوي الأحزمة الناسفة ومواسير حماس المتفجرة في نتائج عكسية وبيلة على شعبنا الفلسطيني، وأمرَّها الجدار العازل وإغلاق المعابر والحواجز على كل الطرق، بما حول الضفة والقطاع إلى سجن كبير، وحين تجلس على مائدة وأنت لا تحتفظ في يدك أو جيبك إلا بورقة واحدة، فلن تجني من الجميع إلا الشفقة ومصمصات الشفاه!!
المشكلة الثانية وهي الأخطر طبيعة ورقة 'التطبيع'، تلك الطبيعة التي لابد وأن تحدد لك كيف تلعب بها على الوجه الصحيح، فإذا لعبت بورقة التطبيع مثلاً في مواجهة ورقة انسحاب القوات الإسرائيلية من الأرض المحتلة، نجد أن انسحاب تلك القوات يمكن أن يتم فورياً، أي خلال أيام أو أسابيع، ويمكن التحقق من تمام تنفيذه، وبالتالي فمصداقيته قابلة للاختبار المادي، والماضي يؤكدها في اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن، أما ورقة التطبيع التي تعني علاقات سلام طبيعية بين الشعوب، وليس مجرد علاقات عدم اعتداء بين الدول، فإن التلويح بها على مائدة المفاوضات يلزمه برهان للمصداقية، والمصداقية هنا تعتمد على أكثر من عنصر: الأول إثبات حسن النية وصدق إرادة التنفيذ، والثاني القدرة على التنفيذ، والثالث ضمان الاستمرارية، هذا بالطبع إذا لم نفترض أن الطرف المقابل (العدو الإسرائيلي) يمكن أن 'يشتري الترام للمرة الثانية أو الثالثة'!!
الآن كيف يتصور السيد/ عمرو موسى أن تتم المقايضة على التطبيع (ورقته الوحيدة)، وكيف يثبت للطرف المقابل حسن النية وصدق إرادة التنفيذ، ووسائل الإعلام العربية الرسمية وغير الرسمية تمارس تحريض الجماهير ضد السلام وضد العدو الصهيوني الغاصب وضد اليهود أعداء الله؟!
وكيف يثبت قدرة الأنظمة العربية على تحقيق السلام والتطبيع الشعبي، ورئيس السلطة الفلسطينية لا يكاد يسيطر إلا على محل إقامته، فيما الشارع الفلسطيني تتنازعه المنظمات الراديكالية من كل لون، ويسيِّر المظاهرات الغاضبة المنددة بالتفاوض والتفريط والانبطاح، وكذا حال الجماهير المناضلة في العديد من العواصم العربية، وفي مقدمتها جئير الأشاوس على سلالم نقابة الصحفيين بالقاهرة، صاحبة أول معاهدة سلام مع العدو الإسرائيلي، استردت بموجبها ترابها الوطني كاملاً إلى آخر حبة رمل، كما كان يقول الراحل السادات بطل الحرب وبطل السلام؟!!
وكيف يثبت مفاوضنا ضمان استمرارية التطبيع، مادام الأمر مرتهناً بثقافة سلام مفتقدة، ليس فقط بين العرب والعدو الصهيوني الغادر، إنما مفتقدة بالأساس بين المكونات الداخلية للأقطار العربية، تلك الأقطار التي تثبت طوال الوقت فشلها الذريع في التطبيع مع مواطنيها من الأقليات، ناهيك عما تعانيه حتى الأغلبية من حكوماتها، من يأخذ على محمل الجد وعودها بالسلام والتطبيع مع اليهود أعداء الله؟!
إن الوعد بالتطبيع أشبه بالوعد بإنجازات قوات مسلحة لم تقم بعد بشراء سلاحها ولم تعبئ أفرادها وتدربهم على القتال، وبالتالي فالتلويح بورقة التطبيع في المفاوضات يساوي التلويح بتهديدات عسكرية لا نمتلك من مقوماتها جندياً أو بندقية واحدة، بل الأمر في الحقيقة أسوأ من ذلك، فليست مهمة تجهيز القدرة والقابلية للسلام مرتهنة برحلة نشر ثقافة السلام فقط، فالأمر يتطلب في البداية استئصال ثقافة العداء والكراهية، التي نجحنا في ذرعها بالمنطقة نجاحاً منقطع النظير، عاد علينا بالخير والبركات بالاقتتال الداخلي فيما بيننا في أكثر من قطر عربي.
نعم التطبيع حاجة حيوية لإسرائيل، فهي الأمر الوحيد المفتقد لديهم، بعدما حققوا كل ما أرادوا من سيطرة على الأرض وإقامة دولة قوية وحضارة، وهم في سبيل تحقيق التطبيع يمكن أن يذهبوا إلى أبعد الحدود وأمرِّ التنازلات كما يقولون، لكن المشكلة كما استعرضناها هي أننا نمتلك ورقة التطبيع نظرياً، أما من الوجهة العملية فنحن لا نمتلكها ولا نقوى على تفعيلها وتنفيذها، كما لم نقو على استخدام أي وسيلة أخرى لتحرير أراضينا وحل مشاكلنا، في ظل أيديولوجية العروبة وعلى أيادي صناديدها!!
مشكلة ورقة التطبيع عند المقايضة أنها لا تصلح لنظام الدفع عند الاستلام، أو مبدأ 'هات وخذ'، فهي كما قلنا غير قابلة لأن تعطى فجأة، وخبرات إسرائيل السابقة في هذا المجال تؤكد لها وهم تفعيل قرارات التطبيع الفجائية والفورية.. ونحن نريد ثمناً مقدماً لمجرد المصافحة بين الوفود المتفاوضة، وهذا حرص رائع وحصافة لا نظير لها، لكن المهم من يشتري بضاعتنا التي يؤكد التاريخ، ونؤكد نحن ليل نهار أن صفقاتها السابقة كانت وهمية؟!
مشكلة ورقة التطبيع إذن أنها مثل شيك بدون رصيد، ويلزمها للتداول أن يوضع لها رصيد، وأن تختم بختم 'مقبول الدفع'، أي نشر ثقافة السلام أولاً بين شعوبنا، وأن نبدأ التفعيل العملي لها قبل موسم جني الثمار بفترة طويلة، تحتمها طبيعة التحولات الثقافية، لكي نقنع الشعب الإسرائيلي أننا فعلاً قد قررنا أخيراً قبوله بيننا، وأن بينه وبين السلام النهائي مجرد جلوس الساسة معاً لتوقيع اتفاقيات السلام، عندها يمكن أن يجبر الشعب الإسرائيلي حكومته على الرضوخ لمتطلبات السلام، نقول يمكن لأننا يمكن أيضاً أن نبادر بالسلام ثم لا نحصل على الحد الأدنى من مطالبنا المشروعة، وعندها ستمتنع حكوماتنا عن التوقيع على السلام النهائي، ونتراجع في نهج التطبيع، لكن تكون ورقة التطبيع قد فقدت جزءاً كبيراً من قوتها.
هي فعلاً إشكالية كبيرة، فالورقة الوحيدة لدينا غير قابلة للصرف بالطريقة التي نستخدمها بها الآن، ولن يقبلها العدو وفق نظام 'هات وخذ' أو أن يدفع هو مقدماً، وندفع نحن بالتقسيط المريح دون ضمانات، كما أنها إذا استخدمناها بطريقة أن ندفع نحن مقدماً، ستفقد بعض أو كل قوتها، وربما نكتشف عندها أننا نحن الذين قد 'اشترينا الترام'، فماذا نفعل: 'نقفل الشباك ولا نفتح الشباك؟!!'
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية