فى الجماعات الصغيرة المحدودة، كالأسرة أومجموعة من الأصدقاء أوجماعة من العلماء، وما ماثل، لا يوجد بينها قانون بالمعنى الخاص للقانون، بوصفه تشريعاً يصدر عن سلطة. ذلك أن ما يسود فى العائلة أو فى المجموعات قليلة العدد من العلماء والباحثين، ومن هم على شاكلتهم، ويكون الأساس فى القول والفعل، فى العمل والتصرف ndash; هو القلب النقىّ والضمير العفىّ، الذى يرتبط بالقدسية وينضبط بالجلالة، فيعرف به كل واحد وضعه ويلتزمه كل فرد فيما يفعل ويقول أو فيما لا يفعل ويقول. ويرى بعض العلماء، وأولهم إميل دوركايم، عالم الإجتماع الفرنسى أن الضغوط الإجتماعية (Social Pressurs) قد تكون ndash; فى بعض الحالات ndash; عوضا عن القلب النقىّ والضمير العفىّ، فيكون أثرها على الشخص شديداً وفعالا، ما دام يُعنى بوضعه الإجتماعى أو مركزه الإعتبارى، بأكثر مما يرعى الله أو يتحوط لضميره من واقع الاثم والهوان.
بعد أن تعقدت الجماعات، ونشأت الممالك (التى سُميت دولاً States ابتداء من الثورة الفرنسية عام 1789) لم يكن بد من اللجوء إلى القانون كنظام يحمى الجماعة ويرعى كل فرد فيها، دون أىّ تمييز بين المواطنين الذين يخضعون له (أى للقانون)، بسبب الدين أو الجنس أو اللغة أو العنصر، أو بسبب رياسة أو سلطة أو إستثناء.
ولقد راى العالم كله، كيف خضع رئيسين من رؤساء الولايات المتحدة للقانون، بسبب الحنث فى اليمين أو بسبب التلاعب فى أدلة قضائية، وهما ليسا مما يدخل فى جريمة الخيانة العظمى. وبينما بُرّىء (أو بالتعبير الأمريكى: أسقطت التهمة) عن كلينتون بسبب مهارة قانونية دللت على أنه لم يحنث باليمين، فقد تم خلع نيكسون (Impeachment)، ولم يقف بجوارهما أحد من الأصدقاء أو المعارف أو غيرهم، ليدفع الاتهام بدعوى أنه رئيس للجمهورية. وقد حدث مثل ذلك، أى محاكمة رئيسين للجمهورية، فى كوريا الجنوبية، لأن أحدهما أمر بتفريق المظاهرات بالقوة، ولوجود شبهة تأكدت فى تصرفات الثانى.
فالقانون، لا يكون قانونا وفقا للضوابط والمعايير العالمية، إذا ما حدثت منه استثناءات، أو إذا تم تطبيقه بالاختيار على من تشاء السلطة إخضاعه للقانون، لسبب أو آخر، لأنه ndash; إذ ذاك ndash; يكون قد تمحض عن إرادة حاكم، أو رغبة مجموعة، فى التطبيق الإختيارى له (أى للقانون)؛ بينما يلزم أن يكون القانون فعالا بذاته، بمجرد وجوده، لا يعلو عليه أحد ولا يستثنى منه فرد. وما قيل عن مراكز القوى فى عهد عبد الناصر، كان يرمى إلى جماعات نشأت ثم كبرت ثم جمدت على امتيازات تجعلها فوق القانون، أو اختيارات تطبق القانون وفقا لرأيها.
القانون بطبيعته، استثناء من الأصل الذى كان والذى سوف يكون، حال التقدم الانسانى حين يسود حكم القلوب النقية والضمائر العفية.
وعدم تطبيق القانون على الوجه الأكمل، أو بتأويل فاسد أو بتعليل بائد، لايمكن أن يكون سببا فى منع الحديث عن الاصلاح الانسانى الربانى الذى ينقىّ القلوب ويصفىّ الضمائر، إذ لا مندوحة من ظهور أقلام تكتب أو أصوات تصيح، مهما كان الفساد ومهما تعفن وتحصن، لأنه لابد من أن يكون صوت الحق موجودا دائما، عاليا أبدا، حتى لا يتزايد تخافت القلوب أو تهافت الضمائر، وإلى أن يأتى الوقت لتماسك هذه وتدارك تلك.
فى عهد الامبراطورية الرومانية ndash; نسبة إلى روما ndash; وفى أوج ازدهار القانون وحسن صياغة ودقة تطبيقه، ظهر تعبير يقول: القوانين تلتزم الصمت أمام الجيش (أو عند الحرب وهو باللاتينية Silent lege enfer arma)؛ وهو ما عبرت عنه مدونة جستنيان فى مبدأين هما:-
-رأس القوانين ما كان خاصا بسلامة الوطن.
-لتكن سلامة الوطن أول مقاصد الشارع (المشرع).
وباسم هذه المزاعم، ولاستمرار الحروب والفتن والقلاقل، سقط القانون وسقط حكمه فى أكثر البلاد، بل وصار فى البعض منها، يعنى بأمن الدولة أمن النظام الحاكم أو أمن الزعيم.
وعن ذلك يـُذكر مثل مهم. فقد تمحّضت الثورة الفرنسية عن جنرال صغير هو نابليون بونابرت. وقد أُرسل نابليون على رأس جيش من الرعاع الجياع لنشر مبادىء الثورة الفرنسية عن الحرية الإخاء والمساواة فى البلاد الأوربية. وقد كان بيتهوڤين (الموسيقار) مولعا بالثورة الفرنسية ومبادئها. وإذ أباح نابليون لجيشه حق السلب والنهب فقد انتصر فى موقعة أوسترلتز، وأدى به الانتصار الى الشهرة، ودعته الشهرة إلى الانقلاب على سلطة الحكم وتعيين نفسه قنصلا ثم امبراطورا. واستغل بطل الثورة غزوات جيشه، بالدم والعرق والجوع والقلق، ليعين اخوته وأصهاره ملوكا على البلاد المغـْزوة، ولما أدرك بيتهوڤين أن مبادىء الثورة تحولت فى يد نابليون إلى غنائم لنفسه ولأسرته، شطب على اسم السيمفونية الثالثة التى وضعها تخليدا لنابليون، وسماها البطولية، وكتب عليها من ثم quot; فى ذكرى بطل quot;.
وفى مصر فإنها ومنذ الحرب العالمية الثانية التى اشتعلت عام 1939، تـُحكم بالأحكام العسكرية التى قيل لتجميل الاسم إنها الأحكام العرفية، ثم سميت فى عهد عبد الناصر قانون الطوارىء. وقد رُفعت هذه الأحكام العسكرية عام 1945 ثم أعيد فرضها عام 1948 أثر حرب فلسطين. ومن وقتها ترزح مصر تحت عبء الأحكام العرفية، عدا بضعة شهور أواخر حكم السادات. وفى ظل الطوارىء تقف أحكام القوانين، وتحل محلها إرادة الحكام. فمسألة مثل إيجارات الأماكن، وهى مسألة مدنية محض، عولجت عام 1943 بالأحكام العسكرية، وعند إلغاء هذه الأحكام عام 1945 أبقى الالغاء على الأوامر العسكرية المنظـَّمة لايجارات الأماكن إلى أن صدر بها القانون رقم 121 لسنة 1947.
ومع بقاء الأحكام العرفية أو أحكام الطوارىء فترة طويلة، يزول الفاصل بين العادى والاستثنائى، ويمّحى الفارق بين حقوق الناس وتغوّل الادارة وبطش السلطة، باسم حماية أمن الدولة (أو بالأصح أمن نظام الحكم)، تضيع حقوق الأفراد وحريات الناس، ولا يعود لقانون الاجراءات الجنائية وجود (مع أنه قانون الشرفاء، لأنه يحمى حرية المواطنين من القبض العشوائى ويحمى منازلهم من التفتيش الباطل) فيكون لأى من رجال الشرطة أن يقف (يوقف) أى سيارة وأن يقبض على أى شخص وأن ينسب اتهاما لأى مواطن. وهكذا، متذرعا فى كل ذلك بالأمن العام ومستندا إلى طول مدة حالة الطوارىء التى طوّعت المواطنين، وبددت حقهم فى الشكوى كما ضيعت حقهم فى مقاضاة أى معتد على حقوقهم.
وفى هذا الجو الوخيم صارت تصدر قوانين سُميت بالقوانين سيئة السمعة، منها ndash; على سبيل المثال ndash; قانون البلطجة وقانون الاشتباه السياسي، وهى قوانين لا تطبق اطرادا متى قامت حالة لتطبيقها، لكنها تطبق متى شاءت السلطة، أى إنها كمن يضع مشنقة فى ميدان عام، فتكون دون استعمال لها، فزّاعة لأى مواطن.
فى فقه القانون مبدأ مؤداه أن quot; لا يُعذر أحد بجهله القانون quot; وبالفرنسية Nul ne pais ignore la loi ويكون العلم بالقانون أو افتراض العلم به نتيجة نشره على نطاق واسع، لا فى الجريدة الرسمية فحسب؛ إنما تفتقت الحيلة عن نشر نسخ محدودة من القانون الذى يُراد تطبيقه دون أن يعرفه أحد أو يقرأ نصوصه مواطن. وتقدم الدراسة عن هذا الوضع مثالا واحدا يغنى عن كثير. ففى اكتوبر عام 1993 استصدر وزير العدل الأسبق أمرا جمهوريا بقانون ينص على مدّ سن القضاه إلى 64 عاما بدلا من 60 عام. وقد استند فى الامر الجمهورى على مادة لا تبيح اصدار قوانين لكنها تجيز اتخاذ أعمال مادية إذا وقعت أحداث معينة فى غيبة مجلسى البرلمان، أى إذا كانا فى غير دور انعقاد. وفى مجلسى التشريع أصر بعض الأعضاء على أن يُضمن الأمر بقانون نصا بتطبيقه على رجال القضاء الذين أحيلو إلى التقاعد، ولم يبلغوا سن الرابعة والستين. فرد الوزير الأسبق قائلا إن مقتضى الأثر الفورى للقانون أن ينطبق على كل من لم يبلغ سن الرابعة والستين من رجال القضاء، لأن القصد من مدّ السن هو الحفاظ على خبرة قضائية عريضة. وارتضى الأعضاء هذا التفسير فأقروا الأمر الجمهورى وصار قانونا. غير أن الوزير المذكور لم يطبع إلا عددا محدودا من الجريدة الرسمية التى نشر فيها القانون، والمناقشات التى حدثت بشأنه فى مجلسى التشريع، وتأكيده عن أن لا ضرورة للنص على ما سوف يحدث بالفعل نتيجة الأثر المباشر لنفاذ القانون.
وكان ذلك رغبة منه فى استبعاد قضاة واستبقاء آخرين، فصار القانون تحقيقا لشهوة وزير، دون أن يجد أحدا يسائله أو يقاضيه، مع أن فيما فعله ما يوقعه تحت طائلة قانون محاكمة الوزراء.
وطفق القضاة الذين منع الوزير تطبيق القانون عليهم، يتجولون بين المكاتب ويتسولون حقهم المهدور، دون أن يجدوا نسخة من القانون يحاجّون بها من يقف أمامهم، لا بمنطق القانون وحده ولكن بقول الوزير ذاته. وبعد مُدة، وإذ كانت قد فترت همة الجميع لسبب أو آخر، أمكن بجهد جهيد الحصول على نسخة من القانون، فكان فيها ما يدين الوزير أبلغ إدانه. وعندما لجأ أحدهم إلى القضاء يطلب حقه المهدور، لم يجد عدلا ولا نصَفـَة. فإذا كان هذا هو الشأن مع وزير العدل ومع القضاة، فهل مع الاستثناءات ووجود حصون قوى تجحد أىّ قانون، وتنفذ منه ما ترى ويروق لها، هل مع كل ذلك يمكن أن تقوم العدالة أو يمكن الحديث عن حكم القانون؟

Email: [email protected]

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه