لعل شاشة الفضائيات المهتمة بالشأن السياسي منها خصوصًا تعمد إلى إثارة الجدل الحاذّ من خلال برامج حوارية تتضمن وجهات نظر مختلفة، وعند متابعة سجالات المثقفين والساسة من خلال هذه البرامج نجد ان تبادل التهم بالازدواجية والتناقض، محور مهم لدفاع الواحد منهم عن نفسه وفكره، وتُعد هذه الحجة- بنظر الكثيرين - أحد أهم الأدلة المستخدمة وأقواها خلال الاعتراضات الدائرة اثناء المنتديات العامة منها والخاصة، كما نلمس أثناء الجدل ان كل طرف يقدم المعلومة على انها هي الحقيقة الخالدة وانها عين الصواب في وقت لا يتجاوز الساعة تطرح قضايا عميقة تعجز أقوى الديبلوماسيات عن حلّها، ويحاول كل طرف في كثير من الأحيان الأستدلال بـquot;نصوصquot; بعضها يوصف بالمقدس، سواء كانت قدسيتها quot;لاهوتيةquot; مستمدة من quot;الدينquot; اوكانت قدسيتها قانونية مستمدة من quot;نصوص دستوريةquot;، او كانت قدسية quot;اجتماعية مستمدة من quot;الاعراف والتقاليدquot;....، غير انها جميعا تُقدم للرأي العام على أنها quot;مسلّمات بديهية لا تقبل النقد ولا حتى التحليل.
وتأخذ السجالات الفكرية والسياسية طابعها الحاد العنيف عندما تتقابل quot;المقدسات quot; عند طرح القضايا، وكلّ يحاول ان يقدم quot;مقدسهquot; ليواجه quot;مقدس quot; الآخر، وتأخذ quot;الحقيقة quot; في هذه الحالة بعدًا quot;لاهوتياquot; quot;انطولوجيًّا quot;، فتعلو أصوات quot;التفكير quot; او quot;التخوين quot; او quot;التنكر للquot;الاصل quot;....
و عندما تتحول مفاهيم quot; الحقيقةquot; إلى مفاهيم أنطولوجية يتحول التأويل معها إلى مفهوم إبستمولوجي، فالخطاب الديني المعاصر كما السياسي، مازال يتعثر في محاولاته لتجاوز الإزدواجية المفاهيمية من خلال الايمان بحرفية الدلالات، ونجد ان الخطاب السائد اعلاميّا، سواء في دور العبادة ام الفضائيات، ينفي عن العالم الماورائي الازدواجية الدلالية، والاخطر من ذلك انه يمارس تأثيره على كافّة مستويات بنية الوعي كافة بما فيهاالاجتماعي و الحضاري...... وانني ان ارى -من وجهة نظري - ان التعددية الدلالية قائمة في كافة المفاهيم الأنطولوجية وهي قابلة للتأويلات اللامتناهية فلا يوجد quot;نص quot; ذو قراءة واحدة وتأويل واحد، ولا يوجد ماهو ملزم على المستوى الفكري....
وإن جلّ الطروحات الاجتماعية والسياسية والدينية المطروحة اليوم، تُعرض وكأنها غير قابلة للنقد، كذلك القراءة التاريخية للحضارات البشرية فإنها تٌقدم على شكل حقائق خالدة ن فقد تمّ اختزال quot;التراث العربيquot; في quot;الاسلامquot; كما تم اختزال quot;الغربquot; في أحد بعدي quot;الآخرquot; فهو ذلك الغازي المحتل ليس إلا...
أما على المستوى الإجتماعي، فقد وضعت الأطر المحدِّدَة للعلاقات بين الافراد بشكل quot;مسلّمات quot; تتحلى بسلطة تفوق سلطة quot;الدينquot; في بعض الاحيان، ففي بعض المجتمعات لا يمكن نقد البنية القبائلية والعشائرية او حتى طرح آليات لتطويرها وفي مجتمعات أخرى يُحرم الاقتراب من نقد الطائفية او المطالبة بإلغائها ولو على مستوى التعاملات اليومية....
كل ذلك يترافق ويتداخل مع بنية الوعي السياسي المصاحب لها، فالنظم السياسية السائدة وان تعددت أشكالها، بين نظام جمهوري، وآخر ملكي، ونظام يعتمد التعددية الحزبية....غير انها تتفق جميعًا في طابعها الديكتاتوري التسلطي القاهر، وانها quot;سلطة quot; مستمدة من quot;حقائق خالدة quot;، حيث يعمل quot;الزعيمquot; او quot;الملك quot; او الرئيس quot;...على استعاب كل الوطن ومفرداته في شخصه quot;الكريم quot; فيعمل على مصادرة الحقيقة وتأويلاتها كافة، وهنا تصبح عملية نقد الحاكم خيانة للوطن ويصبح الخلاف معه نوعًا من الالحاد المحرمّ....
وتتلازم هذه العملية عبر البعد الثقافي فيعمل quot;مثقف السلطة quot; على تأطير quot;الحقائق quot; بشكل يتلاءم مع quot;الزعيم quot; وترجمتها للمؤسسات السياسية والاجتماعية.....فالمثقفين وعبر التيارات فكرية، يمارسون دور quot; قامع quot; من خلال العمل على طرح الرؤى الفكرية على انها تلك الحقائق الحقة، التي لا تحتمل سوى دلالة واحدة صحيحة هي تلك التي يتبنّاها هذا المثقف او ذاك...


إرادة الهيمنة بين quot;السلطةquot; وquot;الحقيقة quot;:
فالاشكالية بين quot; السلطة quot; وquot;الحقيقة quot; وquot;النص المقدس quot; تبقى الإشكالية الأعقد لفهم وتحليل إردات الهيمنة التي يرزخ تحت وطأتها الإنسان اليوم في ظل السياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية...
فالاشكالية السياسية بالنسبة لمثقف اليوم ndash; من وجهة نظري - ليست في انتقاد المضامين الأيديولوجية والدوغمائية وحسب، كما انه ليس بالامكان العمل على تكوين ممارسة عملية مصحوبة بأيديولوجيا واحدة صائبة، كما أن المشكل لايكمن بتخليص الحقيقة من كل منظومة سلطة كما يطرحه البعض....إنما الاشكالية تكمن في ان يَعرف المثقف ما إذا كان بالامكان سن استراتيجية وعي جديد ومغاير عن الحقيقة ذاتها وانه لا توجد دلالة واحدة لحقيقة واحدة...
فالحقيقة متعددة من حيث أصلها وتكوين نشأتها، ناهيك عن دلالاتها التي تحتمل تأويلات متنوعة، فلا يوجد خير محض وشر مطلق، ولا يوجد حق دائم أوباطل مستديم،، كما انه لا توجد قراءة واحدة فقط، بل نحن امام تأويلات لا متناهية لحقائق لا متناهية...
وبناء عليه لا توجد هوية quot;نقيةquot; صادرة عن quot;حقيقة quot;، ولا يوجد quot;أصلquot; فكري quot;صافيquot;، فالهويات الانسانية سواء منها الهوية الفردية ام هوية الجماعات المتبلورة في ما يطلق عليه بالاوطان او المؤسسات المجتمعية، هي مزيج من تراكيب متنوعة وتحمل في طياتها مخزون هائل من مكتسبات حضارات الكائنات الأرضية كلهاعلى مرّ العصور. فالهوية الانسانية هي مزيج لتراكم طويل متشابك ومتطوّر ومتغير يتلون بتلون الازمان والاماكن والافراد....
لذلك فإن القول بمجتمع متجانس ذو ايديولوجية صافية ضرب من الوهم والخيال، و عملية القول بأن هناك عصور ذهبية واخرى عصور انحطاط ليس قولا صائبا، وهو الذي أوقعنا في وهم صناعة التاريخ والتاريخانية،ورمى بنا بصورة قسرية في أشكال التفكير المذهبي والايديولوجي وقهرية التصورات السائدة والمعتقدات والمؤسسات والممارسات القائمة والتي حالت دون الانسجام النظري والذاتي مع دلالات جوهر الاشياء، فلكل عصر حلوه ومرّه وتجربته المتشابكة مع بقية العصور، وكل شيئ نسبي، فليس هناك quot;حقيقة تاريخيةquot; بل quot;حقيقة بالنسبة إلى..quot; واني اعتقد ان جلّ ما يمكن للانسان بلوغه في عالمنا الارضي هو مجرد عمليات تسويات واتفاقات وتلونات، سواء على المستوى الذاتي للأفراد ام على مستوى علاقات المجتمعات البشرية.

تعددية الحقيقة ونسبية المعايير:
ويقف الفرد منا اليوم امام واقع كوني متسارع ومنفلت في آن، وسط تشابك وتعقيد بالغين من حيث سيرورته وصيروته فينظر بعين تعددية الابعاد فيجد تحدّيات لا تجابه، الا بالعمل وفق معايير متعددة وأنظمة منفتحة متحركة ومتعددة التركيب، فلا بأس وفق هذا التصور من التعدد ولا خوف من الالتباس والازدواجية، وهذه الاطروحة تتبلور من خلال:
تنوع الحقائق وأصولها، و تعدد الرؤى وألوانها، و تشابك المصائر وتعقيداتها، ونسبية الاعمال ومعايرها...
وينبني على على هذا التصور امور منها :
bull; إن هذه الاطروحة تلغي منطق الادعاء بالتحكم بالقوانين، فيما يتعلق بالقوانين الواقعية، أو النظم السياسية، او الشرائع الدينية...لأن القوانين والنصوص كلها بما فيها quot;اللاهوتية quot;، هي بالنهاية أحد أشكال الخطاب، و الخطابات متساوية في كونها خطابات ولا احد منها يمتلك الحقيقة.
bull; هذه الأطروحة تقوّض الأنظمة الأحادية والتوتاليتارية الشمولية، فتُسقط كل النماذج الأبديةالآحادية، التي تمنح نفسها الحق الحصري في منح صكوك الوطنية، والديموقراطية، والحرية، و الغفران السياسي منه والديني على حدّ سواء، وتصادر الحقائق وتحتكر التفسير وتجبر كل الكائنات المحيطة بها على اعتناق تأويل واحد هو ما تزعم انه quot;حقيقة quot; أكيدة.
bull; من مفاعيل هذه الرؤيا أنها تكسر صورة النموذج من الذهنيات وتلغي المنطق القائم على التماهي بالمثل، حتى على المستوى الفردي طالما ان الاصل مزدوج ومتنوع، فكل كائن حالة قائمة لا يتطابق مع نفسه او يتساوى مع ذاته، ولا يوجد ذات وآخر، لأن الآخر يخترقنا بشكل دائم ونحن نخترق الآخر، و قد تتنوع الأطوار بين الافراد فالغير قد يكون ما كنّا نحن عليه، او ما نرغب ان نكون عليه، او مانحن عليه الآن، او ما نخفيه، لذلك فإن التعامل من منظور الذات المتنوعة المتطورة يجعل كل البشر في الارض شركاء بعضهم البعض.

كاتبة لبنانية

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية