مصر وعصور الاضمحلال (1)
استعرضنا في الجزء الأول تحت نفس العنوان ملامح ما نعتبره عصر انهيار مصري، انهيار ليس فقط في كفاءة جهاز الدولة البيروقراطي العتيد، بل في قيم وسلوكيات وسيكولوجية الشعب المصري، كنتيجة لما حدث من تدمير يكاد يكون متعمداً، لكل مقومات الحياة والشخصية المصرية خلال النصف قرن الماضي، والذي سقطت مصر خلاله في قبضه ثلة من الضباط المغامرين، المفتقدين للرؤى والعلم والحكمة، والمتعطشين للسلطة المطلقة بكل ما تجلبه لصاحبها، ويمكن بالقليل من التجاوز تقسيم النصف قرن الماضي إلى ثلاث مراحل:
bull; مرحلة الاستبداد وتمتد من بداية سيطرة المغامرين عام 1952، وحتى الافتضاح عام 1967.
bull; مرحلة إطلاق سراح مارد الجماعة المحظورة من القمقم مع بداية السبعينات، وتسليم مصر لهم، لينموا ويتكاثروا، مفرخين شياطين الإرهاب، ومبشرين بفكر يلبس ثوب الدين، ليغزوا به المجتمع وسائر مؤسسات الدولة، ويصل الأمر أن يهجر طاغية تلك المرحلة العرش الذي جلس عليه أسلافه لأكثر من خمسة آلاف عام مضى، وهو عرش الحاكم المصري لدولة مصرية، ويستبدله بعرش جديد يتوافق مع طبيعة المرحلة التي يخوض في وحلها، وهو عرش الحاكم المسلم لدولة إسلامية، وهو ما أعلنه في وضوح وصراحة، بالإضافة إلى تعملق مارد الفساد المالي، وظهوره العلني على الساحة، بعد أن ولد وعاش مستتراً طوال المرحلة السابقة.
bull; المرحلة الأخير منذ بداية الثمانينات وحتى الآن، وهي مرحلة النضج والتمكين لكل عوامل الفساد والإفساد التي تم إنتاجها في المرحلين السابقتين، وهو ما خصصنا لملاحظاتنا حوله مقالنا الأول في هذه السلسلة، وتعتبر مداخلتنا أن هذه المرحلة هي الأخيرة والممهدة لدخول مصر عصر الاضمحلال.
نعيد التأكيد أن التاريخ لا يعيد نفسه، فتاريخ الإنسانية ليس دوائر مغلقة، تبدأ من نقطة لتعود إليها في عود أبدي بلا نهاية، وإلا لظل الإنسان يراوح مكانه، برفقة أجداده وأعمامه القردة على أغصان الأشجار، فلا يمكن أن ينجب اليوم غداً مماثلاً لما كان عليه الأمس، مادامت مكونات اليوم التي يتشكل الغد عبر تفاعلها الجدلي، تختلف بقدر أو بآخر عن تلك التي كانت فاعلة بالأمس.
كما أن التاريخ لا يسير في خط مستقيم صاعد باستمرار نحو غائية مفترضة، أو وفق منحنى نطلق عليه حكم قيمة، حين نمنحه توصيف أو تسمية 'تقدم'، فما نطالعه في تاريخ الإنسانية من أهوال وكوارث وانهيارات يفضح تهافت تصور المسيرة الخطية الغائية، التي تتجه باستقامة صوب نموذج أو غاية مفترضة، تقبع دائماً خلف خط الأفق، وفق التصور المثالي للجدل الهيجلي.
إلا أن المقارنة بين بداية المسيرة الإنسانية الحضارية، وبين ما وصلنا إليه في عصرنا الحاضر، تدفعنا على الأقل للقول بأن البشرية تسير في خط صاعد، لكنه ليس مستقيماً تماماً أو متصلاً على الدوام، وإنما يحفل بالانكسارات والارتدادات والانحناءات والتوقفات، وهو ليس خطاً بالشكل الذي نعرفه من علوم الهندسة، بما يوحي بأن الشعوب جميعاً تنتظم في مساره، وإنما هو أشبه بحزمة أو أنبوب من النقط المنتشرة عشوائياً، تتبادل الشعوب مواقعها داخلها، ويسقط بعضها كما لو يستقل مركبة تعود بالزمن إلى الخلف، فيما قد تقفز شعوب أخرى لتسبق الزمن ومن عداها من الشعوب، ومع ذلك فمسيرة البشرية من المنظور الواسع والمدى الزمني الطويل تأخذ منحى صاعداً، نحو المزيد من الرقي والرفاهية للإنسان، عبر تعاظم قوته وقدرته على التحكم والتأقلم مع محيطه الحيوي بما يشمل من مكونات، كما يمكن الادعاء بأن القوانين الأساسية التي تضبط العلاقات بين مكونات الواقع تكاد تكون ثابتة، ويقتصر التغيير على نوع وكم مكونات الواقع الداخلة في شبكة التفاعلات والجدل، وهذا بالتحديد ما يمنع التاريخ من أن يعيد نفسه، ويبقيه في نفس الوقت كنزاً وذخيرة للمعرفة الإنسانية، لا يخلو تدبره من فوائد لدفع مسيرة الإنسانية خطوات أخرى نحو المستقبل.
قد يكون من المفيد إذن لمصري يوشك وأبناؤه وأحفاده على معايشة عصر اضمحلال، أن يرجع لتاريخ بلاده وعصور اضمحلالها، عله يكتشف بعض القوانين الأساسية، التي تحكم صيرورة النهضة والسقوط.
إذا عدنا إلى الأجزاء الأخيرة من المملكة المصرية القديمة، التي حكمت مصر ما بين 3000 ndash; 2181 ق.م.، والتي أعقبها ما يعتبر في تاريخ مصر والإنسانية عصر الاضمحلال الأول، سوف نجد ثلاث أسر حكمت مصر، يمكن اعتبارها تمثل ثلاث مراحل قبل السقوط، وهي الأسرة الرابعة (عصر بناة الأهرام) نحو 2613 ndash; 2495 ق.م.، ثم الأسرة الخامسة نحو 2494 ndash; 2364 ق.م.، وأخيراً الأسرة السادسة التي أعقبها الانهيار، وحكمت مصر نحو2345 ndash; 2181 ق.م.
لنر ماذا يقول المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي عن هذه الفترة، في كتابة الإنسان وأمنا الأرض (تاريخ البشرية ترجمة نقولا زيادة ndash; بيروت 1981):
bull; 'كانت مركزية الحكومة تزداد باضطراد، كما كان تركيز السلطات بيد الفرعون يتزايد أيضاً.... وقد بلغ استبداد الملكية الفرعونية غايته زمن الأسرة الرابعة.'
bull; 'والانتقال من الأسرة الرابعة إلى الخامسة لا يظهر انقطاعاً في سلسلة النسب، بل تحولاً في اللاهوت الفرعوني، الذي كان في الواقع تنازلاً من قبل الحكومة في ممفيس لكهنوت هليوبولس' (يمكن الربط بين صلة النسب بين الأسرتين، وبين تسلم نائب الرئيس للحكم بين المرحلتين الأولى والثانية المعاصرتين، كذا التماثل بين تنازل الحكومة في ممفيس لكهنوت هليوبوليس للتبدل الجوهري للخطاب الديني المصري المسالم وتراجعه أمام الفكر الوهابي)
'والسبب الثاني لانحطاط المملكة القديمة وسقوطها كان العبء المالي المتراكم بسبب ما شاده الفرعون من المدافن والهياكل.... ومعنى هذا من الناحية العملية هو الإنفاق غير ذي المردود الاقتصادي على جمع من الكهنة كان يتزايد باستمرار، وهؤلاء كانوا.... طفيليين يعيشون على إنتاجية مصر. والسبب الثالث الذي انتهي بالمملكة إلى السقوط هو الشك المتزايد، ومن ثم التململ الذي يعم عامة الشعب. فإن التباين الطبقي بين الغالبية التي لا امتيازات لها و'المؤسسة' صاحبة الامتيازات في عصر المملكة القديمة كان أكبر مما كان عليه الحال في عصر المدن ndash; الدول' (هنا تماثل في الفقر الذي حل بالجماهير، وعدم العدالة في توزيع الدخل، وتكاثر الفئات الطفيلية وغير المنتجة ورجال الدين)
bull; وشهدت الأسرة السادسة انحطاطاً انتهى بالسقوط. وبيبي الثاني الذي لم يكن آخر فرعون من الأسرة السادسة وحسب بل آخر فرعون في المملكة القديمة ذاتها، حكم مصر مدة أطول من أي ملك حفظت لنا القيود سني حكمه، فقد تولى العرش أربع وتسعين سنة، تولى العرش طفلاً. وعاش ليرى بأم عينيه التفسخ يتسارع في الدولة'.
bull; 'فصورة الثورة المصرية التي تركت طابعها على ذاكرة الشعب كانت انطباعاً يمثل ثورة عارمة اختلت فيها الموازين وانقلبت الأدوار. فقد نهب الفقراء الأغنياء، وأصبح السادة السابقون عبيداً لعبيدهم السابقين. وتخلى القوم عن خدمة الطقوس الجنائزية الفرعونية القديمة. فالطقوس والفراعنة والأهرام والهياكل وكل ما عرفته المملكة القديمة من الأجهزة الفرعونية ثقيلة العبء، شوهت سمعته وسخر منه ورفض. هذه هي أقدم ثورة اجتماعية شاملة نملك قيوداً عنها'.
نذهب إلى مؤرخ المصريات الشهير جيمس هنري برستد وكتابه 'تاريخ مصر من أقدم العصور وإلى العصر الفارسي' (الألف كتاب الثاني 268- ترجمة حسن كمال- الهيئة المصرية العامة للكتاب)، لنجده يقول عن نفس تلك الفترة:
bull; 'لمناسبة جلوس بيبي الثاني على العرش في طفولته كانت مدة حكمه طويلة فقد قال مانيتو أن هذا الملك تولى في السنة السادسة وعاش مائة سنة.... وعليه فحكم هذا الملك أطول الأحكام في التاريخ.... والثابت أن الحوادث التي حصلت بعد وفاة بيبي الثاني ماتزال غامضة تصعب علينا معرفتها.... وهكذا بعدما حكمت القطر حكومة نظامية لمدة تزيد على ألف سنة رجعت الحال إلى أصلها من الفوضى وعدم النظام'
'لما سقطت الأسرة السادسة تفككت عرى الحكومة وعمت الفوضى البلاد وساد فيها التلف وكثر الخراب. أما الأشخاص المسئولين عن هذا الانقلاب العظيم فلم نهتد إليهم للآن ولكننا نظن أنهم كانوا معادين لملوك الدولة القديمة، لأنهم نهبوا المعابد وخربوا الهياكل والمقابر والنقوش والرسوم البديعة بنظام وتدبير وحطموا التماثيل الجرانيتية الجميلة والصوانية وألقوا بعضها في الآبار كما ثبت بما وجد ببئر المعبد المقام على الطريق الموصل لهرم الجيزة الثاني. ولذلك استدللنا أن أعداء الدولة القديمة صبوا غضبهم على كل من له علاقة بأعدائهم حتى حل بالأمة الدمار والخراب' (نلاحظ هنا معاداة المخربين قديماً وحديثاً للفنون والحضارة، كذا لدهم في العداء، ولجوءهم للتخريب)

الآن هل نستطيع أن نكتشف أيضاً المزيد من الملامح والعلاقات بين ما ساد مصر في مرحلة ما قبل الاضمحلال، وبين ما هو سائد فيها الآن؟
هل نستطيع أن نخرج بقدر ولو محدود من التماثل بين المراحل الثلاث التي قسمنا إليها نصف القرن المنصرم من تاريخ مصر، وبين تاريخ الأسر الرابعة والخامسة والسادسة من المملكة المصرية القديمة؟
هل من المنطقي أن نلحظ التعاقب في المرحلتين (اللتين يفصل بينهما أربعة آلاف عام) لأنماط الاستبداد السياسي ثم سيطرة رجال الدين ثم الحكم المتراخي وتسجيل الحاكم للرقم القياسي لاستمراره على كرسي الحكم؟
[email protected]

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه