(المدينة المنقسمة على نفسها، لا يمكن أن يحميها سور) المؤرخ الإغريقي توكيديس

بين التنمية والتخلف في الفعاليات، تتبدى إشكالية العلاقة القائمة بين ثنائية العاصمة والإقليم. ومهما قيل عن الاستقلالية في الأداء، فإن فائض القيمة التي يحضر كمرتكز أساس في العلاقات الاقتصادية، يجعل من تلك العواصم الوطنية واقعة في إسار المجمل من الفعاليات والعلاقات التي تفرضها عليها العواصم المركزية، إن كان على صعيد النقد الدولي أم التبادل أم التباين في المهارات والخبرات والكفاءات والمنجزات. إنه التطور المشروط بواقع مدى العلاقة التي يتم صوغها مع المراكز الرئيسة، حتى لتتبدى مركزيات من نوع (رئيسة وتابعة) ومن هذا فإن الأقاليم التابعة للمركز التابع.
يتوقف هنري لورنس في كتابه (المملكة المستحيلة) عند تجربة محمد علي باشا التحديثية، حيث الترصد للمجمل من التحولات الاجتماعية والاقتصادي والسياسية التي طرأت مصر، وحالة التبدل في الأوضاع والأحوال، حيث التركيز على تأسيس السلطة المستقلة عن السلطان العثماني التي عنت على والي مصر، فيما كان التطلع نحو إنشاء سلالته الخاصة في الحكم.إنها التوزيعات الوظيفية التي راحت تعمل على تقسيم المهام، وفق منطق السلطة، حيث الأتراك الذين اضطلعوا بمهمة الحرب، والأقباط بالمهام المالية، والأرمن بالدبلوماسية، والفلاحون بالزراعة وشؤون الدين(ص 52). إنه الحرص على توطين القبائل البدوية وإدماجهم في المجتمع الفلاحي، وتوجه الدولة نحو استملاك الأراضي الزراعية والاحتكار للمجمل من الفعاليات الاقتصادية. إنه التمدن الذي فسح المجال أمام تسلل الخبراء الأوربيين في صميم بنية الدولة، وسيطرتهم على المرافق الأساسية، وهو التزامن مع الترجمة الأولى لمفردة (الحضارة)، التي وضعها بوغوص نوبار في السابع عشر من فبراير 1821 في الرسالة التي بعثها إلى الرحالة الفرنسي الكونت دو مارسيلوس.(ص 57) إنه التمدين لمصر الذي تسعى إليه فرنسا من أجل تعزيز مصالحها، بحسب ما أشار إليه مترنيخ (ص 61).
كيف يمكن ترصد العلاقة بين المراكز الطرفية والمراكز العالمية، سؤال يتوقف عنده جوندر فرانك مليا، حيث الإشارة إلى تجربة بعض بلدان أمريكا اللاتينية، تلك التي نمت صناعاتها خلال الضعف والوهن الذي نال من المراكز العالمية، فقد حظيت تشيلي بتنمية واضحة خلال تعرض اقتصاديا أوربا إلى الركود خلال القرن السابع عشر. أو أثر العزلة الجغرافية والاقتصادية في تفعيل النشاط الاقتصادي، وهذا ما تبدى خلال نهاية القرن الثامن عشر ومستهل القرن التاسع عشر في العديد من مدن الأرجنتين و باراغواي، ومدى النشاط الذاتي فيها، قبل أن يتم دمجها في فعاليات النشاط الرأسمالي و تحولها إلى مجرد توابع. (روبيرتس، من الحداثة إلى العولمة، ج 1 ص 251).
التجارة والاستثمار
يترصد جوندر فرانك خمس أزمات كبرى في تاريخ الاقتصاد الرأسمالي الأوربي، ممثلة في؛ (أزمة الاقتصاد الأسباني خلال القرن السابع عشر، الحروب النابليونية، الحرب العالمية الأولى، أزمة 1929-1933 والكساد الاقتصادي العالمي، الحرب العالمية الثانية)، ومدى الأثر الذي خلفته على اقتصاديات بلدان الأطراف، حيث الانتعاش الذي تبدى واضحا على اقتصاديات الأرجنتين والبرازيل والمكسيك، باعتبار الاستقلالية في الاستثمار والتجارة الذي نالته تلك البلدان خلال تلك الأزمات، لكن هذا الواقع سرعان ما يتعرض للتبدل بعد أن نهاية تلك الأزمات، حيث العودة إلى حالة الدمج التجاري والاستثماري والعودة إلى حالة التبعية التي كانت ترزح تحتها.
فقدت الأطراف قدرتها على مواصلة مشاريع التنمية فيها، باعتبار تعرض اقتصادياتها إلى التضخم والخلل في ميزان المدفوعات فيما راح مجال التكريس للتبعية يتبدى من خلال:
1. ممارسة الرأسمالية الوطنية للدور الاحتكاري، والعمل على تعزيز مصالحها الذاتية.
2. عجز الصناعة المحلية عن منافسة البضاعة الأجنبية، على صعيد النوع أو الأسعار.
3. العلم على تركيز الناتج الزراعي نحو خدمة المحاصيل النقدية، المتوجهة نحو خدمة السوق العالمية، على حساب التنمية الزراعية الوطنية.
4. بروز حالة التفاوت الطبقي، وانحسار دور الطبقة الوسطى في العملية الاقتصادية.
5. تنامي حالة الاختلال السياسي والاجتماعي، باعتبار الخلل الفاضح في التنمية، ما ينجم عنه من تفاقم الأوضاع الداخلية.
تفكيك الروابط
يمكن تلمس حالة التخلف التي ترزح تحت ظلها مراكز الإنتاج الطرفية والتابعة للإنتاج الرأسمالي المركزي، حيث التركيز على إنتاج المحاصيل النقدية من سكر وبن وحبوب وقطن والمناجم، والواقع أن المركز سرعان ما يعلن تخليه عن تلك المناطق، بمجرد تراجع قابليتها على الإنتاج، ومن هذا تتبدى ملامح التخلف المريع على تلك المناطق، هذا بحسب حالة الانعزال الذي راحت تعاني منه تلك المناطق. فقد تكرست جل العلاقات فيها نحو خدمة اقتصاديات التصدير، و حين حل التراجع فقدت تلك المناطق قدرتها على المبادرة الاقتصادية، ولم يعد أمامها سوى العزلة والاندراج في التخلف.

هوامش:
1. تيمونز روبيرتس، من الحداثة إلى العولمة، ترجمة سمر الشيشكلي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2004، ج 1، ص 251.
2. هنري لورنس، المملكة المستحيلة، ترجمة بشير السباعي، سينا للنشر، القاهرة 1997، ص ص 50-63.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية