مصر وعصور الاضمحلال (2)

مصر وعصور الاضمحلال (1)

في هذا الجزء من رحلتنا عبر التاريخ المصري؛ مستطلعين ملامح وظروف عصور الاضمحلال المصرية السالفة، علنا نخرج منها ببعض التشابهات أو التناظرات لأحوال البلاد الراهنة، قد تفيد في العبرة إن كان لنا أن نعتبر، نصاحب مؤرخ المصريات جيمس هنري بريستد، في كتابه 'تاريخ مصر من أقدم العصور إلى العصر الفارسي' (الهيئة المصرية العامة للكتاب ndash; الألف كتاب الثاني ndash; العدد 268)، ونتركه يتحدث إلينا في الفصل الرابع والعشرين، عن بدايات الاضمحلال الذي أفضى إلى نهاية الحقبة الفرعونية، وما أعقبها من الغزو الأشوري ثم الفارسي واليوناني وهلم جرا من عصور احتلال مستديم لمصر، فنجد تحت عنوان 'سقوط الإمبراطورية':
'تبع رمسيس الثالث في الحكم تسعة ملوك ضعاف، سموا كلهم باسم رمسيس الكبير، لكنهم لم يستحقوا هذا الاسم العظيم، وقد أخذت سلطة هؤلاء الملوك تقل بسرعة، فبلغت الحضيض في مدة يسيرة. نعم إن نجل رمسيس الثالث وهو رمسيس الرابع اجتهد في مكافحة الظروف السيئة التي أحاطت به بعد وفاة والده حوالي عام 1167 قبل الميلاد، لكنه لم يفلح في مسعاه. والمعروف عن هذا الملك أنه بمجرد جلوسه على العرش المصري دون جميع أعمال والده في الدنيا في درج بردي، مستعطفاً بذلك الآلهة لأجل والده..... فالدعوات الكثيرة الواردة بالدرج البردي المذكور مقولة على لسان رمسيس الرابع لأجل والده تكفي لاستدرار رحمة المعبودات للوالد، وإطالة مدة حكم الابن كثيراً في مقابل هذا العمل الخيري، ولا يبعد أبداً أن يكون السبب الأخير من أقوى العوامل لكتابة ذلك السجل العظيم، خصوصاً وأن فراعنة مصر وقتئذ كانت تتكل كثيراً على تأثير مثل هذه السجلات، أكثر من اتكالهم على أنفسهم.... ومما يثبت ما استنتجناه الدعوات التي نقشها رمسيس الرابع لأوزوريس بالعرابة في السنة الرابعة من حكمه وإليك ترجمتها: 'اجعلني (أيها المعبود) طويل الحكم بقدر ضعف حكم رمسيس الثاني المعبود العظيم. كيف لا وقد فقته في الأعمال والخيرات العظيمة لمعبدك، حيث قدمت لك القرابين والهدايا المختلفة كل يوم، فأصبحت الهدايا التي قدمتها لك في السنوات الأربع من حكمي أكثر من التي قدمها رمسيس الثاني المعبود العظيم في مدة حكمه البالغ سبعاً وستين سنة'.
بهذه الطريقة تمكن الكهنة من ابتزاز ما رغبوه من الفراعنة، مؤكدين لهم في الوقت نفسه أن معبودهم سيهب لهم حكماً طويلاً، وأن المعبودات ستشملهم برعايتها.
أما الحميَّة التي تولدت في نفوس المصريين إثر غزو الهكسوس، فقد انعدمت، بل صارت في خبر كان، واستعيض عنها بعقائد فاسدة دينية وسحرية، وهكذا تغلب الجهل والضعف على الحكم والروية. ومن ذلك الوقت سارت سفينة السياسة المصرية في طريق أعوج خطير يفضي إلى الدمار، لأن السلطة التنفيذية أخذت تخضع تدريجياً للسلطة الدينية، فلم تعد هناك صعوبة على رئيس كهنة آمون أن يغتصب الملك وينفرد بالحكم إذا سنحت له الفرص..... وكل ما وصلنا عن أخبار تلك العصور يشير إلى اضمحلال عام بكيان الدولة..... ولا يخفى أنه في عهد الرئيسين (لكهنة آمون) أمنحتب ورمسيس نخت تولى عرش مصر ستة رعامسة ضعاف لم يستمروا طويلاً، وكان همهم المحافظة على مركزهم. وزادت ثروة أمنحتب رئيس الكهنة في تلك المدة كثيراً..... واستعمل أمنحتب فرعون مصر آلة لجمع الخيرات والهدايا، ففي السنة التاسعة من حكم رمسيس التاسع دعا جلالته أمنحتب هذا إلى الساحة الكبرى الأصلية بمعبد آمون بطيبة، فحضر هذا الكاهن مصحوباً بأعوانه وأقرانه، وتسلم من مليكه هدايا عظيمة، من أوان ذهبية وفضية وحلي وأدهان ثمينة، قدمها إليه صف طويل من الجنود الملكية. قارن ذلك بتلك الأيام التي كانت تقدم فيها أمثال هذه الهدايا مكافأة على الإقدام والشجاعة في الحروب السورية، وهكذا انقلبت الحال فأصبحت هذه الهدايا تعطى للكهنة، لضمان سلامة العرش المصري وإطالة الحكم الفرعوني. والأغرب من هذا ما قاله رمسيس التاسع إلى أمنحتب وقت إغداقه بالهدايا، فقد خاطبه بصيغة كلامية لا تقال إلا من شخص وضيع إلى سيد كبير. وأخبر الملك رئيس كهنته أن هناك أموالاً تجمعها الخزينة الملكية لتدفعها إلى معبد آمون، فيجب من الآن فصاعداً أن تورد مباشرة إلى خزانة آمون، بدلاً من توريدها أولاً إلى خزانة الدولة. وهذه العبارة في الحقيقة غامضة، لكن يفهم من مضمونها أن جلالته سمح لكتبة معبد آمون أن يجبوا أموال المعبد بأنفسهم بدون تدخل الحكومة، وبعبارة أخرى أن جلالته سمح لنفوذ كهنة آمون بأن يمتد إلى بعض شئون الدولة.
وسجل أمنحتب المذكور هذه الإنعامات الملكية السابقة مرتين على جدر الكرنك، وزاد عليها ما شيده من العمارات، وشمل هذه النقوش برسوم بارزة تمثله بحجم كبير كالملك الذي ينعم عليه بالهدايا والهبات. ويعتبر هذا أول رسم من نوعه في التاريخ المصري القديم، إذ لم يسبق لأي موظف مصري أن يمثل بهذه الكيفية، لأن العادة المتبعة من قديم الزمان أن أفراد الرعية يرسمون دائماً صغار الحجم بالنسبة لفراعنتهم، أما الآن فقد ساوى نفوذ أمنحتب نفوذ الملك دينياً وسياسياً، ولذلك رسم مساوياً له حجماً. ومعلوم أن رئيس كهنة آمون كان له جنود خاصة، فلما تدخل تدريجياً في المالية المصرية وصار له نفوذ عليها، تجاسر على مقارنة نفسه بالملك..... يتضح من ذلك أن رئيس كهنة آمون وضع يده على كل الأمور الإدارية والدينية تقريباً، ولم يبق أمامه شيء يستحق الذكر، لأنه أصبح الآن قائداً لقوات مصر، ووالياً على كوش ورئيساً للخزانة، ومشرفاً على عمارات المعبودات. وبعد مضي سبع وعشرون سنة على حكم رمسيس الثاني عشر الاسمي كان كل شيء تقريباً ناضجاً لتسلم حريحور رئيس كهنة آمون تاج العرش المصري، ففي إحدى الحفلات الدينية اعترف المعبود خونسو بتوليه حريحور ملكاً على مصر، ثم أيده في ذلك آمون، فأصبح ذلك القرار أمراً واقعياً..... وبالنسبة لبسط نفوذ الكهنة على جميع أنحاء القطر نشأت منازعات ومشاكسات داخلية، نجم عنها انقسام القطر وانحلاله، وقد بدأ التغير منذ عهد نسوبانبدد وحريحور في أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد، واستمر نحو أربعمائة وخمسين سنة..... فلما تولى حريحور الحكم تدخل هذا المعبود في أمور الدولة بشدة، لدرجة تحتم أخذ رأيه في كل شئون المملكة، فالأمر الذي يوافق عليه آمون كان يحرك له رأس تمثاله إلى الأمام بقوة، ويشفع ذلك بالنطق الإلهي، وزاد تدخل آمون فصارت وصايا ومواريث أفراد الأسرة لرؤساء كهنة آمون تسجل بناء على طلب هذا المعبود، وبهذه الكيفية اصطبغت الأمور الأهلية بالصبغة الدينية.
ثم اتسع الخرق فأصبح آمون يصدر أمره بإرجاع المعتقلين السياسيين إلى وطنهم، ويفصل في الجنايات ويحكم بالإعدام على المجرمين. من ذلك أن موظفاً بأحد المعابد اتهم بتبديد أموال معبده، فحوكم أمام آمون، ودون الحكم في سجلات ذكر بأحدها أن الموظف مذنب، وكتب في آخر أنه بريء، وترك الأمر للمعبود، فأصدر حكمه بتناول السجل الوارد فيه براءة المتهم، وبذا برئت ساحة الموظف. والسبب أن رئيس الكهنة كانت له مصلحة في الأمر، فدبر هذا التدبير. من ذلك يتضح أن رئيس كهنة آمون حكم البلاد بالشعوذة، بلا اعتبار للعدل والقانون، مستنداً في تنفيذ أوامره إلى مساعدة آمون.' انتهى.
إلى هنا نترك الأخذ عن جيمس هنري بريستد، لكن لن تتركنا الأسئلة التي فجرها في الرؤوس تأريخه لبداية اضمحلال الإمبراطورية المصرية العظيمة، وربما تساءل البعض مثلي متعجبين، إن كان ما أورده بريستد يخص مصر في نهايات الألف الثانية قبل الميلاد، أم هو يكاد يصف ما يحدث فيها في بداية القرن الواحد والعشرين؟!!
حقيقة هناك فارق بما لا يقاس بين ديانات وآلهة مصر القديمة، وبين الديانات السائدة حالياً، والتي تعبد الإله الواحد، لكننا لن نجد مبرراً لأن نقول أن رجال السياسة ورجال الدين في ذلك العصر البالغ القدم، يختلفون جذرياً عن رجال السياسة والدين في عصر الاضمحلال المصري الراهن هذا.
وإذا تركنا الرجال وتحدثنا عن العلاقات، سنجد لدينا ما يبرر القول بربط التقهقر والاضمحلال بالتداخل بين السياسة والدين، وفي تخلي الدولة عن سلطتها المدنية لرجال الدين، وما يصاحب هذا الانتقال للسلطة من انتقال للمسئولية، فالحاكم السياسي سواء كان مستبداً أم عادلاً هو مسئول في النهاية أمام شعبه، ومسئول عن توفير الحياة الكريمة له، فهذا هو معيار تقييم الحاكم السياسي، بغض النظر عن درجة التزامه الفعلي بالقيام بمهامه، أما الحاكم الديني فهو مسئول فقط أمام الإله، ومهمته الأساسية هي إرضاء الإله، وتأتي مسألة إرضاء الناس على أحسن الفروض كأمر ثانوي.
أظن أن النص الذي أوردناه لبريستد جدير بالكثير من التأمل، وهو ما نفضل تركه للقارئ يستخلص منه ما يشاء، وإذا كنا نقول أن 'المرء لا يلدغ من جحر مرتين'، فربما أجد من يوافقني أن المتصفح لتاريخ مصر لابد وأن يخرج بنتيجة، هي أن المصريين لم يلدغوا طوال تاريخهم إلا من جحر واحد، هو جحر هيمنة رجال الدين على شئونهم المدنية، وهو ما كان يتأتى نتيجة حرص الحكام المدنيين على البقاء على كراسيهم بأي ثمن، وعندما تتعفن الدولة وأجهزتها نتيجة عدم التغيير، ويبدأ فشل الإدارة يستدعي تململ الشارع، لا يجد الحاكم المصر على البقاء إلا أن يستعين برجال الدين - الحاضرين دائماً لهذه المهمة- ليقوموا بترويض الشعوب وإخضاعها باسم طاعة الإله، وليخرسوا كل صوت يرتفع بالاعتراض، باعتباره قد صار معترضاً على مشيئة الإله وتعاليمه، ومن هنا نستطيع أن نرى طبيعة مزايدة نظامنا الحاكم الحالي على التيارات الدينية الراديكالية، باعتبارها استمرار لتلك اللعبة القديمة، وقطع الطريق على من يحاولون تغيير قواعد اللعبة، بأن يستخدموا الدين ليقفزوا هم على السلطة سريعاً، دون أن ينتظروا أن تسقط من تلقاء نفسها بين أيديهم!!
[email protected]

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه